مشروعية العقيقة
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: ((تُسنُّ العقيقة، أي: الذبيحة عن المولود في حقِّ أبٍ، ولو معسِرًا ويقترض...)) إلى آخره[1].
قال في ((الإفصاح)): ((واتفقوا على أن العقيقة مشروعة[2] إلا أبا حنيفة[3] فإنه قال: هي غير مشروعة، ثم اختلفوا في وجوبها:
فقال مالك[4] والشافعي[5]: هي غير واجبة.
وعن أحمد روايتان إحداهما[6]: هي واجبة، واختارها عبدالعزيز في ((التنبيه)) وأبو إسحاق البرمكي، والأخرى[7]: هي مشروعة، وهي المشهورة عند أصحابه.
والعقيقة في اللغة: أن يحلق عن الغلام أو الجارية شعرهما الذي وُلِدا بهما، ويقال لذلك: عقيقة، وإنما سُمِّيت الشاةُ عقيقةً، لأنها تُذبح في اليوم السابع، وهو اليوم الذي يُعق فيه شعر الغلام الذي ولد [فيه] وهو عليه. أي: يُحلق.
وقال الفقهاء: هي في الشرع عبارة عن الذبح عن المولود.
ثم اختلفوا في مقدار ما يُذبح:
فقال الشافعي[8] وأحمد[9]: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة.
وقال مالك[10]: شاة عن الذَّكر، وشاة عن الأنثى من غير تمييز بينهما.
واتفقوا على أن الذبح يكون يوم السابع من الولادة[11] وسبيلها في السِّنِّ، والجنس، واتقاء العيب، ووقت الذبح[12]، والأكل، سبيل الأضحية على ما بيَّنا من اتفاقهم واختلافهم، إلا أن الشافعي[13] وأحمد[14] اتَّفقا على أنه لا يُستحبُّ كَسْر عِظامها، بل يطبخ أجدالاً.
قال الوزير يحيى بن محمد: وأرى ذلك تفاؤلاً بسلامة المولود.
وقال مالك[15]: ليس فعل ذلك بمُستَحبٍّ ولا بممنوع منه، ولا بأس به))[16].
وقال ابن رشد: ((والقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة أبواب:
الأول: في معرفة حكمها.
الثاني: في معرفة محلها.
الثالث: في معرفة من يعق عنه وكم يُعَقُ.
الرابع: في معرفة وقت هذا النسك.
الخامس: سِن هذا النسك وصفته.
السادس: حكم لحمها وسائر أجزائها...
إلى أن قال: وأما من يُعَقُ عنه فإن جمهورهم[17] على أنه يُعق عن الذَّكر والأنثى الصغيرين فقط، وشذَّ الحسن فقال: لا يُعق عن الجارية[18]. وأجاز بعضهم[19] أن يُعق عن الكبير.
ودليل الجمهور على تعلُّقها بالصغير قوله عليه الصلاة والسلام: (يوم سابعه)[20].
ودليل من خالف: ما رُوي عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام عقَّ عن نفسِه بعدما بُعث بالنبوة[21].
ودليلهم أيضًا على تعلُّقها بالأنثى: قوله عليه الصلاة والسلام: (عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان)[22].
ودليل من اقتصر بها على الذَّكر قوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتَهن بعقيقته)[23].
وأما وقت هذا النُّسُك فإن جمهور العلماء على أنه يومُ سابعِ المولودِ[24]، ومالك[25] لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارًا، وعبدالملك بن الماجشون[26] يحتسب به. وقال ابن القاسم[27] في ((العُتْبيَّة)): إن عق ليلاً لم يجزه.
واختلف أصحاب مالك[28] في مبدأ وقت الإجزاء:
فقيل: وقت الضحايا - أعني: ضُحىً - وقيل: بعد الفجر قياسًا على قول مالك في الهدايا، ولاشك أن من أجاز الضحايا ليلاً أجاز هذه ليلاً، وقد قيل: يجوز في السابع الثاني والثالث.
وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها: فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع.
وجميع العلماء[29] على أنه كان يُدمى رأس الطفل في الجاهلية بدمها، وأنه نُسخ في الإسلام، وذلك لحديث بُريدة الأسلمي: قال: كُنَّا في الجاهلية إذا وُلِدَ لأحدنا غلام ذبح له شاة ولَطَخَ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح ونحلق رأسَه، ونَلْطَخَهُ بزعفران[30].
وشَذَّ الحسنُ وقتادةُ فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غُمست في الدم، واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل))[31] انتهى ملخَّصًا.
وقال البخاري: ((كتاب: العقيقة، باب: تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه.
وذكر حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: وُلِدَ لي غلام فأتيتُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيم فحنَّكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفعه إليَّ، وكان أكبر ولد أبي موسى[32].
وذكر حديث عائشة وأسماء وأنس رضي الله عنهم[33])).
قال الحافظ: ((ويُستفاد من قوله: (وإن لم يُعقَّ عنه) الإشارة إلى أن العقيقة لا تجب.
قال الشافعي[34]: أفرط فيها رجلان، قال أحدهما: هي بدعة، والآخر قال: واجبة...
إلى أن قال: ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث:
الأول: حديث أبي موسى، قوله: (فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيم وحنَّكه) فيه إشعار بأنه أسرع بإحضاره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن تحنيكه كان بعد تسميته، ففيه تعجيل تسمية المولود، ولا يُنتظر بها إلى السابع.
قال البيهقي: تسمية المولود حين يولد أصحُّ من الأحاديث في تسميته يوم السابع[35]))[36].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة.
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن سلمان بن عامر قال: (مع الغلام عقيقة). وقال حجاج: حدثنا حماد، أخبرنا أيوبُ وقتادةُ وهشامٌ وحبيب عن ابن سيرين، عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غير واحد: عن عاصم وهشام، عن حفصة بنت سيرين، عن الرَّباب، عن سلمان بن عامر الضبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه يزيد بن إبراهيم عن ابن سيرين، عن سَلمان، قولَه[37].
وقال أَصْبَغ: أخبرني ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين: حدثنا سَلمان بن عامر الضبِّي قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى).
حدثني عبدالله بن أبي الأسود، حدثنا قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسنَ ممن سَمِع حديثَ العقيقة، فسألته؟ فقال: من سَمُرَة بن جُنْدَب))[38].
قال الحافظ: ((قوله: (مع الغلام عقيقة): تمسَّك بمفهومه الحسنُ وقتادةُ فقالا: يُعقَّ عن الصبي، ولا يُعقُّ عن الجارية[39]. وخالفهم الجمهور[40] فقالوا: يُعق عن الجارية أيضًا، وحُجَّتهم: الأحاديث المصرِّحة بذِكْر الجارية.
قوله: (فأهريقوا عنه دمًا) كذا أبهم ما يُهراق في هذا الحديث، وفسَّر ذلك في عدة أحاديث منها: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة[41]...
إلى أن قال: وهذه الأحاديث حجّة للجمهور في التفرقة بين الغلام والجارية. وعن مالك[42]: هما سواء، فيعق عن كل واحد منهما شاة، واحتج له بما جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا)[43].
ولا حُجَّة فيه، فقد أخرجه أبو الشيخ من وجهٍ آخر عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ: (كبشين كبشين)[44].
وعلى تقدير ثبوت رواية أبي داود فليس في الحديث ما يرد به الأحاديث المتواردة في التنصيص على التثنية للغلام، بل غايته أن يدل على جواز الاقتصار، وهو كذلك، فإن العدد ليس شرطًا، بل مستحبٌّ...
إلى أن قال: وقوله: (يُذبح عنه يوم السابع) تمسَّك به من قال: إن العقيقة مؤقَّتة باليوم السابع، وأن من ذبح قبله لم يقع الموقع، وأنها تفوت بعده، وهو قول مالك[45].
وقال أيضًا[46]: إن مات قبل اليوم السابع سقطت العقيقة. وفي رواية ابن وهب عن مالك[47]: إن من لم يُعقَّ عنه في السابع الأول، عُقَّ عنه في السابع الثاني.
قال ابن وهب[48]: ولا بأس أن يُعقَّ عنه في السابع الثالث.
ونقل الترمذي عن أهل العلم أنهم يستحبُّون أن تذبح العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيَّأ فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيَّأ عُقَّ عنه يوم أحد وعشرين، ولم أرَ هذا صريحًا إلا عن أبي عبدالله البوشنجي[49].
ونَقَله صالح بن أحمد، عن أبيه[50].
وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم، عن أبيه، وإسماعيل ضعيف، وذكر الطبراني أنه تفرد به[51].
وعند الحنابلة في اعتبار الأسابيع بعد ذلك روايتان[52]، وعند الشافعية[53] أن ذكر الأسابيع للاختيار لا للتعيين، فذكر الرافعي أنه يدخل وقتها بالولادة، قال: وذكر السابع في الخبر بمعنى ألاّ تؤخَّر عنه اختيارًا، ثم قال: والاختيار ألاّ تؤخَّر عن البلوغ، فإن أُخِّرجت عن البلوغ سقطت عمَّن كان يريد أن يعق عنه، لكن إذا أراد أن يعق عن نفسه فعل...
إلى أن قال: وعند عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة: من لم يُعَقَّ عنه أجزأته أُضحيته[54]، ونصَّ مالك[55] على أنه يُعق عن اليتيم من ماله، ومَنَعَه الشافعية[56].
وقوله: (ويحلق رأسه) أي: جميعه لثبوت النهي عن القزع.
وفي حديث علي عند الترمذي والحاكم: (يا فاطمة، احْلِقي رأسَه وتصدَّقي بزِنة شعره). قال: فوزناه فكان درهمًا، أو بعض درهم[57])[58] انتهى ملخَّصًا.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك