عاطفة المحدثين نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم
د. محمد إبراهيم العشماوي
كان عبدالله بنُ عون الإمام، القدوة، عالم البصرة، أبو عونٍ المزنيُّ مولاهم، الحافظ، من شيوخ سفيانَ وشعبةَ وابنِ المبارك، ومن أئمَّة العلم والعمل، قد عاش خمسًا وثمانين سنةً، وكان يتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فلم يره إلا قبل موته بيسيرٍ، فسُرَّ بذلك سرورًا شديدًا.
فنزل من درجته إلى المسجد، فسقَط، فأصيبت رجله، فلم يزل يعالجها حتَّى مات رحمه الله![1]
لم يكن ابن عونٍ مجرَّد راويةَ أخبار، ولا زاملةَ أسفار، ولم يشَأ أن يَقضي عمره في حِفظ السُّنة، دون أن يكون له حظٌّ من صاحب السنَّة، فلا جرَم أن عاش مُلتاعَ الفؤاد من محبَّته، متشوِّقًا طول عمره إلى بهيِّ طلعته، وكريم رؤيته، حتَّى أُكرم بها قُبيل وفاته، ثمَّ كانت خاتمته بعدها، مسرورًا محبورًا بما نال من الكرامة، ويا لها من خاتمةٍ حسَنة، تُبذل في سبيلها المُهج والأرواح!
ولئن جاءت هذه الرُّؤيا متأخِّرةً على قدر عمره الذي عاشه، وشدَّة تمنِّيه لها، وكونه من المؤهَّلين لنيل هذه الرُّتبة الفخيمة؛ فإنَّها لم تكن كرامتَه الوحيدة من رسول الله، جزاء حبِّه له، فلقد تراءى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يقول لهم: ((زوروا ابنَ عونٍ؛ فإنَّه يحبُّ الله ورسولَه - أو - إنَّ الله يحبُّه ورسوله))![2].
لقد بادله حبًّا بحبٍّ، وأوصى النَّاس بزيارته في عالم الشَّهادة، تمهيدًا للزِّيارة العظمى في عالم الغيب، ومَن رآه في المنام فقد رآه حقًّا!
إنَّ علاقة المحدِّثين برسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ ينبغي ألا تكون علاقةً وظيفيَّةً، بل يجب أن تكون علاقةً روحيَّةً، فقد علم المجرِّبون أنَّها أنفعُ وأرفع، وما لهم لا يصبون إليه بأرواحهم، وقد حنَّ إليه الجذع، وأنَّ إليه الصَّخر، وسلَّم عليه الشَّجر!
فليت شِعري، مَن يروي ذلك عنه، ثمَّ لا تطير روحه شوقًا إليه؟!
وقد كان الحسن إذا حدَّث بحديث الجذع قال: "يا عبادَ الله، الخشبة تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه لمكانِه من الله عزَّ وجلَّ وأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إلى لقائه"؛ أخرجه أبو يعلى، وصحَّحه الألباني.
ومن لم تكن له هذه العلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس له إلا صورة المحدِّث، دون حقيقتها، وإن زعَم أنَّه أمير المؤمنين في الحديث!
[1] سير أعلام النبلاء (6/ 368)، ط مؤسسة الرسالة.
[2] سير أعلام النبلاء (6/ 371).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك