الإقناع لمن استدل بـ (من سن) على الابتداع
خلدون بن محمود بن نغوي الحقوي
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإني كنت منذ زمن طويل - وإلى الآن - أتطلع إلى خدمة دين الله تعالى، وإلى أن يكون لي سبب إلى رضاه تعالى في حياتي وبعد مماتي، ومن ذلك أن أكون أحد جنود الإسلام المدافعين عنه باليد واللسان، عاملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) [1].
وأنا أرجو الله تعالى الكريم أن يجعلني من أهل العلم العاملين المنتفع بهم؛ فإن الدال على الخير كفاعله؛ كما ثبت في الحديث[2].
ولم أرَ أنفع لدين الإسلام - عند أزمنة انتشار الجهل والشرك والبعد عن السنة وفشو البدع - من جهاد باللسان، وفري بالقلم؛ وذلك بنشر السنة الصحيحة، وبيان أصول أهل الإسلام، وقواعد الدين، ومنهج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في فهم دين الإسلام والعمل به.
وفي الحديث الصحيح: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)[3]، وإن الذب عن السنة وحماية جنابها هو من ذلك بلا ريب.
وقد رأيت التعرض لرد شبهة لطالما أوردها أهل البدع في جملة ما يستشهدون به في سياق تجويزهم الابتداع في الدين؛ ألا وهي الاستدلال بحديث: (من سن في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها...)!
لذلك؛ فقد قمت - مستعينًا بالله تعالى وحده، ومستنيرًا بشروح العلماء - بإعداد مقالة لطيفة في بيان أوجه الرد على هذا الاستدلال، على أن تكون وجيزةً في عبارتها، مؤديةً لمقصدها، مراعية التخريج والتحقيق الحديثي.
ولا أدعي لنفسي التفرد في كشف تلك الشبهة! وإنما هو الاعتماد على شروح العلماء الأفاضل - قديمًا وحديثًا - المعروفين بسلامة المنهج، ورسوخ العلم، وبُعد النظر.
تأصيل لطيف قبل الشروع في البيان:
قبل الخوض في الجواب عن هذه الشبهة لا بد من تأصيل مسألة في هذا المجال، ألا وهي أنه على فرض وجود بعض الأدلة والشُّبَه التي لم يمكن الجواب عنها، أو لم يدرك جوابها في هذا الباب - وقد يستدل بها مستدل على جواز الابتداع - فمثل هذه الأدلة لا يجوز أن تصرف بها دلالة النصوص العامة في الشريعة من قرآن وسنة نبوية، بل لا بد من التوفيق بينها ما أمكن ذلك، ولا نضرب النصوص بعضها ببعض!
بل لو قدر ذلك، فإن النصوص العامة أقوى في الترجيح؛ لأنها إما قرآن، أو سنة نبوية ثابتة متواترة أو مشهورة، وفي أشهر كتب السنة، ودلالتها أقوى من حيث العموم؛ كخطب الحاجة التي يكثر تكرارها دون تخصيص من الشارع، وهي أقوى أيضًا من جهة الدلالة والتصريح؛ كالنصوص التي تدل على المنهج السُّني بعامة، وأيضًا النصوص التي تبين الخروج من الخلاف والفتن - وسآتي على أمثلة من ذلك بعد قليل.
لذلك لا بد أن يكون موقفنا ابتداءً هو محاولة توفيق الدليل - موضع الاشتباه - مع النصوص العامة؛ بحيث يحمل على محمل لا يصادم به عامة النصوص الأصل في هذا الباب، فإن لم يمكن ذلك، فيسكت عنه ويتوقف فيه، ويوكل الأمر إلى عالمه.
إلا أن التوقف هذا ليس على إطلاقه! وإنما هو توقف بخصوص هذا الوجه من الاستدلال، وليس إبطال معنى الحديث مطلقًا!
ولا يخفى أن الدليل يستدل به على جهتين: مباشرة - وهي دلالة النص بالمطابقة، وجهة غير مباشرة - وهي دلالة النص بالتضمن واللزوم من مفهوم الحديث.
ففي حال التوقف هذا والشك في حصول الدلالة من هذا الوجه، فإنه يوكل الأمر إلى عالمه؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، إلا أنه لا تهدر بقية أوجه الاستدلال الأخرى للحديث في غير هذا الباب!
فعلى كل حال: المقصود أنه لا يجوز لنا أن نجعل جهلنا بتوجيه الحديث دليلًا على نقض الأصول! بل نرد المتشابه إلى المحكم؛ كما في حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مُشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس؛ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدِينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه) [4].
فمن احتج بالمتشابه في هذا الباب، فإنه يكون كمن يريد أن يبني قصرًا فيهدم مِصرًا؛ وذلك لأن هذا الباب إذا فتح فليس له ضوابط تحصره؛ لأن مجال التحسين والتقبيح العقليين منوط بالعقل، عدا عن أن العقل غير محصور في شخص دون شخص، ولا في عالم دون عالم، ولا في ملة دون ملة؛ فمحصل ذلك ضياع الدين مطلقًا.
بل إن من آثار فتح باب الابتداع في الدين:
ضياع السنة النبوية؛ وذلك لعدم الاهتمام بحفظها والدفاع عنها؛ حيث جعلت الشريعة غير محصورة فيها أصلًا! بل يقال: لكل زمان دين يلائمه! ويحصل فينا كما حصل مع الأمم الماضية من التفرق في دينها.
ورضي الله تعالى عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان عندما كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزعه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: (يا أمير المؤمنين، أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)[5].
أمثلة من عمومات القرآن على ذم الابتداع - مع شيء من كلام المفسرين -:
أ - قوله تعالى في نسبة الابتداع إلى أهل الكتاب: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في التفسير: [وقوله: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ﴾ [الحديد: 27]؛ أي: ابتدعتها أمة النصارى، ﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ [الحديد: 27]؛ أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم][6].
ب- قوله تعالى في بيان تمام الدين: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في التفسير: [فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه][7].
ج - قوله تعالى عن المشركين: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21].
قال الطبري رحمه الله في التفسير: [يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم ﴿ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يُبِحِ اللهُ لهم ابتداعه!][8].
د - قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
قال البغوي والخازن رحمهما الله في تفسيريهما: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، قيل: الإثم: الكفر، والعدوان: الظلم، وقيل: الإثم: المعصية، والعدوان: البدعة][9].
هـ - قوله تعالى: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3].
قال الخازن رحمه الله في التفسير: [والمعنى: ولا تتولَّوا من دونه شياطينَ الإنس والجن، فيأمروكم بعبادة الأصنام، واتباع البدع والأهواء الفاسدة][10].
أمثلة من عمومات السنة على ذم الابتداع:
أ - حديث عائشة مرفوعًا: [من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ][11].
وتأمل كيف جعله الإمام النووي رحمه الله الحديث الخامس من الأربعين النووية التي عدها قواعد الدين.
ب - حديث العرباض مرفوعًا: [فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين][12].
ج - حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: [وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملةً، كلهم في النار إلا ملةً واحدةً]، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: [ما أنا عليه وأصحابي][13].
د - حديث أبي هريرة مرفوعًا: [تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوضَ][14].
هـ - حديث أبي هريرة مرفوعًا: [كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى]، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: [مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى][15].
و - حديث ابن عباس مرفوعًا: [وليذادن بأقوام من أمتي عن الحوض، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك][16].
ز - حديث ابن عمرو مرفوعًا: [يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلةً، تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا] - وشبك بين أصابعه، فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: [تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تُنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم][17].
الكلام على خصوص الحديث:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من سن في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء]؛ رواه مسلم[18].
قالوا: فيه دليل على جواز الابتداع في الدين.
ويدل على أنه فيمن أنشأ بدعةً ابتداءً: قوله صلى الله عليه وسلم: [من سن]؛ حيث نسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع، ولو كان المراد: [من عمل سنةً ثابتةً في الشرع]، لما قال: [من سن]؛ فالمعنى إذًا: من اخترعها من تلقاء نفسه - لكن بشرط أن تكون حسنةً - فله من الأجر ما ذكر!
الجواب - بحمد الله وتوفيقه - من أوجه:
الوجه الأول:
قوله: [من سن في الإسلام سنةً حسنةً] ليس المراد به الاختراع، وإنما المراد به إحياء العمل بما غفل عنه من السنة النبوية؛ وذلك لأن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المسنونة، وأن فعل الرجل - الموصوف في الحديث - كان إحياء سنة نبوية غفل عنها الحاضرون، كما ستجده في لفظ الحديث نفسه.
إضافة إلى أن الحديث ليس فيه عمل جديد محدث في الشرع، لكنه محدث باعتبار تنبه الناس إليه، وأنه أحيا سنةً غفل عنها الناس حينها.
وتأمل الحديث الآخر: [من أحيا سنةً من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعةً فعمل بها، كان عليه مثل أوزار من عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئًا][19].
وتأكيدًا لما أسلفت، فإن الحديث - موضوعَ البحث - بتمام ألفاظه كالآتي:
عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه أقوام حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، (وليس عليهم أزر ولا شيء غيرها)، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر (وفي رواية: فتغير) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وصلى (الظهر، ثم صعد منبرًا صغيرًا)، ثم خطب (فحمد الله وأثنى عليه)، فقال: (أما بعد، فإن الله أنزل في كتابه): ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 20]، [تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، [من شَعيره]، من صاع تمره، حتى قال: [ولا يحقرن أحدكم شيئًا من الصدقة]، ولو بشق تمرة]، [فأبطؤوا حتى بان في وجهه الغضب]، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة من وَرِقٍ، [وفي رواية: من ذهب]، كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، [فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره]، [فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله]، [فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم]، [قام أبو بكر فأعطى، ثم قام عمر فأعطى، ثم قام المهاجرون والأنصار فأعطوا]، ثم تتابع الناس [في الصدقات]، [فمن ذي دينار، ومن ذي درهم، ومن ذي، ومن ذي]، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سن في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها، و[مثل] أجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنةً في الإسلام سيئةً، كان عليه وزرها، و[مثل] وزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، [ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾، [قال: فقسمه بينهم][20].
ولتمام الفائدة فقد روى الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث في صحيحه، ثم أتبعه بحديث أبي هريرة مرفوعًا: (من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)[21]، مما يصحح الوجه الذي ذكرناه من معنى الحديث[22].
الوجه الثاني:
أنه لا يمكن حمل الحديث على الاختراع؛ لأنه يصبح بذلك معارضًا للعمومات الكلية التي هي قواعد الدين، والتي كان يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؛ كمثل حديث: (كل بدعة ضلالة)، وحديث: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا)، وقد سبقت.
فالأصل حمل النصوص المتشابهة على المحكَمة، والتوفيق بينها ما أمكن، وليس رد بعضها ببعض.
ويعجبني في هذا المقام قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله!)[23].
الوجه الثالث:
أن يقال: إنه لا يمكن حمل الحديث على الاختراع؛ لأنه لا سبيل للعقل في معرفة كون العمل حسنًا أو سيئًا بدون الشرع.
فالناظر في السنة النبوية يجد كثيرًا من النصوص تدل على ذم كثير من المبتدعات رغم أن فاعلها لم يرَ فيها بأسًا، بل استحسنها وظن نفسه مع السابقين في الخيرات! وهاك بعض أمثلة:
أ - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا، كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: [أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني][24].
ب - حديث: (من صام الدهر، ضيِّقت عليه جهنم هكذا - وعقد تسعين -)[25]،[26].
ج - جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: (هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم)[27].
د - عن عمرو بن سلمة، قال: كنا نجلس على باب عبدالله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبدالرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبدالرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته - ولم أرَ والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبِّروا مائةً، فيكبرون مائةً، فيقول: هللوا مائةً، فيهللون مائةً، ويقول: سبحوا مائةً، فيسبحون مائةً، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك - أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقةً من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبدالرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي في يده، إنكم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير! قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج[28].
ووجه الشاهد من الحديث قولهم: (ما أردنا إلا الخير! قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه!) فتنبه.
وأخيرًا، أسأل الله تعالى إجابتي دعوة كدعوة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 40، 41].
والحمد لله رب العالمين.
[1] صحيح مسلم [1631] عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
[2] حديث: [إن الدال على الخير كفاعله] حديث صحيح، رواه الترمذي [2670] عن أنس مرفوعًا، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع [1605].
[3] صحيح،أبو داود [2504] عن أنس مرفوعًا،صحيح الجامع [3090].
[4] رواه البخاري [52]، ومسلم [1599].
[5] صحيح البخاري [4987]: [باب جمع القرآن].
[6] تفسير ابن كثير [29/ 8].
[7] تفسير ابن كثير [26/ 3].
[8] تفسير الطبري [522/ 21].
[9] تفسير البغوي [9/ 2]، وتفسير الخازن [7/ 2].
[10] تفسير الخازن [181/ 2].
[11] رواه مسلم [1718].
[12] صحيح، الترمذي [2676]، صحيح الجامع [2549].
[13] حسن، الترمذي [2641]، صحيح الجامع [9474].
[14] صحيح، الحاكم [319]، صحيح الجامع [2937]، وفي رواية الترمذي [3786] عن جابر: عوض [وسنتي]: [وعترتي أهل بيتي]، الصحيحة [1761].
[15] رواه البخاري [7280].
[16] رواه البخاري [6576]، ومسلم [2297].
[17] صحيح،أبو داود [4342]،صحيح الترغيب والترهيب [2744].
[18] مسلم [1017].
[19] صحيح، ابن ماجه [209] تحت باب: [من أحيا سنةً قد أميتت] عن عمرو بن عوف مرفوعًا،صحيح ابن ماجه [174].
[20] والزيادات بين الأقواس أفادها الشيخ الألباني رحمه الله؛ كما في كتابه [أحكام الجنائز] [ص177]، وذكر رحمه الله هناك تخريج كامل ألفاظها، وكلها صحيحة، وقد آثرت ترك تخريجها؛ اكتفاءً بإيراد الشيخ الإمام الألباني لها في كتابه السابق.
[21] مسلم [2674].
[22] أفادها الشيخ الفاضل علي الحلبي حفظه الله، جوابًا على سؤال وُجِّه إليه على قناة الأثر الفضائية، والحمد لله على توفيقه.
[23] حلية الأولياء [6/ 324].
[24] رواه البخاري [5063]، ومسلم [1401] من حديث أنس رضي الله عنه.
[25] صحيح،البيهقي في الكبرى [8477] عن أبي موسى مرفوعًا،الصحيحة [3202].
[26] ولتمام الفائدة فمعنى الحديث هو كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه [زاد المعاد] [26/ 2]: [وليس مراده بهذا من صام الأيام المحرمة! فإنه ذكر ذلك جوابًا لمن قال: أرأيت من صام الدهر؟ ولا يقال في جواب مَن فعل المحرم: لا صام ولا أفطر! فإن هذا يؤذن بأنه سواء - فطره وصومه - لا يثاب عليه ولا يعاقب، وليس كذلك من فعل ما حرم الله عليه من الصيام، فليس هذا جوابًا مطابقًا للسؤال عن المحرم من الصوم].
[27] صحيح،النسائي [140] عن عبدالله بن عمرو مرفوعًا،الصحيحة [2980].
[28] صحيح،الدارمي [210]،الصحيحة [2005].
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك