الموضع الثاني والتسعون
باب الإحرام
أحكام متعلقة بحلق شعر المحرم
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: ((فمن حَلَق شعرةً واحدةً، أو بعضَها؛ فعليه طعام مسكين، وشعرتين أو بعضَ شعرتين؛ فطعام مسكينين، وثلاثَ شعرات؛ فعليه دَمٌ...)) إلى آخره[1].
قال في ((الإفصاح)): ((واختلفوا فيما إذا حَلَق ثلاثَ شعرات أو قصر:
فقال أبو حنيفة[2]: إن حَلَق ربع رأسه فصاعدًا؛ فعليه دَمٌ، وإن كان أقل من ذلك؛ فعليه صدقة، إلا أن يحلق مواضع المحاجم من رقبته؛ فعليه دم.
وقال مالك[3]: إن حَلَق ما يحصل بزواله إماطة الأذى؛ وجب عليه دمٌ، ولم يعتبر عددًا إلا [أنه] إن حلق موضع المحاجم من رقبته؛ فعليه دم كمذهب أبي حنيفة سواء.
وقال الشافعي[4]: يجب عليه دم في حلق ثلاث شعرات فصاعدًا أو تقصيرها.
واختلف عن أحمد:
فرُوي عنه[5] كمذهب الشافعي هذا، وهي أظهر الروايتين.
ورُوي عنه في الأخرى[6] أن الدم إنما يجب في أربع شعرات فصاعدًا.
فإن حلق دون الثلاث:
فمذهب أبي حنيفة كما تقدم: من اعتبار الدم في الربع وما دونه صدقة.
وأما مالك[7]: فيعتبر حصول الترفه وإزالة التفث فيوجب الدم به.
وللشافعي[8] ثلاثة أقوال: أحدها: ثلث دم، والثاني: مُدٌّ، والثالث: درهم.
وقال أحمد[9]: في كل شعرة مُدٌّ من طعام، وفي شعرتين مُدَّان. وروي عنه[10]: في كل شعرة قبضة من طعام))[11].
وقال ابن رشد: ((اتفقوا على أنها تجب الفدية على من حلق رأسه لضرورة مرضٍ أو حيوان يؤذيه في رأسه[12].
قال ابن عباس: المرض أن يكون برأسه قروح، والأذى القمل وغيره. وقال عطاء: المرض: الصداع، والأذى: القمل وغيره.
والجمهور على أنَّ كل ما مُنِعَهُ المحرمُ من لباس الثياب المخيطة وحَلْق الرأس وقص الأظفار أنه إذا استباحه فعليه الفِديةُ[13] - أي: دمٌ على اختلافٍ بينهم في ذلك، أو إطعامٌ - ولم يُفرِّقوا بين الضرر وغيره في هذه الأشياء، وكذلك استعمال الطيب.
وقال قومٌ: ليس في قصِّ الأظفار شيء.
وقال قومٌ: فيه دمٌ.
وحكى ابنُ المنذر[14] أن منع المحرِم قصَّ الأظفار إجماع[15].
واختلفوا في من أخذ بعض أظفاره:
فقال الشافعي[16] وأبو ثور إن أخذ ظفرًا واحدًا أطعم مسكينًا واحدًا، وإن أخذ ظفرين أطعم مسكينين، وإن أخذ ثلاثًا فعليه دم في مقام واحد.
وقال أبو حنيفة في أحد أقواله[17]: لا شيء عليه حتى يقصها كلها.
وقال أبو محمد بن حزم[18]: يقص المحرِم أظفاره وشاربه وهو شذوذ، وعنده أن لا فدية إلا من حلق الرأس فقط للعذر الذي وَرَدَ فيه النص.
وأجمعوا على منع حلق شعر الرأس[19].
واختلفوا في حلق الشعر من سائر الجسد:
فالجمهور على أن فيه الفِدية[20].
وقال داود[21]: لا فدية فيه.
واختلفوا في من نتف من رأسه الشعرة والشعرتين أو من لحمه:
فقال مالك[22]: ليس على مَن نَتَفَ الشعرَ اليسير شيء إلا أن يكون أماط به أذىً فعليه الفدية.
وقال الحسن: في الشعرة مُدٌّ، وفي الشعرتين مُدَّين، وفي الثلاث دم، وبه قال الشافعي[23] وأبو ثور.
وقال عبدالملك صاحب مالك[24]: فيما قلَّ من الشعر إطعام، وفيما كثر فدية.
فمن فهم من منع المحرِم حَلْق الشعر أنه عبادة سوَّى بين القليل والكثير، ومن فهم من ذلك منع النظافة والزَّيْن والاستراحة التي في حلقه فرَّق بين القليل والكثير؛ لأن القليل ليس في إزالته زوال أذى))[25].
وقال البخاري: ((باب: من أهل ملبِّدًا.
حدثنا أصبغ، أخبرنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلبِّدًا[26])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: من أهل ملبِّدًا) أي: أحرم وقد لبَّد شعر رأسه. أي جعل فيه شيئًا نحو الصمغ ليجتمع شعره لئلا يتشعث في الإحرام أو يقع فيه القمل))[27].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: قول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]) وهو مخيَّر، فأما الصوم فثلاثة أيام.
وذكر حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟) قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احْلِقْ رَأْسَكَ وصُمْ ثلاثةَ أيام، أو أطعِمْ ستَّةَ مساكينَ، أو انْسُكْ شَاةً)[28]).
قال الحافظ: ((قوله: (احلِقْ رأسَك وصُمْ) قال ابن قدامة[29]: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق، سواء كان بموسى، أو مقص، أو نورة، أو غير ذلك.
وأغرب ابن حزم[30] فأخرج النتف عن ذلك، فقال: يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف))[31].
وقال الحافظ أيضًا في (باب: النُّسُك شاة): ((وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد غير ما تقدَّم أن السُّنة مبينة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن، وتقييدها بالسُّنة، وتحريم حلق الرأس على المحرِم، والرُّخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع واستنبط منه بعض المالكية[32] إيجاب الفِدية على من تعمَّد حَلْق رأسه بغير عُذر، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره.
ومن ثم قال الشافعي[33] والجمهور[34]: لا يتخيَّر العامد بل يلزمه الدم))[35].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: الحجامة للمحرِم. وكوى ابن عمر ابنه وهو محرِم، ويتداوى ما لم يكن فيه طيب.
وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرِم[36].
وحديث ابن بُحينة رضي الله عنه: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرِم بلَحْي جمل في وسط رأسه[37])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: الحجامة للمحرم) أي: هل يمنع منها أو تُباح له مطلقًا أو الضرورة، والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم...
إلى أن قال: وروى الطبري من طريق الحسن قال: إن أصاب المحرِم شجَّة فلا بأس بأن يأخذ ما حولها من الشعر ثم يداويها بما ليس فيها طيب.
قوله: (بلَحْي جَمل) موضع بطريق مكة.
قوله: (في وسط رأسه) أي: متوسطه، وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين.
قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس، وأما التي في أعلاه فلا؛ لأنها ربما أعمت.
قال النووي[38]: إذا أراد المحرِم الحجامة لغير حاجة فإن تضمَّنت قطع شعر فهي حرام؛ لقطع الشعر.
وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور[39].
وكرهها مالك[40].
وعن الحسن: فيها الفدية وإن لم يقطع شعرًا وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر وتجب الفدية.
وخصَّ أهلُ الظاهر[41] الفدية بشعر الرأس.
وقال الداودي: إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحلق، واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد، وبَطِّ الجرح والدمل، وقطع العرق، وقلع الضرس، وغير ذلك من وجوه التداوي، إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرِم من تناول الطيب وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك. والله أعلم))[42].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: الاغتسال للمحرِم.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك