في الترغيب في السماحة في البيع والشراء وإنظار المعسر
الشيخ عبدالعزيز بن محمد العقيل
الحمدُ لله نحمدُه، ونستَعِينُه ونستهدِيه، ونستَغفِره ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريك له، فاوَتَ بين خلقه؛ جعل هذا غنيًّا وهذا فقيرًا، وهذا موسرًا وهذا معسرًا، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، رغَّب أمَّته في رحمة المحتاجين، وإنظار المعسرين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحابته المسارعين للخيرات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله - تعالى - واعلَموا أنَّ الله قد فاوَتَ بينكم في الأموال والأخلاق، وقد يُبتَلى العبدُ فيما وُهِبَ؛ ليظهر شكر النعمة على السرَّاء والضرَّاء، وممَّا ينبغي للعبد أن يُقدِّره ويهتمَّ به هو ما يقَع بينه وبين مَن يحتاج إليه في شيءٍ من هذا المال الذي قد يكون وَبالًا على صاحبه إنْ لم يقمْ بشُكر الله وبذْل المعروف وما أوجَبَه الله عليه فيه، فقد يكونُ بين غنيٍّ وفقير معاملةٌ يأخُذ الفقير من الغنيِّ سلعةً ليسدَّ حاجته ويصلح أمره على أنَّه سيدفع الثمن وقتَ حُلوله، أو يستَأجِر عَقارًا ليسكنه أو ينتفع به على أنَّه سيدفع الأجرة وقت حُلولها، فيحصل لهذا المحتاج عوائقُ تَحُولُ دُون الوفاء بما التزَمَ به في حِينه فيحتاج إلى إنظار الغنيِّ له فيعرض له حاله، فينبغي للغني ألاَّ تفوته فُرَصُ الخيرات والفضائل، وعليه أنْ يُبادر إلى تفريج كُربة هذا الفقير والتوسيع عليه؛ فإنَّ في ذلك الخيرَ الكثير والفضلَ العظيم؛ ففي الحديث عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كان رجل يُدايِن الناس، وكان يقول لفَتاه: إذا لَقِيت معسرًا فتجاوَزْ عنه؛ لعلَّ الله يتَجاوز عنَّا، فلَقِي الله فتجاوَزَ عنه))[1].
وعن حُذَيفة - رضِي الله عنه - قال: ((أتى الله بعبدٍ من عِباده آتاه الله مالًا فقال له: ماذا عَمِلتَ في الدنيا؟ قال: ولا يكتُمون الله حديثًا، قال: يا رب، آتيتني مالًا فكنت أُبايِع الناس، وكان من خُلُقِي الجواز، فكنت أُيسِّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله - تعالى -: أنا أحقُّ بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي))[2].
فقال عُقبة بن عامرٍ وأبو مسعود: هكذا سَمِعناه من في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
فيا مَن رزَقَه الله مالًا واحتاج الفقير إليه، اغتَنِم فضل الله ولا يخدعنَّك الشيطان بتعظيم المال في نفسك، والتماس الأعذار لك، فإنَّه يبتلي بهذا المال أقوامٌ قد يكون شرًّا عليهم في دِينهم ودُنياهم، وتذكَّر حالك قبل غِناك؛ فقد تكون فقيرًا محتاجًا إلى الغني، وقد يكون مَرَّ عليك ما مرَّ على هذا الفقير، وعرضت حالك على الغنيِّ لينظرك، وتذكَّر أنَّ الذي أغناك وأفقر هذا المحتاج إليك قادرٌ على أنْ يفقرك ويغني هذا الفقير ويحوجك إليه، ثم إنَّك محتاجٌ إلى فضل الله وعفوه وإحسانه، والمال لا يُغنِي عنك شيئًا إذا لم تبذل المعروف فيه، فعلى مَن أنعَمَ الله عليه بشيءٍ من المال أنْ يتَّقي الله فيه وفي نفسه، وليحملها على ما فيه خيرُها وسعادتُها في عاجلها وآجلها، وليتَّصف بالسماحة في بيعه وشرائه ومعاملاته.
ففي الحديث عن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((رَحِمَ الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى))[3].
كما أنَّ المشتري للسلعة قد يحصُل له ما يَدْعوه إلى إرجاعها لسببٍ من الأسباب، فإذا نَدِمَ وطلب الإقالةَ من البائع فعليه أنْ يُجيبَه إلى ذلك.
فعن شريح - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أقال أخاه بيعًا أقالَه الله عثرته يوم القيامة))[4].
فينبغي للناصح لنفسه أنْ يتَّصف بالسماحة في بيعه وشرائه، وليغتَنِم الفضائل؛ فإنَّ لها أوقاتًا ومناسبات، والمال لا يجلبه حرصُ حريصٍ ولا قوَّة قوي، فكم من ضعيفٍ متسامح يتضاعَف ماله! وكم من حريصٍ لا يَنال من حِرصه إلا التعَب والتحسُّر! فما أسعد مَن أخَذ بهدي نبيِّه في تصرُّفاته، وما أتعَسَ مَن خالَف توجيهات نبيِّه، فإنَّ الخير كلَّ الخير فيما دلَّنا عليه نبيُّنا، والشر كل الشر فيما حذَّرَنا منه.
فاتَّقوا الله يا عبادَ الله، وخُذوا بهدي رسول الله الحريص على خيركم وسعادتكم؛ ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
فما أحلى الإسلام وتعاليمه! وما أسعد الأمَّة بالتمسُّك به! فالغني والفقير سُعَداء بتعاليمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
قال الله العظيم: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280-281].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، وتابَ عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِرُوه إنَّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري رقم (2078) ـ الفتح: 4/309، ومسلم (1562).
[2] أخرجه مسلم (1560).
[3] أخرجه البخاري رقم (2076) ـ الفتح: 4/306، وأخرجه ابن ماجه (2203)، وأخرجه المنذري في الترغيب: 2/562.
[4] أخرجه أبو داود (3460)، وابن ماجه (2199) في التجارات، قال الأرناؤوط: إسناده صحيح، وصححه الحاكم (2/45).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك