بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هديه ... وبعد ،،،
فإنَّ مذهب شعبة بن الحجاج في قبول العنعنة في الأسانيد معروف قد سارت به الركبان، فقد روى قراد([1]) وأبو داود الطيالسي([2])، عن شعبة قال: «كل حديث ليس فيه: (حدثنا، وأخبرنا)، فهو خل وبقل». اهـ وروى مؤمل بن إسماعيل([3])، عن شعبة قال: «كل حديث ليس فيه: (حدثنا، وحدثنا)، فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام». اهـ
على أنَّ ابن عبد البر ذكر رجوع شعبة عن قوله هذا اشتباهًا في النقل، فقد ذكره عقب كلام لشعبة في مسألة أخرى لا علاقة لها بالعنعنة، وإنما دخل الوهم على ابن عبد البر تبعًا لألفاظ الرواية التي وقعت إليه. ومَن حَكَى رجوعَ شعبة عن مذهبه في العنعنة فإنما عزاه إلى ابن عبد البر، ولا يُعرف هذا عن غيره. قال ابن عبد البر([4]): «والإسناد المعنعن: (فلان، عن فلان، عن فلان، عن فلان). وقد حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن: حدثنا إبراهيم بن بكر: حدثنا محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافظ الموصلي قال: حدثنا ابن زاطيا قال: حدثنا أبو معمر، عن وكيع قال: قال شعبة: "(فلان عن فلان): ليس بحديث". قال وكيع: وقال سفيان: "هو حديث". قال أبو عمر: ثم إن شعبة انصرف عن هذا إلى قول سفيان». اهـ
وقد تبعه فيه ابن رشيد فقال([5]): «وقد بيَّن ذلك أبو عمر بن عبد البر بما حكاه مِن الإجماع بعد أن ذكر بإسناد عن وكيع قال: قال شعبة: "(فلان عن فلان): ليس بحديث". قال وكيع: وقال سفيان: "هو حديث". قال أبو عمر: "ثم إنَّ شعبة انصرف عن هذا إلى قول سفيان". قلت: وما نقله مسلم رحمه الله عن العلماء الذين سمَّى - ومِن جملتهم شعبة - مِن أنهم لا يتفقدون ذلك، يدلك أيضًا على رجوع شعبة كما ذكر أبو عمر. فقد بان أنه لا يُعلم لمتقدم فيه خلاف إذا جمع رواته العدالة واللقاء والبراءة مِن التدليس، وأنَّ شعبة رجع عن قوله». اهـ وكذا قال ابن رجب([6]): «ورُوي عن شعبة قال: "(فلان عن فلان): ليس بحديث". قال وكيع: وقال سفيان: "هو حديث". قال ابن عبد البر: "رجع شعبة إلى قول سفيان في هذا"». اهـ
على أنَّ كلام شعبة هنا ليس في مسألة العنعنة أصلاً، بل الصواب أنَّ الخلاف بينه وبين الثوري إنما هو فيما يصنعه بعض الرواة مِن ذِكْرهم طريقًا آخر للحديث عقب الطريق الأول فيذكرون إسناده ثم يقولون: «مثله» دون أن يذكروا المتن، هل يجزئ هذا أم لا يجزئ؟ فقد رواه عبد الله بن أحمد([7]) والبغوي([8])، عن عمرو الناقد قال: حدثنا وكيع قال: قال شعبة: «(فلان عن فلان مثله): لا يجزئ». قال وكيع: وقال سفيان الثوري: «يجزئ». ورواه محمود بن غيلان([9])، عن وكيع قال: قال شعبة: «(مثله): ليس بحديث». وقال سفيان: «(مثله): حديث». وقال عنه أيضًا([10]): قال سفيان: «إذا قال: (نحوه)، فهو حديث». وقال شعبة: «(نحوه): شك». ورواه قراد([11])، عن شعبة قال: «(فلان عن فلان مثله): ليس بحديث». وروى محمد بن حماد الطهراني([12])، عن عبد الرزاق قال: قال الثوري: «إذا كان (مثله) يعني حديثًا قد تقدم فقال: (مثل هذا الحديث الذي قد تقدم): فإن شئتَ فحدِّث بالمِثل على لفظ الأول». قال عبد الرزاق: «وكان شعبة لا يرى ذلك». اهـ ومعظم هذه النقول ذكرها الخطيب في الكفاية في باب: «ما جاء في المحدِّث يروي حديثًا، ثم يتبعه بإسناد آخر ويقول عند منتهى الإسناد: (مثله) يعني مثل الحديث المتقدم، هل يجوز أن يروى عنه الحديث الثاني مفردًا ويساق فيه لفظ الحديث الأول أم لا؟». اهـ
فتبيَّن أنَّ الرواية التي وقعت لابن عبد البر سقط منها لفظة «مثله» التي هي بيت القصيد، فحَمَلَ الكلام على غير محمله. فإن ثبت رجوع شعبة وموافقته للثوري كما ذكر ابن عبد البر، فالأشبه أن يكون ذلك الرجوع إنما هو في مسألتنا هذه أعني رواية الحديث الثاني على لفظ الحديث الأول، وليس في مسألة العنعنة. وكتب الأئمة طافحة بالنقول عن شعبة في تثبته مِن سماع شيوخه فمَن فوقهم بعضهم مِن بعض تدليسًا كان أو إرسالاً، حتى إنَّ قرادًا رَوَى عنه أنه قال([13]): «لو أتيتُ محدِّثًا عنده خمسة أحاديث، أصبتُ ثلاثة لم يسمعها!». اهـ وقال عمرو الناقد([14]): «قال ابن عيينة: "كان شعبة يعجبه مثل هذا". يعني: (أخبرني قال: أخبرني)». اهـ
هذا والله أعلى وأعلم
----------------------------------------
[1]- الجعديات للبغوي 30 والمحدث الفاصل للرامهرمزي ص517 والكامل لابن عدي 1/144 والكفاية للخطيب ص283.
[2]- الكفاية للخطيب ص 283.
[3]- المجروحين لابن حبان 1/31.
[4]- التمهيد لابن عبد البر 1/12.
[5]- السنن الأبين لابن رشيد ص50.
[6]- شرح علل الترمذي لابن رجب 2/587.
[7]- العلل لعبد الله بن أحمد 3026.
[8]- الجعديات للبغوي 32.
[9]- الكفاية للخطيب ص213.
[10]- نفس الموضع السابق.
[11]- نفس الموضع السابق.
[12]- الكفاية للخطيب ص212.
[13]- الكامل لابن عدي 1/222.
[14]- الجعديات للبغوي 36.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك