04-07-2023, 12:43 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 357,566
|
|
من حكم وأسرار الصيام
من حكم وأسرار الصيام
الشيخ نشأت كمال
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرمِ وصفٍ، وألطف عبارة؛ أي: يا مَن صدقتم الله، ورسوله، وتحلَّيتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكِّرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقَّى أوامر الله ونواهيَه بحسن الطاعة والامتثال، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾: فُرِض، وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾؛ أي: لكونها عبادة عظيمة فُرضت على كل الأمم، أو فيها معنى الترغيب، فالذين من قبلكم صاموا، فأنتم أحق بالصيام منهم، ونَيل الثواب والأجر، وكذلك فيها معنى التطْمِين؛ أي: لا تقولوا لن نقدر، أو نستطيع الصيام، فمن جاؤوا قبلكم فعلوا ذلك واستطاعوا، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾: لعلكم إن صمتم تصبحوا من بين المتقين الذين يطيعون أوامر الله، ويجتنبون نواهيه، فبذلك تتقون الله سبحانه.
وحقيقة الصوم الامتناع، والمراد ها هنا الامتناع عن المفطرات؛ وهي الطاعم والشراب والشهوة، وهذه الأمور يحتاج إليها العبد بمقتضى الفطرة والجِبِلَّة، وهي من متعلقات النفس وشهواتها، فجاءت الشريعة بكفِّ الناس ومنعهم عن حاجاتهم وشهواتهم الطَّبَعِيَّة مدة محدودة من الزمان في أيام محدودة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184].
وهذا يبين لنا أن حقيقة الصيام هو نوع من تهذيب النفس وفِطامها عن شهواتها، وأن ذلك له تعلق بالإيمان والثواب والعقاب، وكأن الشرع يريد من العبد أن يكون أقوى بإيمانه من شهواته التي تدعوه نفسه لها وتطلبها، فيسمو بإيمانه فوق شهوات النفس.
وإذا نظرنا لحديث القرآن عن الشهوات نجدُ أن هذا اللفظ جاء في ثلاثة مواضع:
1- قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 14، 15].
2- وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 26 - 28].
3- وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 58 - 60].
﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ جحدوها، أو أهملوها، أو أخروها عن وقتها، أو صلوها غير صحيحة بإهمال شيء من شروطها، وأركانها، وواجباتها؛ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل المسيء صلاته: ((ارجع فصَلِّ؛ فإنك لم تصلِّ؛ ثلاث مرات))؛ [أخرجه مسلم عن أبي هريرة].
والغَيُّ: الخيبة والقبيح، وقيل: العذاب، والهلاك، والخسران.
والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسناتٍ، لقِيَ خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًّا وسيئات، لقي شرًّا وسيئات، كذلك من عمل غيًّا لقي غيًّا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غيٌّ يلقى صاحبه غيًّا؛ فلهذا قال الزمخشري: "كل شر عند العرب غيٌّ، وكل خير رشاد".
وفي سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم ربطٌ بين الجنة والنار والشهوات؛ كما في بعض الأحاديث:
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنة بالمكاره)).
وقوله: (حُجبت) غُطِّيَتْ (بالشهوات) الملذات التي منع الشرع من تعاطيها، أو التي قد تؤدي إلى ترك الواجبات، أو الوقوع في المحرمات، (بالمكاره) المشاق التي تستلزمها الطاعات، وترك المحرمات.
قال في الفتح: "وهذا من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات، وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات، وإن كرهتها النفوس وشق عليها".
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّتِ الجنة بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات)).
قال العلماء: ومعناه لا يُوصَل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار إلا بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب، وصل إلى المحبوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات.
وفي الترمذي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفَّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيتُ ألَّا يدخلها أحد، قال: فلما خلق الله النار، قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت ألَّا يبقى أحد إلا دخلها)).
ويوسف الصديق كان من المحسنين بمراقبة الله، وترك الشهوات المحرمة، وهذا المعنى موجود في الصيام، وهو مراقبة الله، وترك الشهوات في نهار الصيام.
وهذا يبين عظم مقام الصبر، والصبر أنواع؛ صبر على الأقدار، وصبر على الطاعة، وصبر عن الحرام، وكف النفس عنها، وهو قريب من معنى الصيام.
وتهذيب النفس بتقليل الشهوات علاجٌ وصَفَه النبي صلى الله عليه وسلم للشباب الذين لا يجدون نكاحًا؛ ففي الحديث عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)).
ومقتضاه أن الصوم قامعٌ لشهوة النكاح؛ لأن الصوم يُضعِف الإنسان، ويُضيِّق على الشيطان مجاريه؛ كما في الحديث: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)).
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|