![قديم](ibbye-hajj/statusicon/post_old.gif)
01-01-2023, 10:47 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 361,175
|
|
لا تكرهوا الملمات الواقعة
لا تكرهوا الملمات الواقعة
د. محمد جمعة الحلبوسي
ذات يوم ركب رجل في سفينة، وهذه القصة ذكرها الدكتور عبدالكريم القصير في كتابه (ابتسم للحياة)؛ فيقول: في ذات يوم ركب رجل في سفينة، وعندما وصلت السفينة وسط البحر، هبت عاصفة شديدة فأغرقت السفينة، فهلك من هلك، ونجا من نجا، فهذا الرجل نجا بفضل ألواح السفينة التي أخذته حتى ألقت به على شاطئ جزيرة مجهولة ومهجورة، ما كاد الرجل يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه، حتى سقط على ركبتيه، وقال: يا رب، يا فارج الهم، فرِّج همي، وخلصني من هذه الشدة والمصيبة.
ومرت عدة أيام كان الرجل يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياه قريب، وينام في كوخ صغير بناه من أعواد الشجر؛ ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار.
وفي ذات يوم أشعل النار قرب الكوخ ووضع طعامه عليها، وخرج يتجول في الجزيرة ريثما ينضج طعامه، وإذا به يرى أعمدة الدخان تتصاعد إلى السماء، فعاد مسرعًا فرأى أن النار قد التهمت كل ما حولها، فأخذ يصرخ: لماذا يا رب، حتى الكوخ الذي أنام فيه احترق؟ لماذا يا رب كل هذه المصائب تأتى عليَّ؟
ونام الرجل من الحزن وهو جوعان، ولكن في الصباح كانت هناك مفاجأة في انتظاره؛ إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة، وتُنزِل منها قاربًا صغيرًا لإنقاذه، فعندما صعد على سطح السفينة أخذ يسألهم: كيف وجدوا مكانه؟ فأجابوه: لقد رأينا دخانًا يتصاعد، فعرفنا أن شخصًا ما يطلب المساعدة والعون، فجئنا قاصدين هذا المكان[1].
انظروا أيها المسلمون، هو قد اعترض على احتراق الكوخ، وقال: يا رب، لِمَ احترق كوخي؟ ففي ظاهر الأمر أن احتراق الكوخ كان مصيبة، ولكن الاحتراق في الأصل كان خيرًا، فالله تعالى جعل الاحتراق علامة خير ونجاة وخلاص من شدته ومصيبته.
فليس كل بلاء عقوبة، وليست كل مصيبة نذيرَ شرٍّ؛ فالله تعالى يقول: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
قال سيدنا الحسن رضي الله عنه في معنى الآية: "لا تكرهوا الْمُلِمَّات[2] الواقعة، فلرُبَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عَطَبُك"؛ أي: هلاكك[3].
فصاحب الكتاب عندما أورد هذه القصة في كتابه، أراد أن يقول: يا صاحب المصيبة، ويا صاحب الابتلاء، ويا من وقعت في شدة ومحنة، ابتسم لها، وسلم أمرك لله تعالى؛ فإنه هو من يدبر لك أمورك، ولا يختار إلا ما هو أفضل لك، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
يُروى أن الله تعالى أوحى إلى سيدنا داود عليه السلام: "يا داود، إنك تريد، وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لِما أريد كفيتُك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد[4].
تذكر جميلي مذ خلقتك نطفةً ![](https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif)
ولا تنسَ تصويري لشخصك في الحشا
وكن واثقًا بي في أمورك كلها ![](https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif)
سأكفيك منها ما يخاف ويُختشى
وسلم لي الأمر واعلم بأنني ![](https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif)
أصرف أحكامي وأفعل ما أشا
فنزول البلاء خير للمؤمن من أن يُدخَّر له العقاب في الآخرة، وكيف لا، وبه تُرفع درجاته وتُكفَّر سيئاته؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة))[5] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له))[6].
وقال الفضل بن سهل رحمه الله: "إن في العلل لَنِعَمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلها؛ تمحيص للذنب، وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحض على الصدقة"[7].
ويقول أحد الشعراء: (فربما صحَّت الأجسام بالعللِ)[8]؛ يعني: يا مبتلى، ويا ممتحن، ويا مصاب، قد لا تكون على خير إلا بهذا الابتلاء وبهذه المصيبة، وإلا لولا هذه المصيبة وهذا الابتلاء، فأنت شقيٌّ عند الله تعالى.
ولذلك يحكي أحد العلماء عن قصة لتوضيح هذه الصورة (كيف تصح الأجسام بالعلل؟)؛ يعني: الجسم يأتيه المرض ويصبح صحيحًا.
أُصيب رجلٌ بالشلل، فأصبح مقعدًا في بيته، لا يقوم ولا يتحرك، نائمًا على الفراش سنوات طويلة، يقول: وفي يوم من الأيام كانت في الغرفة التي هو فيها عقرب في سقفها، فسقطت العقرب على رأس هذا المقعد، وهو لا يستطيع أن يضربها ولا يستطيع أن يتخلص منها؛ لأنه مشلول، فظلت تلدغه وتلدغه، إلى أن تحرك جسمه وتنشط، وتحرك وخرج من الغرفة، وتكلم مع أهله، وقال لهم: العقرب تلدغني.
فالعقرب التي كانت تلدغه هي التي أعادت إلى جسمه النشاط والصحة والقوة، هنا صحت الأجسام بالعلل، هنا كانت العقرب سببًا في شفاء هذا الرجل وخلاصه من الإقعاد.
وأنت - يا مسلم - ربما تأتيك مصيبة في مالك أو في نفسك أو في ولدك، ولن تتخلص يوم القيامة إلا بها؛ إلا بأن تفقد ولدك، إلا بأن تفقد زوجتك، إلا بأن تفقد مالك؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))[9]؛ أي: لا ينفك العبد المؤمن من البلاء فيظل مبتلًى، ويظل البلاء يتنزل عليه، ((في نفسه))؛ أي: في صحته وجسده، ((وولده))؛ أي: في أولاده من مرض أو وفاة أو عقوق أو غير ذلك، ((وماله))؛ أي: من افتقار، وذهاب تجارة، وكساد عيش، وضيق في الرزق، ((حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))؛ أي: حتى يكفر الله عنه بذلك البلاء كل ذنوبه وخطاياه، حتى إذا لقِيَ الله يكون قد طهر من كل الذنوب والآثام التي ارتكبها، ويكون لهم على ذلك الجزاء الحسن يوم القيامة؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض))[10].
فعلى المسلم أن يستقبل المصائب والابتلاءات بالرضا، وأن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه وتعالى لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، وإنما ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه؛ ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
أسال الله تعالى لنا ولكم العفو والعافية وحسن الختام، آمين اللهم آمين.
الخطبة الثانية كان نبينا صلى الله عليه وسلم يسأل ربه دائمًا العافية، ويوصي أصحابه الكرام رضي الله عنه بسؤالها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اسألوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية))[11].
لا يجوز للمسلم أن يتمنى البلاء أو أن يستعجل عذاب الآخرة؛ هذا سيدنا أنس رضي الله عنه قال: ((عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من المسلمين قد خَفَتَ - أي ضعُف - فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له، فشفاه))[12].
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة، قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة))[13].
فسلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرًا من العافية، وأكْثِروا من قول: اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة.
[1] هذه القصة ذكرها الدكتور عبدالكريم القصير في كتابه (ابتسم للحياة): (ص53-54).
[2] المُلِمَّةُ: النازلةُ الشديدة من شدائد الدهر، والمصيبة العَظِيمَةُ.
[3] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (3/ 39).
[4] ذكره الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء بصيغة تمريض (4/ 346)، وكذا ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في أحاديث الرسول: (2/ 107)، ومن المعلوم أنه لا يقع شيء في الكون إلا وفق مشيئة الله تعالى وإرادته بما في ذلك أفعال العباد؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [التكوير: 29].
[5] سنن الترمذي، أبواب الزهد، بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّبْرِ عَلَى البَلاَءِ: (4/ 179) برقم (2396)، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
[6] صحيح مسلم، كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، بَابُ الْمُؤْمِنُ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ: (4/ 2295)، برقم (2999).
[7] الفرج بعد الشدة، للتنوخي (1/ 169).
[8] دواوين الشعر العربي على مر العصور (47/ 331).
[9] سنن الترمذي، أبواب الزهد - بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّبْرِ عَلَى البَلاَءِ: (4/ 180)، برقم (2399)، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[10] سنن الترمذي، أبواب الزهد - بَابٌ: (4/ 181)، برقم (2402) وقال الترمذي: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ بِهَذَا الإِسْنَادِ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
[11] سنن الترمذي، أَبْوَابُ الدَّعَوَاتِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - باب: (5/ 417)، برقم (3558) وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[12] صحيح مسلم، كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ - بَابُ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا: (4/ 2068)، برقم (2688).
[13] سنن الترمذي: أبواب الدعوات- بَابٌ فِي العَفْوِ وَالعَافِيَةِ: (5/ 577)، برقم (3594) وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|