الخلوة
الشيخ طه محمد الساكت
ما أحلى الخلوةَ وما ألذَّ حديثَها! وما أسطعَ أنوارَها! وما أشجعَ صاحبَها! لو وقفت الدنيا وأهلُها في صف، وهو وحده في صف، لكان هو الغالبَ المنصورَ؛ أليس مع الله، وهل يَغْلِبُ اللهَ غالبٌ؟
بهذه الروح قام على أثر سلام الإمام، يدعو إلى الله - وكله ثبات واطمئنان - استهلَّ العظة بالدعاء للملك، والإخلاص له، وسار مسرعًا نحو الملك يقدم إليه كتابَ الله، ويرتجي منه أن يصدر أمرًا كريمًا بالعناية والحكم على طريقه المستقيم، ونهجِه القويم.
حال بينَه وبين ما يبتغي الحاشيةُ والجندُ، وسيق للتحقيق، وسئل عن مخالفة النظام (والبروتوكول)، فقصَّ عليهم قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وبيَّن لهم أن الدعوة إلى الله تعالى فوق كل نظام، وأبدى استعدادًا لكل ما يصنعون.
عرفوا منه حسن النية، فأطلَقوا سراحه، وحذَّروه أن يعود لمثلها، فأجابهم إلى ذلك وهو فرح مسرور، لا بأنهم أطلقوه، ولكن بأنه وفَّى بعهد الله، ذهب إلى منزله فوجد حشدًا من الإخوان والزملاء، منهم: اللائمُ والعاتب، ومنهم: الحزين والمنكدر، ومنهم: السائل والمستفسِرُ، وقد اتفقت كلمتُهم على أن أقل عقوبة للإدارة هو النقلُ إلى حدود القطر - إن لم يكن الفصل - ثم أجمعوا على أن يذهب إلى فضيلة الأستاذ الأكبر يترضَّاه، فما كان جوابُه عن كل هذا الضجيجِ إلا أن قال: إن كانت هذه القومة لله مخلصة، فسيدافع الله عني، وإن كانت غير ذلك، فجزائي ما يحل بكل مُراءٍ كذَّابٍ، وكأن له مع الله (ولله المثل الأعلى) دلالاً؛ إذ قال: (أما شيخ الأزهر، فلن أذهب إليه؛ بل الله يسوقه إليَّ)، وكأنه كان ينطق عن صادق من الإلهام، فيقابله شيخ الأزهر على غير ميعاد، ويقول له: أأنت الشيخ الساكت؟ أأنت الشيخ الساكت؟ نعم.
• لقد عملتَ يوم الجمعة عملاً لا ينبغي لواعظ!
• حقًّا يا مولاي.
• ولِمَ هذا؟
• على أثر رياضة روحية.
• ولكن الرياضة تصفي الروح وتهذِّبها!
• حقًّا، ولكن تعجَّلت.
انتهى الحديث، وانصرف الشيخ وقد قضى عجبًا من ملامح وجه شاحب، وشخص ناحل.
كان هو وزميلان له حاولوا غير مرة أن ينتقلوا إلى التدريس بالمعاهد، محتجِّين بأنهم تخصصوا في شعب التدريس لا الوعظ، وبأنهم أوائل شعبهم، وبأن مسابقة الوعظ جاءت عرضًا، فإذا قُبل في التدريس من يلِيهم في مجموعاتهم ممن لم ينجحوا في المسابقة، فلا أقل من مساواتهم بإخوانهم، ولا يعقل أن يكون تبريزهم في مسابقة الوعظ عائقًا لهم عن حق أصيل.
حجج قوية، ولكن لم تأخُذْ بها الإدارة، ورأتْ أخيرًا أن يدخلوا مسابقةَ التدريس، إن كانت لهم فيه رغبة.
دخَلَها أخواه ولم يرضَ هو أن يترك الدعوة إلى الله حتى يجيءَ الإذنُ، وعلامة الإذن التيسيرُ، ووقع في قلبه أنه منتقل إلى التدريس - بإذن الله - من غير مسابقة، وكان ولا يزال متصوِّفًا، ولا يزال يُعاوِد الخلوة والرياضة كلما سنحت فرصة، على الرغم من تحذير إخوانه له، وما كان أشد دهشة إخوانه ورؤسائه، وعلى رأسهم شيخُ الأزهر، حينما أعلَن أنه معتزل هذا العالم إلى حيث يعيش في الفلوات والصحاري، مع الوحوش الضواري؛ فلعلَّها خير من هذا العالم الذي مُلِئ شرورًا، وبدَّل نعمةَ الله كفرًا.
أشفق عليه شيخ الأزهر، ورأى رأي العين أن الوعظ أنهَكَ قواه، وأنه حمَّل نفسه ما لا تحتمل، فأمر أن يهدأ ويستريح، وأنه في فترة سكون وطمأنينة، إذا هو يقرأ كتابًا بأنَّا قد ندبناك مدرِّسًا بمعهد القاهرة.
جريدة بحر يوسف، العدد 599، سنة 13
12 شوال 1361هـ، 22 أكتوبر سنة 1942
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك