باب الإحرام
رمي الجمرات
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: ((ويرمي الجمرات أيام التشريق بعد الزوال فلا يجزئ قبله ولا ليلاً لغير سُقاة ورُعاة، فإن رَمَى حصى الجِمار السبعين كله في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأه، ويُرتِّبه بنية كالفوائت من الصلاة، فإن أخَّر الرمي عن ثالث أيام التشريق أو لم يبت بمِنىً فعليه دم. ولا مبيت على سُقاة ورُعاة...)) إلى آخره [1].
قال في ((الإفصاح)): ((واتفقوا على وجوب رمي الجِمار في أيام التشريق الثلاثة للجمرات الثلاث في كل يوم جمرة بسبع حصيات[2]، فيكون لكلِّ جمرة في الأيام الثلاثة إحدى وعشرون حصاة فجميع ما يرمى في أيام التشريق ثلاث وستون حصاة مثل حصى الخذف، يبتدئ بالأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم الثالثة، وهي جمرة العقبة))[3].
وقال أيضًا: ((وأجمعوا أن المبيت بمِنىً لياليها مشروع إلا في حق أهل السقاية والرعاء[4]، ثم اختلفوا في وجوبه:
فقال أحمد[5]: هو واجب، ويجب بتركه دم في أظهر الروايات عنه[6].
وفي الرواية الأخرى[7]: هو سنة، ولا دم عليه في تركه. وهو مذهب أبي حنيفة[8] واختاره عبدالعزيز.
والثالثة[9]: هو واجب وعليه بتركه دم.
وللشافعي قولان[10]، وقال مالك[11]: هو من سُنن الحجِّ التي في تركها الدم))[12].
وقال ابن رشد: ((واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة[13]، منها في يوم النَّحْر جمرة العقبة بسبع، وإن رَمَى هذه الجمرة من حيث تيسَّر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع، والموضع المختار منها بطن الوادي لما جاء في حديث ابن مسعود أنه اسْتَبْطَنَ الوادي. ثم قال: من هاهُنا - والذي لا إله غيره - رأيتُ الذي أُنزلت عليه سورة البقرة يرمي[14].
وأجمعوا على أنه يُعيدُ الرميَ إذا لم تقع الحصاة في العقبة[15]، وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جِمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع، وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفِر في الثالث؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 203].
وقَدْرُها عندهم: أن يكون في مثل حصى الخذف؛ لما رُوي من حديث جابر[16]، وابن عباس[17]، وغيرهم أن النبي عليه الصلاة والسلام رَمَى الجمار بمثل حصى الخذف.
والسُّنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو، وكذلك الثانية، ويطيل المقام، ثم يرمي الثالثة ولا يقف، لما روي في ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك في رميه[18]، والتكبير عندهم عن رمي كل جمرة حَسَنٌ؛ لأنه يُروى عنه عليه الصلاة السلام[19].
وأجمعوا على أن من سُنَّة رمي الجِمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون ذلك بعد الزوال[20]، واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق:
فقال جمهور العلماء[21]: من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال.
ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها.
وأجمعوا على أن من لم يرم الجِمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد[22].
واختفوا في الواجب من الكفَّارة:
فقال مالك[23]: إن من ترك رمي الجمار كلها، أو بعضها، أو واحدة منها؛ فعليه دم.
وقال أبو حنيفة[24]: إن ترك كلها كان عليه دم، وإن ترك جمرة واحدة فصاعدًا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ دمًا بترك الجميع إلا جمرة العقبة، فمن تركها فعليه دم.
وقال الشافعي[25]: عليه في الحصاة مُدٌّ من طعام، وفي حصاتين مُدَّان، وفي ثلاث دم.
وقال الثوري مثله؛ إلا أنه قال: في الرابعة الدم.
ورخَّصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة، ولم يروا فيها شيئًا.
والحُجَّة لهم: حديث سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّته فبعضنا يقول: رميت بسبعٍ، وبعضنا يقول: رميت بستٍّ، فلم يَعِبْ بعضُنا على بعض[26].
وقال أهل الظاهر[27]: لا شيء في ذلك.
والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج[28].
وقال عبدالملك من أصحاب مالك[29]: هي من أركان الحج))[30].
وقال البخاري: ((باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي مِنىً؟
وذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس رضي الله عنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي مِنىً من أجل سقايته فأذن له[31])).
قال الحافظ: ((مقصوده بالغير من كان له عُذر من مرض أو شغل كالحطَّابين والرعاء... إلى أن قال: وفي الحديث دليلٌ على وجوب المبيت بمِنىً، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرُّخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعِلَّة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور[32].
وفي قول للشافعي[33] ورواية عن أحمد[34] وهو مذهب الحنفية[35] أنه سُنَّة، ووجوب الدم بتركه مبنيٌّ على هذا الخلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل.
وهل يختص إذن بالسقاية وبالعباس أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم؟
فقيل: يختص الحكم بالعباس. وهو جمودٌ.
وقيل: يدخل معه آله.
وقيل: قومه، وهم بنو هاشم.
وقيل: كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك.
ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس، حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها.
ومنهم من عمَّمَهُ. وهو الصحيح في الموضعين.
والعِلَّة في ذلك: إعداد الماء للشاربين.
وهل يختص ذلك بالماء، أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟ محل احتمال، وجزم الشافعية[36] بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده بأهل السقاية، كما جزم الجمهور[37] بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد[38]، واختاره ابن المنذر[39] - أعني: الاختصاص بأهل السقاية والرعاء للإبل - والمعروف عن أحمد[40] اختصاص العباس بذلك، وعليه اقتصر صاحب ((المغني))[41].
وقال المالكية[42]: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء، قالوا: ومن ترك المبيت بغير عُذر وجب عليه دم عن كل ليلة.
وقال الشافعي[43]: عن كل ليلة إطعام مسكين.
وقيل عنه: التصدق بدرهم وعن الثلاث دم، وهي رواية عن أحمد[44].
والمشهور عنه[45]، وعن الحنفية[46]: لا شيء عليه))[47].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: رمي الجِمار.
وقال جابر: رَمَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النَّحْر ضُحىً، ورَمَى بعد ذلك بعد الزوال.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن وَبَرَة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رَمَى إمامك فارْمِهْ، فأعدت عليه المسألة قال: كنا نتحيَّن، فإذا زالت الشمس رمينا[48])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: رمي الجمار) أي: وقت رميها، أو حكم الرمي، وقد اختلف فيه:
فالجمهور على أنه واجب؛ يجبر تركه بدم.
وعند المالكية[49] سُنَّة مؤكَّدة فيجبر، وعندهم رواية[50] أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه، ومقابله: قول بعضهم: أنها إنما تشرع حفظًا للتكبير، فإن تركه وكبَّر أجزأه. حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها.
قوله: (فارمِهْ) بهاء ساكنة للسكت. وقوله: (إذا رَمَى إمامك فارمه) يعني: الأمير الذي على الحج. وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه ابن عيينة، عن مسعر بهذا الإسناد، فقال فيه: فقلت له: أرأيت إن أخَّر إمامي؟ - أي: الرمي - فذكر له الحديث، أخرجه ابن أبي عمر في ((مسنده)) عنه، ومن طريقه الإسماعيلي.
وفيه دليل على أن السُّنة أن يرمي الجِمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور[51]، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا. ورخَّص الحنفية[52] في الرمي في يوم النفر قبل الزوال.
وقال إسحاق: إن رَمَى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه))[53].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: رمي الجِمار من بطن الوادي.
حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبدالرحمن بن يزيد قال: رَمَى عبدالله في بطن الوادي، فقلت: يا أبا عبدالرحمن، إن ناسًا يرمونها من فوقها؟ فقال: والذي لا إله غيره، هذا مقام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.
وقال عبدالله بن الوليد: حدثنا سفيان، حدثنا الأعمش بهذا[54])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: رمي الجمار من بطن الوادي) كأنه أشار بذلك إلى رَدِّ ما رواه ابنُ أبي شيبة وغيره عن عطاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلو إذا رَمَى الجمرة[55]. لكن يمكن الجمع بين هذا وبين حديث الباب بأن التي تُرمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة؛ لكونها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخريين، ويوضح ذلك قوله في الطريق الآتية بلفظ: (حين رَمَى جمرة العقبة)[56]...
إلى أن قال: وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين بأربعة أشياء:
1- اختصاصها بيوم النحر.
2- وألاّ يوقف عندها.
3- وترمى ضُحىً.
4- ومن أسفلها استحبابًا))[57].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: رمي الجمار بسبع حصيات؛ ذكره ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر حديث ابن مسعود: أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره، ومِنىً عن يمينه، ورَمَى بسبع؛ وقال: هكذا رَمَى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم))[58].
قال الحافظ: ((أشار في الترجمة إلى رَدِّ ما رواه قتادة عن ابن عمر قال: ما أبالي رميتُ الجِمار بستٍّ أو سبع، وأن ابن عباس أنكر ذلك، وقتادة لم يسمع من ابن عمر. أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة[59].
وروي من طريق مجاهد: من رمى بست فلا شيء عليه.
ومن طريق طاوس: يتصدق بشيء[60].
وعن مالك[61] والأوزاعي: من رَمَى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم.
وعن الشافعية[62]: في ترك حصاة مُدٌّ، وفي ترك حصاتين مُدَّان، وفي ثلاثة فأكثر دم.
وعن الحنفية[63]: إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع، وإلا فدَمٌ.
قوله: (جعل البيت عن يساره ومِنىً عن يمينه) قال الحافظ: وبه قال الجمهور[64]، قال: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو يساره، أو من فوقها، أو من أسفلها، أو وسطها[65]))[66].
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك