بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة الكرام مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي(وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
تذكير الأخيار أن قبول الاعتذار من شيم الكبار
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ تقوية أواصل المحبة بين المسلمين وتعزيز روابط الألفة والإخاء والحث على اجتناب كل سبب يؤدي إلى نشر العداوة فيما بينهم والشحناء لهو من أهم مقاصد الدين، يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- :"وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هيِّنًا ليِّنًا بالقول وبالفعل؛ لأنَّ هذا مما يُوجب المودَّة والأُلْفَة بين الناس، وهذه الأُلْفَة والمودَّة أمرٌ مطلوبٌ للشَّرع، ولهذا نهى النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام عن كل ما يُوجب العداوة والبغضاء".شرح رياض الصالحين(2/544)
ولذا أمرنا ديننا الكريم ببذل كل الأسباب التي تساهم في تحقيق هذا المقصد العظيم والهدف القويم، ومن ذلك أيها الأفاضل أنه حثنا على التحلي بخصلة كريمة وصفة جليلة ألا وهي العفو،وهو :"التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه".لسان العرب لابن منظور (15/72)
بل لأجل دفع المسلم وترغيبه بهذا الخلق الجميل والأدب النبيل،وَعَد العزيز القدير من تحلى به بالأجر الكبير و الخير الكثير ، حيث قال جل وعلا:(فمن عفا وأصلح فأجره على الله) [ الشورى: 40].
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:" أي : يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا ، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته،فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يُهيج على العفو،وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فليعف عنهم،وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم،فإن الجزاء من جنس العمل ".تفسير السعدي ( ص 760)
وهذه الخصلة الكريمة لا ينالها ولا يتحلى بها أيها الأحبة الكرام إلا من وطَّن نفسه وعودها على قبول عذر من أخطأ في حقه من الأنام، يقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :" فالواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه لجرمٍ مضى، أو لتقصيرٍ سبق أن يَقبل عذره ويجعله كمن لم يُذنب".روضة العقلاء (ص183)
فأصحابها هم النُجباء وبين الناس هم العُقلاء، حيث عرفوا أن السعادة والطمأنينة الحقيقية هي في العفو و الصفح عمن أخطأ في حقهم من البريَّة، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-:"وفي الصفح والعفو والحلم:من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام:ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام". مدارج السالكين (2/319)
وأن الخير ليس دائما في تقديم العقاب والزجر وإنما هو في العفو وإيثار قبول العذر، وهذا ما يرفع العبد بين الناس وعند العزيز المقتدر، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال:قال رسول صلى الله عليه وسلم:"ما زَادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إلا عِزًّا ". رواه مسلم(2588)
يقول الإمام النووي –رحمه الله-:" فيه وجهان أحدهما: أنه على ظاهره، وأن من عُرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزه وإكرامه.
والثاني: أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك".الشرح على صحيح مسلم (16/141)
ويعلمون أيضا جيدا أن قبول اعتذار الآخرين من أخلاق أهل الكرام المتواضعين الذين يحبهم رب العالمين، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يُوجب عليك قبول معذرته حقا كانت أو باطلا، وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو، فلما قَدِم جاءوا يعتذرون إليه فقبل أعذارهم، ووكَّل سرائرهم إلى الله تعالى ".مدارج السالكين ( 2/ 337)
إن أولى من ينبغي أن يتحلى بهذا الخلق الكريم والأدب القويم أيها الأحبة الكرام، هو من يحث الناس على العمل بتعاليم الإسلام ويسعى في الإصلاح بين الأنام، يقول الإمام الحسن البصري-رحمه الله- :" الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل". جامع بيان العلم وفضله (2/10)
لأنهم عند الناس هم القدوة وفي نظرهم الأسوة،يقول الخطيب البغدادي – رحمه الله-:"والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدبًا، وأشدَّ الخلق تواضعا، وأعظمهم نزاهةً وتدينًا، وأقلهم طيشًا وغضبًا، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابه وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها ويَصدفوا عن أرذلها وأدونها ".الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 78)
ونذكر كذلك في هذا المقام أن على من قصر أو أذنب في حق إخوانه أن يُبادر إليهم بطلب العفو والاعتذار، لأنَّ هذه هي طريقة الأخيار ومنهج أهل الفضل الكبار، وسيقوى بذلك بينه وبينهم رباط المحبة والأخوة وسيسدُّ كل ما قد يحصل بين إخوانه من نُفرةٍ وفجوة، وسيحمي نفسه كذلك من داء خطير ومرض عسير ألا وهو العجب ، يقول ابن حبان – رحمه الله- :" لو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي التعجب عَن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل أن لا يفارقه الاعتذار عند كل زلة ". روضة العقلاء (ص 186)
فبعد أن عرفنا أيها الأحبة الكرام فضل هذه الخصلة الحميدة والصفة الرفيعة، وأنها من شيم أصحاب النفوس الزكية و الطريقة المرضية، فما أجمل أن نساهم جميعا في نشرها بين المسلمين، وأن نكون ممن يقبل عذر من أساء إليه من الآخرين لتسود المحبة و الأخوة وكل أنواع الخير، ولنقضي بإذن العزيز المقتدر على الحقد و الحسد والبغض وكل طرق الشر .
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُوفقنا وإياكم لكل ما فيه فلاح ونجاح في الدارين، و أن يُجنبنا جميعا كل ما يؤدي إلى الحرمان و الخسران فهو سبحانه ولي ذلك والعزيز الرحمن.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك