مشروعية الأضحية
فرج بن عبدالعال
الأضحية:
بتشديد الياء هو ما يذبح من النعم تقربًا إلى الله يوم العيد وأيام التشريق.
قال النووي في المجموع[1] قال الجوهري: قال الأصمعي في الأضحية أربع لغات أضحية [بضم الهمزة] وأضحية [بكسرها] وجمعها أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها.
[والثالث] ضحية وجمعها ضحايا، والرابع أضحاه وجمعها أضحى، كأرطاة وأرطى وبها سمي يوم الأضحى.
ويقال: ضحى يضحي تضحية فهو مضح، وقيل: سميت بذلك لفعلها في الضحى.
وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه[2].
وفي الأضحى لغتان. التذكير لغة قيس.
والتأنيث لغة تميم.
ولابد أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام، والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها.
والأنعام هي الإبل والبقر والغنم سميت بذلك لِلِين مشيها.
مشروعيتها: لقد شرع الله الأضحية بقوله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾[3]، وبقوله عز وجل: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[4]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾[5]. قال ابن عطية في تفسيره[6] للآية الأولى: أمر بالصلاة على العموم، ففيه المكتوبات بشروطها، والنوافل على أثرها، والنحر نحر الهدي والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس فكأنه تعالى قال: ليكن شغلك هذين، وقال أنس بن مالك: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلى ثم ينحر.
قال محمد بن كعب القرظي: يقول: [إن ناسًا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله، وقد أعطيناك الكوثر فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله].
إنها فرحة عظيمة تغمر قلوب المؤمنين الموحدين حين ينصاعون لأمر ربهم اتباعًا لهدى نبيهم، ويتذكرون أمر الفداء الذي قال الله فيه: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[7]، فيحنو الغني على الفقير، ويتكاتف الجميع لإحياء هذه السنة المباركة حتى لا تموت كغيرها فيقوم على أنقاضها بدعة شركية تؤدي بالناس إلى الهلاك، فهيا أيها الموحدون ضحوا وطيبوا بها نفسًا.
فضلها: اعلم يرحمك الله أن كل قربة يتقرب بها العبد إلى ربه ينال أجرًا عظيمًا على فعلها من الكبير المتعال جل جلاله، وقد ورد في تفسير قوله تعالى[8]: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا ﴾[9] الآية. قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح، وإن بُولِغ فيه وتُنوهِي في ثمنه، وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾[10]، ونظير قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾[11].
وفي الضحايا فضل كثير، قال الله عز وجل: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾[12]، يعني ذخر الثواب. قال الشيخ ناصر السعدي -رحمه الله-[13]: وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من الأضاحي وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.
وعن عائشة قالت: يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسًا فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: [ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة] [14] وعنها أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: [ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من إهراقهِ[15] دمًا، وإنها لنأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم يقع من الله عز وجل بمكان [16] قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفسًا][17]، وفي الخبر: [لكم بكل صوفة من جلدها حسنة وكل قطرة من دمها حسنة، وإنها لتوضع في الميزان فأبشروا[18].
إن الله عز وجل قد عود عبادة الطائعين أن يجزل لهم العطاء، فلو أن أحدنا همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فما بالك وأنت تقدم هديًا لله عز وجل مقتديًا بنبيك - صلى الله عليه وسلم - متذكرًا يوم التضحية والفداء وما حدث مع أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فتعطف حينها على الفقراء وتوسع عليهم وعلى نفسك بهذه الأضحية فتجمع بين الخيرين خيري الدنيا والآخرة.
قال المناوي: إن ما يفعله العبد من خير وشر في هذه الدار له نتائج تظهر في دار البقاء لأنها محل الجزاء وجزاء كل إنسان بحسب عمله، وكل معروف أو منكر يجازى عليه من جنسه، وكل إنسان يحشر على ما كان عليه في الدنيا[19]. اهـ.
فليكن الجود والكرم من طبعك وإياك والبخل، فإنه داء عضال نسأل الله العافية.
حكمتها:
شرع الله عز وجل الأضحية إحياء لذكرى إبراهيم عليه السلام في قصته مع ولده إسماعيل، وكان إبراهيم قد رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل ورؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى، فأراد أن ينفذ ما رآه في الواقع فامتثل إسماعيل لأمر الله عز وجل وأطاع والده في تنفيـذ الأمر ففداه الله عز وجل ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[20]، وقص الله علينا القصة كاملة في سورة الصافات وأثنى الله عليهما في نهاية القصة، فكانت سنة باقية إلى يوم القيامة، وكذلك جعلها الله [أي الأضحية] توسعة على الناس يوم العيد، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وهو يصف أيام العيد [إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل][21].
فانظر رحمك الله كيف جمع الحديث بين الدنيا والآخرة، بين حاجة العبد وهي الأكل والشرب وبين ما يطلبه الله عز وجل من العبد وهو عدم نسيان العبد لذكر الله تعالى. وهذه حكمة عظيمة ينبغي أن ترسخ في القلوب، ويعلمها الناس حتى يعملوا بها، فإن كثيرًا من الناس يهتم اهتمامًا بالغًا بالأكل والشرب ولا يهتم بزاده في الآخرة والله تعالى يقول: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾[22]، نسأل الله من فضله.
حكمها:
اختلف أهل العلم في حكم الأضحية أهي واجبة أم سنة؟ وأذكر في هذا الباب أقوال أهل العلم في ذلك، فأقول وبالله التوفيق:
قال الإمام العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي في كتابه القيم [المقدمات الممهدات][23]: فالضحية سنة من سنن الإسلام وشرع من شرائعه، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: [أمرت بالنحر وهو لكم سنة]، وأما قول الله عز وجل ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ قيل معناه فصل لربك وانحر لربك، فتكون الآية على هذا عامة في الهدايا والضحايا، وقيل: يعني به صلاة الصبح بالمشعر الحرام ثم النحر بعدها بمنى، وقيل: يعني به صلاة العيد، ثم النحر بعدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله[24]: والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب به إلى الله كان له أن يضحى به، والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة، والأضحية من النفقة بالمعروف فيضحي عن اليتيم من ماله، وتأخذ المرأة من مال زوجها ما تضحي به عن أهل البيت وإن لم يأذن في ذلك، ويضحي إذا كان له وفاء.
قال ابن رشد القرطبي المالكي[25]:[وتحصيل مذهب مالك أنها من السنن التي يؤمر الناس بها، ويندبون إليها، ولا يرخص لهم في تركها، وإن كان الرجل فقيرًا لا شيء له إلا ثمن الشاة فليضح وإن لم يجد فليستسلف، وقد روي عنه رحمه الله أن الضحية أفضل من الصدقة.
قال صاحب كفاية الأخيار[26]: والأضحية سنة ليست بواجبه لما ورد في صحيح مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال: [إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليسمك عن شعره وأظفاره][27]، قال الحاكم: هو على شرط البخاري ووجه الدلالة منه أنه علق التضحية على الإرادة وما هو واجب ليس هذا من شأنه، فالتضحية سنة على الكفاية إذا فعلها واحد من أهل بيت تأذى عن الكل حق السنة، ولو تركها أهل بيت كره لهم ذلك والمخاطب بها الحر القادر.
قال العلامة الشيخ عبدالله بن الشيخ حسن الحسن الكوهجي[28]: والتضحية سنة مؤكدة في حقنا أما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فواجبة لحديث: [أمرت بالنحر وهو سنة لكم]، وهي سنة على الكفاية إن تعدد أهل البيت، فإذا فعلها واحد من أهل البيت كفى عن الجميع وإلا فسنة عين.
قال الإمام النووي[29]: قال الشافعي والأصحاب: التضحية سنة مؤكدة وشعار ظاهر ينبغي للقادر المحافظة عليها، وهي سنة على الكفاية في حق أهل البيت الواحد، فإذا ضحى أحدهم حصل سنة التضحية في حقهم، قال الرافعي: الشاة الواحدة لا يضحي بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد من أهل بيت تأتى الشعار والسنة لجميعهم، وقد ذكر الإمام مالك رحمه الله أن الضحية واجبة على المقيم والمسافر والذكر والأنثى والصغير والكبير، وقال: [يضحي الوصي عن اليتيم من ماله، ويلزم الأب أن يضحي عن بينه الذكور والإناث ما كانت نفقتهم له لازمة، الذكور حتى يحتلموا، والإناث حتى يتزوجن ويدخل بهن أزواجهن، والاختيار عند مالك أن يضحي عن كل نفس بشاة، فإن ضحى بشاة واحدة عن جميع أهل البيت أجزأهم[30].
إن الأضحية من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها العبد، وفي الحديث عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: [ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء][31].
والأضحية واجبة على القادر، وقد نصت الأحاديث على ذلك وإليكم بعضها:
الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عيه وسلم - قال: [من كان له سعة[32] ولم يضح فلا يقربن مصلانا][33].
وهذا حديث يدل بظاهره على الوجوب؛ لأنه يدل على أبعاد العبد عن مجالسة الأخيار، فالصالحون الذين وسع الله عليهم يضحون ليوسعوا على أنفسهم وعلى غيرهم، وفي الحديث رائحة التهديد من النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى للعبد عن عدم التخلف عن ركب الصالحين الذين يفعلون ما يحبه الله ويرضاه ويقتدون بهدى نبيه ومصطفاة.
وعن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفا عند النبي- صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال:[يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت[34] في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هي التي يسميها الناس الرجبية][35].
وقد نسخ هذا الحكم بما رواه البخاري[36] عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: [لا فرع ولا عتيرة].
والفرع أول النتاج، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة في رجب، زاد أبو داود عن بعضهم [ثم يأكلونه ويلقى جلده على الشجر] فيه إشارة إلى علة النهي، واستنبط الشافعي منه الجواز إذا كان الذبح لله جمعا بينه وبين حديث [الفرع حق][37].
وللحاكم[38] من طريق عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة من قوله: [الفرعة حق ولا تذبحها وهي تلصق في يدك ولكن أمكنها من اللبن حتى إذا كانت من خيار المال فاذبحها]، قال الشافعي فيما نقله البيهقي من طريق المزني عنه [الفرع شيء كان أهل الجاهلية يذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي- صلى الله عليه وسلم - عن حكمها فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه وأمرهم استحبابا أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله، وأما قوله: [لا فرع ولا عتيرة] فإن معناه لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك