أثر اللذة في النفس، ومتى تضمن انتعاشها؟
مجلة التمدن الإسلامي
قضت الحكمة الأزلية أن تكون السبل التي تحفظ للإنسان حياته وتكفل للبشرية بقاء كيانها، لذيذة محببة للإنسان الخاضع لغريزة حب البقاء، فتناول الأغذية النافعة للجسم، وإجابة رغبة الغريزة الجنسية، لذتان معدودتان من أمهات اللذات الجسدية الحافظة لحياة الإنسان. فما أثر كل منهما في النفس يا ترى؟
أ- لذة الطعام:
من الطبيعي أن لذة تناول الأغذية، تدفع الإنسان إلى التغذية، فتعجل بنماء جسده، وتمنحه قوة ومناعة تساعدانه على در شر الجراثيم المهددة لكيانه، ولما كانت إطاعة لذة الغذاء انقياداً إلى غريزة حب البقاء كان من الطبيعي أن تنعش النفس المتشبعة بهذه الغريزة، لأن الجائع تتخاذل قواه النفسية بانحطاط قواه البدنية، ومتى سد حاجته إلى الطعام، عادت نفسه سيرتها الأولى، فتراه يستطيع العود إلى درسه وبحثه أو عمله.
ولكن الأمر الذي لا شك فيه، هو أن الانقياد إلى لذة التغذي بدون هوادة واعتدال، لا بد وأن يأتي بعكس الغرض المطلوب الذي هو حفظ الكيان الجسدي، كما هو ثابت في قواعد حفظ الصحة، أما تأثير الانقياد إلى شهوة النهم في النفس، فإنه يأتي بعكس المطلوب أيضاً: فترى من لذ له الطعام واستسلم لشهوة النهم، كئيباً متخاذل القوى النفسية، لا يتمكن من العودة إلى أعماله إلا بعد الخلود إلى الراحة مدة غير قصيرة، وما ذلك إلا لما أحدثه الطعام في نفسه من الضعف والانحطاط.
إذن فلذة الغذاء لا تنعش النفس إلا إذا وقفت عند حد التوسط والاعتدال، أما الانقياد إليها، فإنه يبعث بالوهن إلى الجسد، ويسلب النفس راحتها ونشاطها. وقد كان مذهب الإسلام بشأن هذه اللذة، كافلاً للتوسط الذي يتمناه من ود أن يعيش عيشة معتدلة في حياته الدنيوية، فهو لم يفرض على الناس التقشف والزهد وإيلام الجسد لترويض النفس واتصالها في المثل الأعلى، بل أباح لهم الطيبات وأخبرهم بأن الله خلق لهم ما في الأرض جميعاً على أن يؤدوا لخالقهم حقه في الشكر والعبادة، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32]؟ نعم إن السيرة قد روت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع نفسه، كما جاء في رواية ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوياً لا يجدون عشاء، إلا أن حكمة ذلك كما ذكروا أن يتأسى به الفقراء الذين لا يجدون من الطعام إلا أقله، ولما كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف تشريع وتعليم، لذلك تراه تارة يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوياً كما تقدم، وتارة تجده يأكل اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره من الحلوى والعسل، فقد ورد في السيرة أيضاً أنه "لم يكن من عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم حبس نفسه الشريفة على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى سواه، فإن ذلك يضر بالطبيعة جداً ولو أنه أفضل الأغذية، بل كان صلى الله عليه وسلم يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره فأكل صلى الله عليه وسلم الحلوى والعسل وكان يحبهما. رواه البخاري وغيره...." وعلى كل حال فالمصطفى صلى الله عليه وسلم قد سن لأمته الاعتدال في الطعام فقال عليه الصلاة والسلام "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس" قال الحافظ ابن حجر: قال القرطبي: لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. فانظر كيف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إملاء البطن طعاماً لهو إملاء شر الأوعية، أليس في بيانه هذا إشارة إلى أن الاستسلام إلى لذة النهم يؤدي إلى الألم؟ وإن كان تأثير كثرة الطعام ما ذكر، أفليس من الواجب الاقتصار منه على ما يحفظ كيان البدن؟ ولذا قال: "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" ولكنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما للنفس من السلطان على صاحبها، ولذا بين أنها إن غلبته، فله أن يملأ ثلث جوفه طعاماً، وثلثه الآخر شراباً، على أن يدع الباقي للنفس فهذا حد وسط، أما الحد الأدنى لدرء نتائج الشبع المؤلمة، فهو أن تقوم عن الطعام ونفسك تشتهيه، بمعنى أن يتقي المرء الوصول إلى درجة الشبع.
قال المؤرخ الإنكليزي المستر داز:
"إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان مجموعة من الخيال والنبوغ والبحث. كان النبي - صلى الله عليه وسلم – زراعياً وطبيباً وقانونياً وقائداً. اقرأ ما جاء في أحاديثه تتحقق صدق ما أقول. ويكفي أن قوله المأثور: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" فإنه الأساس الذي بني عليه علم الصحة ولا يستطيع الأطباء على كثرتهم ومهارتهم أن يأتوا حتى اليوم بنصيحة أثمن من هذه[1]....".
ولئن علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا نشبع، فإنه بين لنا آفة الشبع وما يورثه في النفس بقوله في هذا الصدد: "ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين" قال الغزالي ما يصلح أن يكون شرحاً لأحد معاني هذا الحديث الشريف "فإن الشبع يورث البلاء، ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ.... فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك، بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك".
والخلاصة أن السير على النهج الإسلامي في التغذي، يدرأ كل هذه النتائج المؤلمة للنفس، لأن آخر حد للطعام في النهج الإسلامي، أن يقوم المرء عن الطعام ونفسه تشتهيه، فهو إذن يترك الإنسان يتمتع بلذة الطعام، ولكنه متى غلب احتمال الإيلام الجسدي والنفسي أوقفه عند حد الاعتدال، قال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31].
ب- لذة الشراب:
لم يحرم الإسلام من الشراب إلا المسكرات، وقد يقال بأن قليلاً من المسكر ينعش النفس ويسر النفس فلا بأس إذا ما اقتصر المرء عليه، وتحريم القليل منه يحرم المرء لذة من لذات هذه الحياة ولكن هل يكتفي الشارب بالكأس الأولى؟ أفلا تؤدي هذه الكأس إلى كؤوس؟ إن اندفاع الإنسان إلى شرب الخمر كأساً بعد كأس أمر لابد منه، وهذا لا ينهك الجسد ويصلب الشرايين فحسب، بل يضعف النفس وينـزع منها الغيرة والشرف، فتصبح خسيسة دنيئة لا تحجم عن فعل أحط الأمور وأدناها بعد أن كانت تأبى فعل ما لا يليق ولعل هذا من أسرار القاعدة الفقهية القائلة: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" سئل أحد حكماء العرب: لم تشرب الخمر وهو رسول السرور إلى القلب؟ فقال: بئس الرسول، يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس.
وقال ابن القيم الجوزية في كتابه روضة المحبين:
"وحرم الله سبحانه السكر لشيئين ذكرهما في كتابه من قوله: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91] فأخبر الله سبحانه أنه يوجب المفسدة الناشئة من النفس بواسطة زوال العقل، ويمنع المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل".
(يتبع)،،
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد الأول، 1356هـ - 1937م
[1] نقلاً عن كتاب "محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن" لجامعه خطيب الكاظمية كاظم الشيخ سليمان آل نوح ص14.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك