شبكة ربيع الفردوس الاعلى  

   
 
العودة   شبكة ربيع الفردوس الاعلى > 3 > الموسوعة الضخمة ------- علوم القران و التفسير
 
   

« آخـــر الــمــواضــيــع »
         :: مصحف وليد الجراحي 1441 عام 2020 كامل 114 سورة 2 مصحف ترتيل و حدر كاملان 128 ك ب (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 027 النمل (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 012 يوسف (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 026 الشعراء (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 011 هود (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 025 الفرقان (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 024 النور (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 010 يونس (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 009 التوبة (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف الحرم المكي 1439 عام 2018 سورة 008 الأنفال (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)      

إضافة رد
   
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

  #1  
قديم 03-26-2015, 10:53 AM
منتدى اهل الحديث منتدى اهل الحديث غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 5,969
افتراضي التدبر في القرآن الكريم بحث كامل

المطلب الأول : تحديد المصطلحات

أولا- مفهوم التدبر :
لغة:من الدُّبُرُ والدُّبْرُ: نَقِيضُ القُبُل. ودُبُرُ كُلِّ شَيْءٍ: عَقِبُه ومُؤخَّرُه . والدال والباء والراء تدل على معانٍ قد ردها في معجم المقاييس إلى معنى كلِيٍّ بقوله:"أصل هذا الباب: أنَّ جُلَّه في قياسٍ واحد، وهو آخِر الشيء وخَلْفُه خلافُ قُبُلِه".
وقد استُعملَ في كلِ تأمُّلٍ يقعُ من الإنسانِ في حقيقةِ الشيءِ أو أجزائه أو سوابقِهِ أو لواحقِهِ أو أعقابِهِ . لذا حده في التعريفات:" بأنه النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب" فعرفه بالنظر وبأنه تفكر"
كما أن صيغة التفعل تدل على التكثير ، ومن دلالاتها أيضا التكلف والتدرج .

في الاصطلاح الشرعي :النظر فيما وراء الآيات من المعاني والدلالات والغايات.
معنى تدبر القرآن خاصة :
إذا أُضيف التدبر إلى القرآن أفاد معنيين :
الأول : تأمل دلالة تفاصيل آياته على مقاصده وإرشاده
الثاني : تأمل دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله

• قال صاحب الكشاف:" تدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يَدْبُر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة."
• وقال الخازن: " هو تأمل معانيه، وتفكر في حكمه، وتبصر ما فيه من الآيات"
• وفي لباب التأويل:"تدبر القرآن تأمل معانيه والتفكر في حكمه وتبصر ما فيه من الآيات." وقال أيضا:" ﴿   ﴾ يعني يتفكرون فيه وفي مواعظه وزواجره وأصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم وقت تلاوته ...." .
ثانيا- ألفاظ مقاربة
كثيرا ما يقرن أو يفسر لفظ التدبر بألفاظ قريبة منه في المعنى، لذلك يتعين التمييز بينها. فمن ذلك التَّفكُّرُ والتَّذكُّرُ والنَّظرُ والتَّأمُّلُ والاعتبارُ والاستبصارُ. قال ابن القيِمِ :"وهذا يسمَّى تفكُّرا وتذكُّرا ونظرا وتأمُّلا واعتبارا وتدبُّرا واستبصارا، وهذه معانٍ متقاربةٌ تجتمعُ في شيءٍ وتتفرقُ في آخر ، فيسمَّى تفكُّرا؛ لأنه استعمالُ الفكرةِ في ذلك، وإحضارُه عنده. ويسمَّى تذكُّرا؛ لأنَّه إحضارٌ للعلمِ الذي يجب مراعاته بعد ذهولِه وغيبتِه عنه. ويسمَّى نظرا؛ لأنَّه التفاتٌ بالقلبِ إلى المنظورِ فيه. ويسمَّى تأملا لأنه مراجعةٌ للنَّظرِ كرَّة بعد كرَّةٍ، حتى يتجلى له وينكشفَ لقلبِه. ويُسَمَّى اعتبارا، وهو افتعالٌ من العبورِ؛ لأنَّه يَعْبر منه إلى غيرِه."

1- التفكر: جاء في القاموس المحيط "الفَكْر، والفِكْر:إعمال الخاطر في الشيء" . فليس من دلالاته الوصول إلى الغايات، بل الاعتبار بالمشاهدت، بدليل أن "التفكُّر وقع في كتاب الله على الدلائل المنظورة من الكون، والنفس الإنسانية، والآيات المسطورة، وعلى ذلك فمتعلق التفكر في القرآن أعمُّ من متعلق التدبُّر؛ لأنَّ التدبُّر لا يكون إلا في الآيات المسطورة " .

2- النظر:" النون والظاء والراء أصلٌ صحيح ترجع فروعُه إلى معنىً واحد وهو تأمُّلُ الشّيءِ ومعاينتُه، فعماد هذه الكلمة هو المعاينة التي أداتها العين، فهو أقرب إلى التفكر منه إلى التدبر" .
"والمتأمل في الآيات التي وقع فيها النظر يجد أن الواقع عليه النظر أيضًا جاء متنوعًا ومتعددًا، ما بين النظر في ملكوت السموات والأرض؛ كما في قوله تعالى:﴿      ا﴾ وما بين النظر في عاقبة الذين سبقوا كفار قريش؛ كما في قوله تعالى: ﴿            ﴾ وما بين النظر إلى السماء كيف بُنيت وزُينت؛ كما في قوله تعالى:﴿       ﴾ ، وغير ذلك، لكن لم يقع النظر على القرآن مطلقًا. وانطلاقًا من كون القرآن الكريم هو منطلقنا في إطلاق المصطلحات المختلفة لا يصح أن نقول: نظر في القرآن؛ لأن القرآن لم يصرِّح بذلك، وهكذا الحال في نظائر هذين اللفظين، نحو: التعقل والاستبصار والاعتبار... وعلاقة النظر بالتدبر علاقة وثيقة؛ لأنَّ المتدبِّر ينظر للمُتَدَبَّرِ بأناة وتأمل حتَّى يصل إلى مراده من التدبر" .
3- التفسير:"الفاء والسين والراء كلمة واحدة تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحه" .
ورد التفسير في الذكر الحكيم مصدرا من الفعل الماضي الرباعي المضعف العين وهو لفظة فريدة وحيدة في القرآن الكريم مادة وصيغة، وقد وقع تمييزا لأحسن، على حقيقته اللغوية من الكشف والبيان والإيضاح، فبينه وبين التدبر تلازم واضح؛ فالتفسير هو البيان والكشف عن المعنى، والتدبر هو النظر في أدبار الآيات القرآنية وعواقبها للوقوف على معانيها المكنونة فيها، فالتفسير هو الوسيلة، والتدبر غاية نزوله كي يمتثل به قولا، وينتفع به سلوكا وعملا، ولن يتأتى الانتفاع والامتثال، والاتعاظ والاعتبار-وهي من مقاصد التدبر- إلا بعد فهم معانيه، فالمتدبر لا بد أن يفهم معاني الألفاظ، وتتضح لديه دلالاتها حتى يتدبر في مكنوناتها وما يعقبها، وعلى ذلك فالتدبر يعد أصلا للتفسير ، كما أن التدبر واجب الأمة كلها على تفاوت مراتبها، ولذلك جاء الأمر به في كتاب الله دون التفسير، بل وخوطب به الكفار.
4- التأويل: "الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه" ،والتأويل في القرآن الكريم جاء مصدرا بخلاف التدبر فلم يرد إلا فعلا مضارعا، وأن التأويل جاء -بإجماع المفسرين- لا بمعنى التفسير، بل بمعنى المرجع والعاقبة والمصير والتدبر، وعلى ذلك فلفظتا التأويل والتدبر في القرآن قريبتان؛ لأنهما يجتمعان في دلالة المآل والعاقبة، ولكن التأويل مرتبط بالآيات المتشابهات خفية الدلالة، والتدبر مرتبط بالمحكم والمتشابه، فمناطه أوسع .
5- الاستنباط:" يقال في الاستنباط ما قيل في التفسير؛ لأن غرض التفسير والاستنباط واحد وهو فهم المعنى ، أما التدبر فيتجاوزهما إلى قصد التذكر والاتباع، وبذلك يكون التدبر أوسع منهما.
وبيان ذلك أن الاستنباط ورد في القرآن بصيغة الفعل المضارع ما يتفق والتدبر، لكنه يختلف عنه في الاشتقاق، إذ أنه مأخوذ من الماضي السداسي )اسْتَنْبَطَ(، والألف والسين والتاء للطلب والمشقة والمعاناة الفكرية، أما التدبر فقد صيغ من الماضي الخماسي )تَدَبَّر( الذي يدل على التدرج والتتبع، كما أن لفظة الاستنباط وحيدة في القرآن مادة وصيغة بخلاف التدبر، وفاعل الأول هم أولو الأمر أما فاعل التدبر فثلاث طوائف: المنافقون، والكافرون، وجميع المؤمنين، وعلى ذلك فالمخاطبون بالتدبر أكثر من المستنبطين؛ لأن التدبر مطلوب من كافة الناس باختلاف مشاربهم، بخلاف الاستنباط؛ فإنه لا يكون للكافة بل يختص بالرسول  وأولي الأمر ، كما أن الواقع عليه الاستنباط هو الأخبار الخفية الدقيقة من الأمن والخوف، مما قد يتناقل بلا فهم أو روية، ويفشونها أما الواقع عليه التدبر هو القرآن بوجه عام لاسيما المقاصد الأصلية ، ومن ثم فالمستَنْبَطُ أخص من المُتَدَبَّر؛ لأنه واقع على الأخبار الخفية التي يجب أن يستخرجها أعلم الناس بحقائقها، والمتدَبَّر هو الذكر الحكيم ، فهناك علاقة وثيقة جدًّا بين المتدبرين والمستنبطين، فالمستنبطون يستخرجون ما خفي ودق من الأخبار ويقفون على صحتها، والمتدبرون لا يتدبرون إلا ما يحتاج في إدراكه إلى تأمل وتفكر وإنعام نظر؛ ليستخرج خفيه، ويوقف على حقيقته، فالتدبر على ذلك يُعدُّ أصلاً أصيلا للاستنباط؛ لأن الذي يستنبط لا بد أن يتدبر ، فالتدبر أعم .
المطلب الثاني: النصوص الواردة في التدبر
أولا- من كتاب الله:
إن الآيات التي تدعو للتدبر والاتعاظ بآي الذكر الحكيم كثيرة، من ذلك:
• قوله سبحانه ﴿                  ﴾
• وقوله تبارك وتعالى ﴿                         ﴾.
• وقوله جل شأنه ﴿     •       •        ﴾ .
• وقوله سبحانه ﴿  •     •                              ﴾ .
أما الآيات التي ورد فيها لفظ التدبر فهي معدودة، مع اختصاصها بربط لفظ التدبر بالقرآن أو ما يعبر به عنه، وهذا في أربعة مواضع، ثلاثة منها في مخاطبة الكفار و المنافقين ، وموضع رابع في مخاطبة المؤمنين .فأما الثلاثة التي خوطب فيها الكفار فجاءت مصدرة باستفهام إنكاري ، وتضمنت:
- إنكار إقفال القلوب عن تدبر الذكر الحكيم ﴿        ﴾ .
- إنكار عدم تدبر كلام الله ﴿     •    • }
-وأخيرا نفي الاختلاف عن كلام الباري جل وعلا ﴿              ﴾
- أما الموقف الرابع من مواقف التدبر في القرآن فقد خاطب الله فيه نبيه مبيناً الحكمة من إنزال القرآن: ﴿          ﴾

ثانيا – من أقوال السلف
1- في توجيههم الناس إلى العناية بالمباني دون تضييع للمعاني
• ذكر عبد الرّزاق عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمان السلمي قال:"كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعلم حلالها ,وحرامها,وأمرها ,ونهيها".
• ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له بإسناده عن عثمان وابن مسعود وأبيّ :"أنّ رسول الله ,كان يُقرؤهم العشر فلا يُجاوزوها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل ,فيعلمنا القرآن والعمل معاً".
• وذكر أبو بكر الأنباري عن أبي عمرو عن زياد بن مخراق قال:قال عبد الله بن مسعود :"إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن ,وسهل علينا العمل به,وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ,ويصعب عليهم العمل به".
• وفي هذا قال محمد بن الحسين الآجري:" ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم ,كيف يحثّ خلقه على أن يتدبروا, ومن تدبر كلامه عرف الرب عزّ وجل ,وعرف عظيم سلطانه و قدرته ... و تلاوته عبادة,والعبادة لا تكون بالغفلة" .
2- في ذمهم لمضيع التدبر والتفكر
*قال ابن الجوزي: "لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه أوفى المفهوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم .
*قال شيخ الإسلام:" دخل في قوله  :"خيركم من تعلم القرآن وعلمه " تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول من تعلم حروفه، وذلك الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وغيرهما: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانا، وأنتم تعلمتم القرآن، ثم تتعلمون الإيمان، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة"
*عن مجاهد في قوله عزّ وجل: ﴿ • ﴾ , قال: يعملون به حق عمله.





المطلب الثالث: مقاصد التدبر في القرآن
إنّ تدبر القرآن الكريم فيه النّظر إلى مقاصد القرآن العظيم ,فهو كتاب هداية وإعجاز ,تضّمن ما فيه سعادة الإنسان في الدنيا و الآخرة.
و القرآن العظيم يدور حول ثلاث قضايا مقصودة بالتدبر ,وهي :
• الأولى:تقرير التوحيد وأمور العقيدة.
• الثانية:تقرير الأحكام الشرعية :الحلال,و الحرام,والأمر والنهي.
• الثالثة:ذكر قصص الأنبياء و السابقين,وأخبار المشركين وأحوالهم مع رسول ربِّ العالمين.

ومن جهة أخرى، فالمقصد الأسمى من تدبر القرآن هو أن يتمثل به قولا، وينتفع به سلوكا وعملا، ولن يتأتى الانتفاع والامتثال، والاتعاظ والاعتبار، إلا بالنظر والتدبر في مقاصده السالفة الذكر، تدبرا في مبانيه ومعانيه للاستفادة من مكنون توجيهاته وأحكامه العلمية والعملية .
والمسلم في قراءته للقرآن العظيم يتفهم هذه المقاصد الكبيرة ,ويستفيد ممّا فيها , ناظرا ومتفكرا ومتعظا, وهذا سرّ ختم الكثير من الآيات بما يفيد طلب التفكر ,و الرُّشد ,و العبرة ,و العظّة ,و الرجوع إلى الصواب. مع هذا يحسن التنبيه على أن تفهم هذه المقاصد قد يتفاوت فيه الأشخاص تبعا لتفاوت آلة النظر عندهم .قال ابن القيم: " والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حُكْمَاً أو حُكْمَيْن، ومنهم من يفهم منها عشرةَ أحكام، وأكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ، دون سياقه، ودون إيمائه، وإشارته، وتنبيهه، واعتباره " ، وعليه فالتدبر مراتب:
- المرتبة الأولى: تدبر العامة، وهو الوقوف عند الآيات مع الفهم العام لها والتبصر بما اشتملت عليه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد، والانتفاع بها والعمل بها وصورة ذلك: أن يقرأ القرآن ويقف مع آياته متأملا في وعده ووعيده وأمره ونهيه فيزداد إيمانه وخشيته.
- المرتبة الثانية: تدبر العلماء، وهو الوقوف عند الآيات مع الفهم لمعناها ودلالاتها، والتبصر بمقاصدها وهداياتها، والانتفاع بها إيمانا وعلمًا وصورة ذلك: أن يقف مع آيات القرآن بإنعام النظر وإعمال العقل في مقاصدها ومعانيها ودلالاتها، وينتفع بها .
- المرتبة الثالثة: تدبر العلماء الربانيين: وهو الوقوف عند الآيات مع الفهم لمعناها ودلالاتها ومقاصدها وهداياتها، والتبصر بما اشتملت عليه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد، والانتفاع بها علما وإيمانا وعملا، وهذه مرتبة التدبر الأمثل. وصورة ذلك: حال السلف الصالح في تلقيهم القرآن .
المطلب الأول: مقومات التدبر
لما كان التدبر في كلام الله من أهم المهمات، قال تعالى:﴿          ﴾، تعين على كل مريد للتدبر في كلام الله أن يحصل شروطه وأركانه، وأن يتلافى موانعه، حتى يكون على طريق قويم وهدي سديد، وهو ما يجمعه لفظ المقومات.
أولا- أركان التدبر:
لا بد من تقوى الله والإخلاص له في كل ما يأتيه المرء ويذر، ولما كان التدبر واقعا من كل ذي لب، فلا سبيل لاشتراط الإخلاص فيه، فضلا عن جعله ركنا له، مع ذلك فإن المسلم يقصد بالتدبر في كلام الله ما لا يقصده غير المسلم ﴿          ﴾ .
أ‌- التفكر والنظر والاعتبار:
تقدم أن التدبر: إلا نتيجة نظر العقل وتفكره واعتباره بالحال والمآل، فالتفكر يوقع لصاحبه من الإيمان ما لا يوقعه له العمل ، فإذا فكر العبد في عواقب الأمور، وتجاوز فكره مباديها، ووضعها مواضعها، وعلم مراتبها، فإذا ورد عليه وارد الذنب تجاوز بفكره لذته إلى سوء العاقبة التي استيقنها بالنظر في المآلات وبالاعتبار، وانتقل بنظره واعتباره من ضيق الجهل إلى سعة العلم ، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين.
ب- فهم علوم اللغة: من نحو، وصرف، وبلاغة، ودلالاتِ الألفاظ؛ فإنَّ فهم أسرار القرآن الكريم، يحتاج إلى الاطلاع على كلِ علومها ، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في ذلك: "فلابدَّ من فهم كلام الله؛ ومعرفة العربيَّة التي خُوطبنا بها ممَّا يعينُ على أن نفقه مرادَ الله ورسوله، فإنَّ عامَّة ضلال أهل البدع كان هذا سببه؛ فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدَّعون أنه دالٌّ عليه " .
ج-الذوق اللغويُّ السليم: إنَّ قراءة القرآن الكريم، ولو توافر معها التقوى والإخلاص ومعرفة العربيَّة، تستلزم القدرة على الوقوف على جمال الأسلوب وبلاغة كلام العرب؛ لأنَّ ذلك يحتاج أيضا إلى ذوق سليمٍ، وإدراك مواطن الإعجاز اللغويِ في القرآن الكريم تتطلَّبُ وجود مَلَكَةِ الذوق القادرِ على تمييز الفروق بين المشتبهات وأسرارها، وعلى مواطن الفصاحة والبلاغة، وإجراء الكلام على النَّسق الرائع.




ثانيا- شروط التدبر :
أ- الملاحظة العلمية الدقيقة: إذ أن قسطا كبيرا من التقدم العلمي الحديث يعود إلى تمتع الذين ساهموا فيه بمهارات الملاحظة وحسن استعمال أبصارهم وأسماعهم تم تركيز أفكارهم، ولذلك كان التأكيد القرآني على مسؤولية الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده، لأن مهارات الملاحظة الدقيقة شرط أساس في سلامة التدبر في القرآن الكريم ومقدمة للوقوف على لطائف معانيه.
ب- سلامة المقصد مع التروي والأناة: بأن يكون قصده الوصول إلى الحق ، لذا يشترط التدرج وعدم الاستعجال، لأن في التدرج مراعاة لقوانين التعلم، وهو ما كان عليه الصحابة. فقد روي أن عمر بن الخطابتعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، وعندما ختمها نحر جزروا.
جـ- عدم التسرع في تقبل واردات الفهم والاعتماد على الحجة: خلال التدبر تتوارد الأفكار وأنواع الفهم ويكون لها في بدايتها بريق خاص لا يقاوم، وهنا يجب الحذر من التسرع في تقبل أفكار الفهم الحاصل إلا بعد التأكد من خلوها من الفهم الذي يصطدم بأصول التوحيد ويتعارض معه.
د - الرجوع إلى المصادر اللغوية والأحاديث الصحيحة والتفاسير الموثوقة مع التمكن من مناهج البحث فيها.
ه- الثقة بالنفس والاجتهاد ما أمكن مع مراعاة مقاصد الشريعة ومواطن الاستنباط و النظر:
ثالثا- موانع التدبر: كثيرة ومن أهمها:
أ‌- أمراض القلوب والإصرار على الذنوب:وهي أعظم ما يصد القارئ عن اتعاظ قلبه وانشراح صدره لمواعظ القرآن وحكمه وأحكامه، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى:﴿         ﴾ .
قال الزركشي: "أعلم أنه لا يحصل للناظر فهم المعاني للوحي، ولا يظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة، أو كبر أو هوى أو حب الدنيا، أو هو مصر على الذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على مفسر ليس عنده علم أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض" . وقال ابن قدامة: "من موانعه أن يكون التالي مصراً على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو مبتلى بهوى مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل الجلاء للمرآة ." وقال في إغاثة اللهفان:" الغناء يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن، وتدبره، والعمل بما فيه"
ب‌- الإعراض عن تلاوة القرآن: فالتلاوة مفتاح التدبر ومقدمته، وهذا الإعراض قد يكون بسبب انشغال المرء بدنياه عن آخرته، أو بشيء من أمور الآخرة كطلب العلم والدعوة إلى الله وغير ذلك، ومهما كانت الأسباب فلا شك أن من أعرض عن التلاوة للقرآن الكريم قد غبن نفسه وحرمها من خير كثير.
ج- الانشغال بالتلاوة أو الحفظ عن التدبر: بحيث يكون هم الإنسان أن يستكثر من التلاوة أو الحفظ دون أن يلقى بالا لتدبر ما يقرأ.
د- ما يدعيه بعضهم من أن فهم القرآن الكريم وتدبره لا يقدر عليه كل أحد: وإنما للمتخصصين فقط، ولاشك أن هذا تلبيس الشيطان، وفيه حق وباطل، أما الباطل فهو أن هذا ليس في كل القرآن، فإن فيه ما هو واضح جلي لكل أحد.






















المطلب الثاني: وسائل التدبر

لقد تعرض الباحثون لوسائل التدبر الأمثل في كتاب الله تحت عناوين مختلفة فمنهم من سماها الوسائل ومنهم من عبر عنها بالمفاتيح ، وعلى كل نجملها في ما يلي:
1-استشعار أهمية التدبر:وذلك باستحضار أن التدبر هو المقصود من إنزال القرآن الكريم، وأنه من وسائل التفقه في الدين والعلم بالحلال والحرام .
2-قيام الليل به : قال عز وجل: ﴿إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا﴾ .
3-الترتيل وتكرار الآيات:الترتيل بمعنى الترسل والتمهل، بحيث يكون القارئ متفكرا فيما يقرأ...وصفة القراءة التي نقلت إلينا عن النبي  و صحابته رضوان الله عليهم تدل على أهمية الترسل وتزيين الصوت بالقراءة، فمن ينظر إلى أي كتاب في التجويد يدرك هذه الحقيقة بجلاء ووضوح، والهدف من التكرار هو التوقف لاستحضار المعاني؛ وكلما كثر التكرار كلما زادت المعاني التي تفهم من النص .
4-قراءة كتاب الله وتدارسه، والعمل بما فيه وتعليمه والدعوة إليه : مما يفتح به الله تعالى على عبده ، فالجزاء من جنس العمل.
5-تحسين الصوت عند القراءة: وللصوت الحسن أثرٌ كبيرٌ في تدبر كلام الله تعالى، وقد حثَّ النبيُّ على تزيين الصوت عند القرآن فقال: "زينوا القرآن بأصواتكم " . وقال:"ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" .
قال الله.: "أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار أئمةِ المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وأقوالهم وأفعالهم مشهورةٌ نهاية الشهرة، فنحن مستغنون عن نقل شيء من أفرادها، ودلائل هذا من حديث رسول الله ؛ مستفيضةٌ عند العامة والخاصة " . والمطلوب من تحسين الصوت أن تنتج قراءته خشية الله .


6- فهم لوازم النص ومقاصده: وهذا من أعظم أسباب تدبر القرآن الكريم، فإن القرآن كثيراً ما يذكر في القصص مواطن العبرة، ويترك للفؤاد والعقل مطلق التأمل والتدبر في ما لم يذكر، وقد يختم الآية بعلة لم تعلق بشيء، ليتأمل العقل، ونظيره ما قاله صاحب فتح القدير في قوله سبحانه : ﴿        ﴾ :" ولم يقل عن كذا ، بل أطلقه؛ لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ؛ لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب ، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام ، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، كما تقرّر في علم البيان" .
و يدخل في هذا السبب معرفة مقاصد سور القرآن وآياته، وهو باب عظيم لتدبر القرآن الكريم، وتطبيقاته في كتب التفسير كثيرة خصوصا في القصص والأمثال القرآنية.









المطلب الثالث: علامات التدبر
إن التدبر في القرآن الكريم يعتبر مفتاحا للخير الدنيوي والأخروي؛ وهو من أعظم السبل التي يرتقي بها الإنسان روحيا سلوكيا أخلاقيا ونفسيا. ولما كان التدبر يختلف من شخص لآخر بحسب زاوية نظره وما يريده من النظر والتأمل وقدراته العقلية والعلمية، كانت علاماته تختلف بحسب كل ذلك . ولقد لمسنا في كتابات أهل العلم في هذه الحيثية ركونا إلى تعداد العلامات الخاصة بالجانب النفسي والسلوكي، بعيدا عن الجانب العملي للتدبر، ومن العلامات التي يمكن سردها في هذا المقام:
1- التوصل إلى الإيمان بوحدانية الله ؛والشعور بعظمته سبحانه :حيث قال جل جلاله:﴿        •     ﴾ .
2- الهداية الشاملة والنصيحة لكتاب الله: فالهداية لا تكون إلا لمن يؤمن به فيتدبره ويعمل به؛ويبذل الجهد في النصح إليه .قال تعالى:﴿ •       ﴾
3- التلذذ بالقرآن والشفاء الحسي والمعنوي:فالتلذذ يحصل بالتدبر عند راحة القلب بتلاوته؛كما أنه يؤدي إلى زوال الشبهات والشهوات التي ترد على النفس ؛وفي القرآن الشفاء من ذلك كله ؛قال تعالى:﴿  ••   •           ﴾
4- يحقق التدبر الطمأنينة والتثبيت :قال الله عز وجل:﴿              ﴾.
5- الاطلاع على أسرار التشريع : يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته، والهدى يشمل العلم النافع، والعمل الصالح. فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله منه، وسهله عليه ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه."
6- يساهم في تكوين ملكة الاجتهاد: فلما كان القرآن أصل العلوم ومنبعها، كان للمتدبر في كلام الله قسط وافر من العلوم التي يبلغ بها المرء رتبة الاجتهاد. وقد نص غير واحد من الأصوليين على أن من شروط الاجتهاد الإحاطة بعلوم الكتاب الجيد كالناسخ والمنسوخ وغيره .

المطلب الأول: التدبر في القراءات
لم يكن إنزال القرآن الكريم على سبعة أحرف مجرد تهوين وتسهيل على ألسنة الناطقين العرب ومراعاة للهجاتهم المختلفة وقواعد ألسنتهم فحسب ،وإنما كان إنزاله على أكثر من وجه ليدل دلالة مقصودة على أكثر من معنى وليحقق أكثر من غرض بياني موصولا بإعجاز القرآن في وجوه مختلفة ،إستغناءً بذلك التغيير الجزئي عن إنزال آيات كاملات لبيان المعنى الذي يضيفه التغيير الجزئي في النص الواحد ،ولا يظهر هذا المقصد للقارئ بمجرد القراءة وإنما يتأتى ذلك بعد التعمق والتأمل والتدبر في آيّ الذكر الحكيم ، وهي عملية ذهنية يضطلع بها أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وقد اعتنى العلماء قديما وحديثا بهذا الباب العظيم وألفوا فيه التآليف النافعة، ونتناول في هذا المطلب نماذج من عدة سور:

- من سورة الفاتحة :
قوله تعالى:﴿     ﴾ قرئ ملك ومالك وملك بسكون اللام، وملك بصيغة الفعل وقد اختلف العلماء أيهما أبلغ ملك أو مالك ؟فقيل :إن ملك أعم وأبلغ من مالك، إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا ينصرف إلا عن تدبير الملك قاله أبو عبيد والمبرد ورجحه الزمخشري وقيل:مالك أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم، لأن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى.
وقال أبو حاتم :إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا. واختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي .
وقيل مالك بالألف هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف شاء، والملك بالحذف هو المتصرف بالأمر و النهي في المأمورين من الملك بضم الميم
- من سورة النساء:
قوله تعالى: ﴿       •﴾ قال ابن القيّم رحمه الله:" قرئ برفع التجارة ونصبها فالرفع على التمام ،والنصب على أنها خبر "كان"الناقصة ،وفي اسمها على هذا وجهان:أحدهما :التقدير: إلا أن يكون سبب الأكل أو المعاملة تجارة .والثاني: إلا أن تكون أموال الناس تجارة". ونصب تجارة على أن كان ناقصة واسمها ضمير الأموال، وبالرفع على أنها تامة، وعن "تراض" صفة لـ"تجارة"فموضعه رفع أو نصب .
- من سورة طه:
• قوله تعالى :﴿  ﴾ قرئ:بهمزة قطع مفتوحة وكسر الميم على أنه فعل أمر أجمع أمره أي : أحكمه ، وقرئ: بهمزة وصل تسقط في الدرج فتلتقي الفاء بالجيم والميم مفتوحة على أنها فعل أمر من جمع وهو الجمع بمعنى : الضم ويلزمه الإحكام فتتحد القراءات في المعنى فجمع وأجمع يتعديان بالواحد قالوا : أجمع أمره وجمع أمره بمعنى وإن كان الثلاثي يتعدى للحسي والمعنوي يقال : جمعت الورق و جمعت أمري على كذا بخلاف الرباعي ،فإنه خاص بالمعنوي ،يقال :أجمع أمره ،ولا يقال :أجمع ورقه. ونسبت القراءة الثانية إلى أبو عمرو يعني جيئوا بكل كيد تقدرون عليه ،أي لا تدعوا منه شيئا إلا جئتم به ،وحجته قوله تعالى قبلها "فجمع كيده "
• قوله تعالى :﴿ •﴾ فيها ثلاث قراءات ،الأولى:بضم النون وفتح الحاء وكسر الراء مشددة على أنها مضارع من حرق بالتشديد فيه مبالغة في الحرق ،الثانية :بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء على أنها مضارع أحرق قالوا : أحرقه بالنار إحراقا وأحرقه تحريقا ، الثالثة :بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء مخففة على أنها من "حرق"الثلاثي يقال: حرق الحديد بفتح الراء يحرقه بضمها إذا برده بالمبرد. وقد جُمع بين القراءات بأنه أحرق ثمّ برد بالمبرد .
- من سورة الأنبياء:
قوله تعالى :﴿   ﴾ قرئ :بفتح القاف واللام بينهما ألف "وهي قراءة حمزة و الكسائي وحفص" على أن الفعل ماض مسند إلى ضميره ، والكلام إخبار من الله تعالى حكاية عما أجاب به النبي الطاعنين في رسالته وفيما جاء به وقرئ :بضم القاف وسكون اللام على أنه أمر من الله تعالى لنبيه أيجيب الطاعنين بقوله ﴿قل ربي يعلم﴾الآية ،قيل هذه القراءة أولى لأنهم أسروا هذا القول فأطلع الله رسوله على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا ،قال النحاس :القراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين ﴿وهو السميع ﴾ لكل ما يسمع ﴿العليم ﴾بكل معلوم فيدخل في ذلك ما أسروا دخولا أوليا .
- من سورة المؤمنون:
قوله تعالى :﴿      ﴾ قرأ ابن كثير وحده " أماناتهم" بدون ألف بين النون والتاء على التوحيد لأنه مصدر في الأصل يدل على القليل والكثير يقال:أمنه على كذا يأمنه إذا استحفظه إياه و المصدر لا يجمع ،أو لإرادة الجنس فيصدق بالواحد والمتعدد،وقرئت :بألف بين النون والتاء لإرادة الأنواع .وهي أنواع مختلفة متعددة ولذلك يحسن جمعها ؛لأن الأمانات التي يلزم الناس مراعاتها مختلفة وكثيرة فجمع لكثرتها . وهي قراءة الجمهور
قوله تعالى :﴿ ﴾ قرئت" :بفتح التاء وضم الجيم على أنه مضارع هجر من الهجران بمعنى الترك ،والمعنى أنكم تهجرون النبي  وآياتي وما يتلى عليكم من كتابي، فشبَّه الله تعالى من ترك القرآن والعمل به كالهاجر لرشده، وهي قراءة الجمهور . وقرئ :بضم التاء وكسر الجيم مضارع أهجر يقال :أهجر يهجر بمعنى أفحش في القول ،ومعنى :(سامراً تهجرون) قال ابن عباس:(تأتون بالهجر والهذيان ومالا خير فيه) وهي قراءة نافع وقرأ زيد ابن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هجر بالتشديد .
قوله تعالى :﴿    ﴾ قرئ :بخفض الميم من عالم على أنه بدل من لفظ الجلالة أو صفة فإنه معرفة بالإضافة بتاء على أن المراد منه الثبوت والاستمرار . وقرئ : بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة :مقررة لكمال تنزيهه عن الشريك والولد إذ هي بمثابة برهان آخر على وحدانيته لتفرده بكمال العلم ،وهي قراءة نافع وحمزة والكسائي و أبوبكر .







المطلب الثاني: التدبر والاستنباط
إن التدبر لاستنباط المعاني من المباني والنظر في المناطات من أعلى مقامات النظر التي لا يجترأ على خوض غمارها إلا من أخذ قدرا من المعارف و العلوم المتعلقة بعلوم القرآن , فهي خاصة بالعلماء بخلاف ما دونها من مراتب التدبر. ومن أمثلة هذا المقام استنباط حبر الأمة  لأجل رسول الله  من قوله تعالى:﴿       ﴾
يقول ابن كثير:"فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله و تفسير ذلك و طلبه وتعلمه ذلك و تعليمه كما قال تعالى:﴿       • ••               ﴾ فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله … فعلينا مجانبة سبيل من ذمهم الله تعالى به وان نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا و تعليمه و تفهمه و تفهيمه " .

وعن هذه المرتبة الرفيعة يقول الشاطبي –رحمه الله- :"الاعتبار بالقرآن قلما يجيده إلا من كان من أهله عملا به, فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده ,كما لم يخرجوا في العمل به، و التخلق بأخلاقه عن حدوده ,بل تتفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه".

و عن استنباط الحكم و الإشارات و اللطائف و الدلائل التي لم يعرج اللفظ على ذكرها يقول ابن القيم رحمه الله : " وأنت إذا تأملت الآية حقها و دلالة اللفظ و إماءاته، و إشاراته و تنبيهاته، و قياس الشيء على نظيره ، و اعتباره بمشاكله و تأملت المشابهة التي عقدها الله و ربطها بين الظاهر و الباطن فهمت هذه المعاني كلها و بالله التوفيق".

و قاعدة الاستنباط من أجل القواعد و انفعها على أنها تستدعي قوة فكر و حسن تدبر و صحة قصد، ومن أكثر منها و داوم عليها نمت لديه ملكة فقهية. وفيما يلي بعض النماذج :

1 -ما يستنبط من قوله تعالى ﴿         •   •                         •                                 ••    ﴾ قال الجصاص رحمه الله "و فيها الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى أخره مع العلم بان المجامع في آخر الليل –إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر –يصبح جنبا ثم حكم مع ذلك – بصحة صومه "ثم أتموا الصيام إلى الليل ".
2 – و منها ما ذكر السيوطي رحمه الله من جملة الاستنباطات و الفوائد في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام قال "فيها انه لا بأس بالاستخدام و اتخاذ الرقيق و الخادم في السفر ,واستحباب الرحلة في طلب العلم و استزادة العالم من العلم, و اتخاذ الزاد للسفر وانه لا ينافي التوكل، و نسبة النسيان مجازا و تأدبا عن نسبنها إلى الله تعالى ,و تواضع المتعلم لمن يتعلم منه، و لو كان دونه في المرتبة، و اعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه ما لا يحتمله طبعه , وأنه يلزم الوفاء بالشرط , وجواز أخذ الأجرة على الأعمال، وأن الغصب حرام، وانه يجوز إتلاف مال الغير وتعييبه لوقاية باقيه كمال المودع و اليتيم ,وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب الأخف "
3- في قوله تعالى: ﴿                       ﴾ و مذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا : وكذلك الشركة والهبة والصدقة لا يفسخ. قال ابن العربي: والصحيح فسخ الجميع، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. ورأى بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا، وتأول النهي عنه ندبا، واستدل بقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. وهو مذهب الشافعي فالبيع ينعقد ولا يفسخ.
وقال الزمخشري في تفسيره: إن عامة العلماء على أن ذلك لا يؤدي إلى فساد البيع. قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ؛ فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعضهم أنه فاسد.



الخاتمة:

الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
فلقد تبين للقارئ المبارك كيف أن النصوص الشرعية قد حذرت من الاقتصار على حفظ اللفظ، بعيداً عن فهم المعاني السامية التي تحملها الآيات، مبينةً مغبة ذلك على الفرد والمجتمع، فمن لم تربي معاني الآيات قلبه ولم تكسبه الخشوع والخشية ، فإنها حتماً ستحمله على التعالي والاغترار بحفظ رسم القرآن، دون فهمٍ لما يحويه نظمه أو تحمله كلماته، إذ لابد من الجمع بين الحفظ والتدبر، والعمل على فهم معاني الآيات، والانقياد لها، وتطبيقها والعمل بها.
ولقد توصلنا من خلال بحثنا إلى جملة من النتائج نجملها فيما يلي:
• بيان معنى التدبر في اللغة والاصطلاح ليكون بمثابة التوطئة والتمهيد للدخول في الموضوع .
• إن تدبر القرآن عبارة عن النظر في عواقب الآيات ومآلاتها للوقوف على المقاصد والغايات منها وأخذ العبر والعظات من منطوقها ومفهومها و معقولها .
• وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تأمر بالتدبر وتحث عليه .
• إنّ تدبر القرآن الكريم فيه النّظر إلى مقاصد القرآن العظيم، والتي ترجع إلى ثلاث قضايا أساسية وهي:
- الأولى:تقرير التوحيد وأمور العقيدة.
- الثانية:تقرير الأحكام الشرعية :الحلال,و الحرام,والأمر والنهي.
- الثالثة:ذكر قصص الأنبياء و السابقين,وأخبار المشركين وأحوالهم مع رسول ربِّ العالمين.
• إن التدبر الأمثل لابد له من مقومات هي أركان و شروط تؤلف مجتمعة الركائز الأساسية له .
• إن لتدبر القرآن الكريم موانع تحول دون الوصول إلى التدبر المأمور به .
• تدبر القرآن له وسائل متنوعة ومتعددة تعين على تحقيقه .
• إن لتدبر القرآن الكريم ثمرات ومنافع ترجع على المتدبر بخيري الدنيا و الآخرة .
• إن الوصول إلى المعاني المتعددة التي تدل عليها القراءات المختلفة لا يتحقق إلا عن طريق التدبر في آي الذكر الحكيم.
• إن التدبر أصل الاستنباط فلا يمكن الاستنباط من النص قبل تدبره والتأمل في معانيه .

فعلى ضوء ما سبق من النتائج وما أثبت من أهمية للموضوع، يمكن الخلوص إلى التوصيات التالية:
- ضرورة الاشتغال بالقرآن تدبرا، وفهما إلى جانب العناية بلفظه وتحفيظه مما يكون أبلغ في تحقيق مقاصده، وتجلية أغراضه، وعليه مشى السلف.
- ربط الأمة بما فيه رفعتها، من خلال جعل التدبر ركيزة ومنطلقا لإبراز الإعجاز البلاغي والعلمي.
- ضرورة العناية بالتدبر في كتاب الله لمن تصدى لدعوة الكفار إلى دين الله، حتى يحقق قوله تعالى ﴿        ﴾ [الفرقان:52] .
- ضرورة رد الاعتبار لمنزلة التدبر بأن تجعل من وظائف العلماء الربانيين ذوي الأقدام الراسخة في العلم الشرعي، لا من الأمور الثانوية التي لا يلتفت إليها إلا في دروس الرقائق .
- ضرورة عناية طلبة العلم بالتدبر في كلام الله إذ هو بمثابة المنظار الذي يقرب المعاني ويزيدها عمقا، مما يعضد قواه العلمية والعملية.

هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك

رد مع اقتباس
 
   
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

   
 
 
 
   

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية

الساعة الآن 05:06 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات