عن الكرشة والفشة والرأس وما حوى!
هارون محمد غزي
• هذه صفحة من المذكِّرات الخاصة بوالدي المرحوم بإذن الله تعالى:
"إنَّ للكرشة بالطماطم، والحمَّص آثارًا كبيرة على العبد لله؛ فأكلُها كان عيدًا له، ومشبعًا لجوعه بأقلِّ القليل من التكاليف.
وكانت الأم المدبّرة - لا رغبةً في الاقتصاد والتوفير - ولكنها مدبِّرة رغم أنفها؛ لقلَّة ذات اليد، ومحدودية الرزق، التي لا تُتيح للأسرة المكوَّنة من الزوجين والابن والبنت أن تتذوَّق اللحم الأحمر، ولا لحم الدجاج، والبط، والأرانب، خاصة الأرانب! فرغم انعدام القدرة الماليَّة على شرائها؛ فإن الأم موقنةٌ تمامًا أن الأرنب إنْ هو إلا فأرٌ أبيضُ اللون تأنف منه؛ لذلك انقادت لخوفها، فامتنعت عن إمساكه بالمرة، فكيف مع كل هذه الموانع نَطمع في أن تُعدَّ لنا أرنبًا بالملوخية؟!
فلم يكن أمام أمِّنا الحَنون في المواسمِ والأعياد، وأيام الفرَج - حيث يتوفَّر شيء من الرزق المحدود - إلا أن توسِّع علينا بأكلة كرشة "كمُّونية" بصلصة الطماطم والحمَّص المطبوخ.
وكنا أيامَ البرد نلحظُ تجمد الصلصة بما حوَت من دهون الكرشة، فنغمس بها في نهَمٍ وسعادة.
وأحيانًا ما تطبخ لنا الكوارع، وكثيرًا ما كانت تفضِّل لحم اللسان؛ حيث تذهب بي معها إلى السلخانة، وتتوجَّه من فورها لرُكن المسمط حيث يقوم المسمط بتنظيف سقَط الماشية، وملحَقاته؛ من الطحال، والفشَّة، والكلاوي، والكوارع، والرأسِ وما حَوى؛ من مخٍّ، ولسان، وجوهرتين، وغيرها من لحوم الرأس، وملحقاته من الأذنين، واللسان، والزور! فهذه لحوم الفقراءِ ومحدودي الدخل؛ لأنها الأرخصُ بالنسبة لغيرها من اللحوم الحمراء أو البيضاء.
رأيت المسمط في ملابس المهنة (الجوانتي) الجلد السَّميك في يديه، والحذاء من الجلد الصِّناعي ذي الرَّقبة الطويلة التي تصل للركبتين، و(مَريلة) جلد صناعي؛ لتحمي بدَنه من رشاش الماء المغلي، يقف على حوض به حنفية مياه شديدة الحرارة؛ لغليانها؛ لذلك تغطس فيها الكوارع، أو الكرشة، أو الرأس فيسهل إزالة الشعر، وما بها من وسخ، فتخرج من المسمط في غاية النظافة، تفتح النفس التي قرمَت إلى اللَّحم مع قِصر ذات يدها، كنا نلتهم بشراهةٍ وسعادة هذا السَّقط من المواشي، ظانِّين أنها مبعَث الصحة والدِّفء والنشاط، إضافة إلى الشِّبع، إلا أننا صُدِمنا بعد أن هَرمنا أنها سبَّبَت لنا انسدادَ شرايين القلب، وتصلُّبَ الشرايين عامَّة، ومرض الدهون على الكبد.
الأمر الذي أصبحَت معه مصاريف العلاج من هذه الآثار المدمِّرة شبهَ مستحيلة؛ لضآلة المعاش وعدم جدوى علاج التأمين الصحِّي، فليس أمامَ المرء إلا الصبرُ انتظارًا للانتقال إلى البرزخ.
فإنا لله وإنا إليه راجعون"
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك