قصة قابيل وهابيل (1)
كرم جمعة عبدالعزيز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فيقول الله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 27 - 31].
"يقول تعالى مبيِّنًا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابنَي آدم لصُلْبه - في قول الجمهور - وهما هابيل وقابيل، كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغيًا عليه وحسدًا له، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلىالجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾؛ أيْ: واقصُص على هؤلاء البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم - خبرَ ابنَي آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكرَه غير واحدٍ من السلف والخلف، وقوله: ﴿ بِالْحَقِّ ﴾؛ أيْ: على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾ [آل عمران: 62]، وقال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ [الكهف: 13]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ [مريم: 34]، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحدٍ من السلف والخلف: أن الله تعالى قد شرع لآدم عليه السلام أن يزوِّج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا: كان يُولد له في كل بطْنٍ ذَكَرٌ وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لِذَكَرِ البطن الآخر، وكانت أختُ هابيل دميمةً، وأختُ قابيل وضيئةً، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يُقرِّبا قربانًا، فمن تُقبِّل منه فهي له، فقرَّبا فتُقبِّل من هابيل ولم يُتقبَّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصَّ الله في كتابه"[1].
﴿ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾، قال: ولِمَ؟ قال: لأن الله تعالى قَبِلَ قربانك وردَّ قرباني، وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختَك الدميمة، فيتحدث الناس أنك خيرٌ منِّي ويفتخر ولدُك على ولدي، قال هابيل: وما ذنبي؟ إنما يتقبَّل الله من المتقين.
﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 28 - 30].
﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ ﴾؛ أيْ: مددتَ ﴿ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾، قال عبدالله بن عمر: وايْمُ الله إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسط إلى أخيه يده، وهذا في الشرع جائزٌ لمن أُريدَ قتْلُه أن ينقاد ويستسلم؛ طلبًا للأجر، كما فعل عثمان رضي الله عنه، وقال مجاهدٌ: كُتب عليهم في ذلك الوقت إذا أراد رجلٌ قتل رجلٍ ألا يمتنع ويصبر.
﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ ﴾: ترجع، وقيل: تحمل، ﴿ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾؛ أيْ: بإثم قتْلي إلى إثمك؛ أي: إثم معاصيك التي عملتَ من قبل، هذا قول أكثر المفسرين، وروى ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ قال: معناه إني أريد أن تكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتَني وإثمك، فتبوء بخطيئتي ودمي جميعًا، وقيل: معناه أن ترجع بإثم قتْلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك، أو إثم حسدك"[2].
"قوله: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ﴾؛ أيْ: سهَّلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصوَّرت له أنَّ قتْل أخيه طوْع يده سهلٌ عليه، يُقال: تطوَّع الشيء؛ أيْ: سهُل وانقادَ، وطوَّعه فلانٌ له؛ أيْ: سهَّله.
قولُه: ﴿ فَقَتَلَهُ ﴾، قال ابن جريرٍ ومجاهدٌ وغيرهما: رُوي أنه جَهِل كيف يقتُل أخاه، فجاءه إبليسُ بطائرٍ أو حيوانٍ غيره، فجعل يشدَخُ رأسَه بين حجرين ليقتدي به قابيلُ، ففعل، وقيل غير ذلك، مما يحتاج إلى تصحيح الرواية، قوله: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾ قيل: إنه لما قتل أخاه لم يدرِ كيف يواريه؛ لكونه أوَّلَ ميتٍ مات من بني آدم، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه فحفر له، ثم حثا عليه، فلما رآه قابيل قال: ﴿ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ﴾، فواراه، والضمير المستكِنُّ في {ليريه} للغراب، وقيل: لله سبحانه، و(كيف) في محل نصبٍ على الحال من ضمير يواري، والجملة ثاني مفعولَيْ يريه، والمراد بالسوءة هنا: ذاته كلُّها؛ لكونها ميتة"[3] ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31].
[1] (تفسير ابن كثير) (3 /82).
[2] (تفسير البغوي) (2 / 39) (دار إحياء التراث).
[3] (فتح القدير) (2 / 37) (دار ابن كثير).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك