﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾
د. أحمد خضر حسنين الحسن
قال الله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].
وقال سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145].
سبب نزولها:
الآيات نزلت في شأن تحويل القبلة قبل أن يأمر الله تعالى بأن تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، قال المفسرون: تضمنت هذه الآيات الكريمة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقًا من الناس الذين خفت أحلامهم، وضعفت عقولهم، وعدلوا عما ينفعهم إلى ما يضرهم، سيقولون على سبيل الإنكار عند تحويل القبلة إلى المسجد الحرام: ما صرفهم عن القبلة التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس.
والمراد بالسفهاء اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة، ومن لف لفَّهم من المنافقين ومشركي العرب، وإنما سماهم الله تعالى سفهاءَ؛ لأنهم سفهوا الحق، وجحدوه، وأنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بصدقه في رسالته.
وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 144]، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
وقد لقَّن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذي يوقف به ألسنة المعترضين من اليهود وغيرهم، فقال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].
أي: قل لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا اعترضوا على التحويل: إن الأمكنة كلها لله ملكًا وتصرفًا، وهي بالنسبة إليه متساوية، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة، فلحكمة اقتضت الأمر، وما على الناس إلا أن يمتثلوا أمره، والمؤمنون ما اتخذوا الكعبة قبلةً لهم إلا امتثالًا لأمر ربهم، لا ترجيحًا لبعض الجهات من تلقاء أنفسهم، فالله هو الذي يهدي من يشاء هدايته إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة -حيث اقتضت حكمته ذلك- ثم إلى الكعبة؛ حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145]، فيه من أوجه الدفاع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
♦ ولئن جئت يا محمد صلى الله عليه وسلم اليهود ومَن على طريقتهم في الكفر بكل برهان وحجة، بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدَّقوا به؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة يزيلها الدليل، وإنما هو عن مكابرة وعناد، مع علمهم بما في كتبهم من أنك على الحق المبين.
♦ وما أنت يا محمد -صلى الله عليه وسلم- بتابع قبلتهم؛ لأنك على الهدى وهم على الضلال، وفي هذه الجملة الكريمة حسم لأطماعهم، وتقرير لأحقية القبلة إلى الكعبة، بعد أن أشاعوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ثبت على قبلتهم، لكانوا يرجون أنه النبي المنتظر، فقطع القرآن الكريم آمالهم في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، وأخبر بأنه ليس بتابع لها.
♦ ثم ذكر القرآن الكريم اختلاف أهل الكتاب في القبلة، وأن كل طائفة منهم لا تتبع قبلة الطائفة الأخرى، فقال تعالى: ﴿ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾؛ أي: ما اليهود بمتبعين لقبلة النصارى ولا النصارى بمتبعين لقبلة اليهود، فهم مع اتفاقهم على مخالفتك، مختلفون في باطلهم؛ وذلك لأن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس.
♦ ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيرًا للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: لئن اتبعتَ يا محمد قبلتهم على سبيل الفرض والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامي إياك بإقامتهم على الباطل، إنك إذًا لمن الظالمين لأنفسهم، المخالفين لأمري. وفي الآية الكريمة: وعيد وتحذير للأمة الإسلامية من اتباع آراء اليهود المنبعثة عن الهوى والشهوة، وسيق الوعيد والتحذير في صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يتوقع منه أن يتبع أهواء أهل الكتاب؛ تأكيدًا للوعيد والتحذير.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك