حكم رمي الجمرات من الأدوار العُلى
عبدالرحمن بن فؤاد بن إبراهيم الجار الله
المبحث الأول
تصوير النازلة
كان القيام بمنسكِ الحج بعيدًا عن تعقيدات العصر الحديث، من كثرةِ عددٍ، ومشاقِّ تنقُّل، ولأن الله - سبحانه وتعالى - جعل البيت الحرام مثابةً للناس وأمنًا، وجعل الصلاة فيه تعادل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد، وجعل أفئدة الناس تهوي إليه؛ فإن أعداد الحجاج تزيد عامًا بعد عام، وذلك يعبِّر عن تلبية دعوة الله - تبارك وتعالى - لأداء فريضة الحج، وإتمام الدين، ويزيد الازدحامُ في مناطق المشاعر، خاصة عند منطقة رمي الجمرات بوادي مِنًى، والتي تتعلق بها النازلة التي نحن بصدد تناولها، والتي تقع عند نهاية وادي منى من ناحية الشمال الغربي.
ولما رأتِ الدولة - وفقها الله - تزايُدَ عدد الحجاج، وشدة الزحام؛ مما أدى إلى إيذاء الحجاج، وعرقلةِ سيرهم، ومساهمةً في توفير أكبر قدر ممكن من الراحة للحجيج، أمرتْ بإنشاء دور ثانٍ للجمار الثلاث، بعد موافقة الشيخ محمد بن إبراهيم[1] التي نصها:
"من محمد بن إبراهيم إلى حضرة معالي وزير الحج والأوقاف - سلمه الله -:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعنا على خطابكم رقم 1667/ 1 في 11/ 4/ 1382هـ حول إنشاء دور ثانٍ للجمار الثلاث، وإقامة مظلات حولها، كما اطلعنا على صورة الخرائط والمواصفات التي وُضعتْ لهذا المشروع.
ونفيدكم أننا لا نرى مانعًا من ذلك؛ بشرط الإتيان على الغرض المقصود، والخلو من أي محذور شرعي، وفَّق الله الجميع، وجعل هذا العمل نافعًا، والسلام عليكم"[2].
فأنشئ جسرٌ يعلو الجمرات الثلاث عام 1395هـ، بحيث يستطيع الحاج رمي الجمرات من فوق الجسر بسهولة، وذلك عن طريق فتحات تطل مباشرة على كل جمرة، بحيث يكون هناك مستويان لرمي الجمرات: أرضي وعلوي، وقد خفف كثيرًا من الزحام، ونفع الله به في حينه وفي أعوام تلتْ، إلا أن الضعط على أماكن رمي الجمرات بعد ذلك قد زاد؛ نظرًا لازدياد عدد الحجاج، وعدم تقيد بعض الحجاج بنظام الحركة المصممِ عليها الجسرُ[3]، حيث لا يلتزمون بالمداخل والمخارج لهذا الجسر؛ مما يؤدي إلى ازدحام واختناقات في مناطق فتحات الجسر.
فقامت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز عام 1415هـ بتوسيع وتعديل الجسر، بحيث تم توسعة المستوى العلوي للجسر من الجانبين، وعمل مخارج جديدة، وانتهى العمل في العام نفسه.
ثم إنه ومع ازدياد عدد الحجاج، ومع عدم التزام بعضهم بنظام الحركة المصمم عليها الجسر؛ مما أدى إلى العديد من الوفَيَات والإصابات على مدار العديد من الأعوام، فقامت المملكة مشكورة بعد حادثة عام 1426هـ بمشروع ضخم، يُطوَّر فيه موقع الجسر؛ ليكون عبارة عن أربعة طوابق، بكامل خدماتها، وتخدم قرابة 4.000.000 حاجٍّ في اليوم، وما إن انتهت المناسك، حتى بدأت الشركات تعمل فيه بطاقة 5000 عامل، بتكلفة تجاوزت 4.2 مليار ريال[4].
وقد طُرح حكم رمي الجمرات من الأدوار العلى أولَ ما طرح - كما تبين آنفًا - عام 1382هـ بعد خطاب وزير الحج والأوقاف حينها إلى الشيخ محمد بن إبراهيم، فأفتى بما سبق ذِكره[5].
ثم أعاد الشيخ محمد بن إبراهيم بيانَ الحكم بإسهاب، ونقل كلامًا لأهل العلم في المسألة، في خطاب له إلى أمير منطقة مكة المكرمة عام 1383هـ[6].
ثم بعد ذلك أُعيد طرح الموضوع وبحثه من قِبَل هيئة كبار العلماء عام 1393هـ؛ بناءً على خطاب أمير منطقة مكة المكرمة، الوارد إلى رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، عن طريق وزارة العدل، والذي يطلب فيه إبداء الوجهة الشرعية، وبيان الحكم فيما اقترحته لجنة الحج العليا من بناء طابق على شارع الجمرات، ورفع شاخص الجمرات، ورفع جدار حوض كل جمرة إلى منسوب يمكن معه رميُ حصى الجمار من أعلى الطابق ومن أسفله بسهولة، فأعدَّت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثَها: "إقامة طابق على شارع الجمرات"[7]، كما أصدرت هيئة كبار العلماء القرار (11)[8].
المبحث الثاني
نوع النازلة
يمكن تقسيم النوازل إلى أقسام عدة، باعتبارات متنوعة، وبالإمكان تنزيل تلك التقسيمات على جميع النوازل والوقائع والمستجدات.
وسأتناول في هذا المبحث نوعَ هذه النازلةِ بالنظر إلى هاتيك الاعتبارات، ومِن الله وحده العون والطَّوْل.
أولاً: بالنظر إلى الموضوع:
تنقسم النوازل إلى قسمين:
1- نوازل فقهية: وهي ما كان من قبيل الأحكام الشرعية العملية.
وينقسم إلى نوازل في العبادات، وفي المعاملات، وفي الأنكحة، وفي الجنايات والحدود والقضاء والأطعمة.
2- نوازل غير فقهية: مثل النوازل العقدية، والنوازل اللُّغوية، والنوازل التربوية، وغيرها.
بالنظر إلى الاعتبار السابق نجد أن نازِلَتَنا من قبيل النوازل الفقهية؛ إذ إنها من فروع رمي الجمرات، الذي هو أحد فروض الحج، والحج والمناسك من أبواب العبادات في كتب الفقه، فتكون بذلك نازلة من نوازل العبادات، من كتاب الحج.
ثانيًا: بالنظر إلى كثرة وقوعها، وسَعَة انتشارها:
وتنقسم النوازل بهذا الاعتبار إلى أقسام ثلاثة:
1- نوازل لا يَسلَم أحدٌ من الوقوع فيها: مثل التعامل بالأوراق النقدية.
2- نوازل يعظم وقوعها: مثل الصلاة في الطائرة.
3- نوازل يقل وقوعها: مثل إعادة من تلف عضوه في حدٍّ.
وبهذا الاعتبار نجد أن النازلة محل البحث، لا يَسلَم حاج من الوقوع فيها.
ثالثًا: بالنظر إلى الذكورة والأنوثة:
وتنقسم النوازل بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
1- نوازل خاصة بالمرأة.
2- نوازل خاصة بالرجل.
3- نوازل عامة.
ورمي الجمرات من الأدوار العلى لا يختص بجنس دون آخر؛ بل هو عام للرجال والنساء، فهي من النوازل العامة.
رابعًا: بالنظر إلى الإفراد والتركيب:
وتنقسم النوازل بهذا الاعتبار إلى قسمين:
1- نوازل مفردة.
2- نوازل مركبة.
والرمي من الأدوار العلى من النوازل المفردة؛ إذ الغالب في نوازل العبادات أن تكون مفردة.
خامسًا: بالنظر إلى جدتها:
وتنقسم النوازل بهذا الاعتبار إلى قسمين:
1- نوازلُ محضة: وهي التي لم يسبق وقوعها؛ مثل أطفال الأنابيب.
2- نوازل نسبية: وهي التي سبق وقوعها، لكن تطورت من جهة أسبابها، والواقع المحيط بها، وتجدَّدت في بعض هيئاتها وأحوالها، حتى صارت كأنها نازلة جديدة؛ مثل: بيوع التقسيط، والزواج بنية الطلاق.
والرمي من الأدوار العلى من النوازل النسبية؛ إذ إنها قد حدثت سابقًا - كما يأتي - لكنها تجددت من جهة الواقع المحيط بها، كما أنها تجددت من ناحية هيئتها؛ إذ قد سبق وقوعها من فوق الجبل، والواقع الآن في الرمي أنه من فوق الجسر، كما أنه قد استُحدثت أدوارٌ أُخرُ زيادة على ما سبق.
المبحث الثالث
سبب حدوث النازلة
للنوازل أسباب عدة تنتجها، وتؤدي إلى اعتبارها من النوازل، وقد عدَّد المؤلفون في النوازل عددًا من تلك الأسباب[9]، فلكل نازلة سبب، ويمكن إلحاق بعض النوازل بأكثر من سبب؛ كنازلتنا هذه، إلا أن الباحث قد يرى إلحاقها بسبب من الأسباب؛ لوجه من الوجوه.
فيتنازع نازلتَنا هذه أكثرُ من سبب، إلا أن إلحاقها بـ: "المصالح الطارئة" أقوى من وجهة نظري.
والمصالح الطارئة قد تطرأ فتستوجب من المجتهدين تجدُّدَ النظر في النازلة؛ لبيان الحكم للأمة؛ كالزحام في الحج والعمرة، وكثرة أعداد الحجاج والعمار في الأعوام المتأخرة، مما نشأ عنه مضار كثيرة، من ذهاب أنفس وغير ذلك؛ فكان لا بد من النظر في نوازل الحج والعمرة؛ تحقيقًا لمقصد الشارع في مراعاة مصالح العباد.
ومن تلك النوازل: الرمي من الأدوار العلى، فسبب حدوثها هو اعتبار المصلحة الطارئة، ورفع الحرج ونفيه عن الحجاج[10]، والتوسعة عليهم؛ مراعاة للمصلحة، ودرءًا للمفسدة.
المبحث الرابع
التأصيل للرمي من الأدوار العلى
قد سبق ذكر نوع النازلة (الرمي من الأدوار العلى)، وذكرنا أنها - بالنظر إلى جدتها - من النوازل النسبية؛ إذ إنها قد حدثت سابقًا - كما يأتي - لكنها تجددت من ناحية هيئتها؛ إذ قد سبق وقوعها من فوق الجبل، والواقع الآن في الرمي أنه من فوق الجسر؛ ولذا فتُكيَّف نازلتنا على تلك النازلة، وهي رمي الجمرة من فوق الجبل، وإليك شيئًا مما يمكن أن يفيد في تأصيل المسألة:
أولاً: الإجماع:
فقد أجمع أهل العلم على جواز رمي الجمرة من فوقها، وقد نقل الإجماعَ على ذلك جمعٌ من أهل العلم - كما يأتي عند حكم النازلة - ولذا فتلحق مسألتنا بالإجماع.
ثانيًا: الأصل في العبادات التوقيف:
لأنه من المتقرر عند أهل السنة والجماعة: أن العقول لا تستقلُّ بإدراك المشروع على وجه التفصيل؛ ولذا احتيج إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب.
فباب العبادات بابٌ ضيق، موقوف على ثبوت الدليل فقط، لا على الأهواء والعقول، أو الاستحسان القبيح، ولا على التحسين والتقبيح؛ وإنما مبناها على الدليل الشرعي الصحيح، وأهل السنة بتقرير ذلك فإنهم يقفلون باب البدعة، ويَسدُّونه سدًّا محكمًا، فما ظهرت البدع إلا بالغفلة عن هذا الأصل العظيم.
ومن فروع هذا الأصل: أن العبادة قد تكون مشروعة بأصلها، ممنوعة بوصفها؛ أي: إن هذا الوصف الجديد يحتاج إلى دليل جديد، ولا يُكتفى فيه بمجرد الأدلة المثبِتة لأصله، فالأدلة التي تُثبِت أصلَ العبادة شيءٌ، وفعلُها على وصف معين شيءٌ آخر، فلا بد من دليل يثبت هذا الوصفَ بعينه؛ لأن أصل العبادة توقيفي، وكذلك كيفيتها وشروطها توقيفية، ففرق بين أدلة مشروعية الشيء، وأدلةِ إيقاعها على صفة معينة، ورميُ الجمرات عبادة، ورميها من الأدوار العلى وصفٌ لها؛ فيجب فيه ما يجب لإثبات أصل العبادة.
ثالثًا: فعلُ صحابي لم يُعلَم له مخالف:
فقد رمى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جمرةَ العقبة من فوقها[11]، ولم يُعرَف له مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - ودعوى مخالفة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - له يأتي الجوابُ عنها في ثنايا البحث.
وفعل الصحابي حجة، وهو مذهب الإمام أحمد على التحقيق عند متأخري الحنابلة، وهو ما جزم به شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم[12].
رابعًا: مراعاة الضرورة والحاجة:
فالضرورة أشد باعثًا أو دافعًا لتجاوز القواعد القياسية العامة، من الحاجة.
فالضرورة: ما يترتب على عدم مراعاتها خطرٌ، أو ضرر شديد محقق؛ كالموت جوعًا.
وأما الحاجة: فهي ما يترتب على تركها مشقةٌ وحرج، أو عسر وصعوبة، وقد عرَّف الزركشي والسيوطي الضرورة، فقالا: هي بلوغه حدًّا، إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب؛ كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا لمات، أو تلف منه عضو[13].
وللمالكية والحنابلة تعريف مقارب أو مشابه، فليُطلب في مظانه.
وتطبيقات الضرورة أو الحاجة من النوازل والفتاوى كثيرةٌ، منها النازلة التي نحن بصددها، وهي جواز رمي الجمرات من الأدوار العلى، وقاعدتها المقررة: "الضرورات تبيح المحظورات"[14].
خامسًا: دفع المفاسد ودرء المضار:
حرَصت الشريعة على ضرورة تجنُّب المحرمات والمضار والمفاسد، وعلى منع المنهيات قبل تحقيق المأمورات؛ لأن ضرر المفسدة كالوباء والحريق؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعُوني ما تركتكم؛ إنما أهلك مَن كان قبلكم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم))[15].
والقاعدة الشرعية تقول: "درء المفاسد أولى من جلب المنافع"[16]، أو من جلب المصالح.
فما تَّرتب على اعتباره مفسدة ومضرة غير معتادة، ولم يَرِد فيه نص بخصوصه - لا شك في إهماله وعدم اعتباره؛ مراعاة للمقاصد العامة للشريعة.
سادسًا: رعاية المصلحة[17]:
المصلحة - في اللغة -: جلب المنفعة، أو دفع المضرة، وفي الشرع: ويمكن تعريفها: بأنها المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة؛ وهو أن يحفظ عليهم دينَهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالَهم، فكلُّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، كما ذكر الإمام الغزالي.
وبعبارة أخرى: المصالح المرسلة - التي هي أصل من أصول التشريع الإسلامي -: هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس، أو درء مفسدة عنهم[18]، فهي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليلٌ معين من الشرع بالاعتبار، أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلبُ مصلحة، أو دفع مفسدة عن الناس.
والمصالح أنواع ثلاثة، متفاوتة الدرجة بحسب أهميتها، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات.
ولا شك أن مسألتنا تندرج في باب المصالح المرسلة، فالرمي من الأدوار العلى لم يَرِد فيه نص بخصوصه، ولا شك أن في اعتباره جلبًا لمصلحة العباد، ودفعًا للمفسدة عنهم، والله - تعالى - أعلم.
سابعًا: قاعدة "الهواء ملك لصاحب القرار"[19]:
ومعنى الهواء: الفراغ أو الفضاء الذي يعلو على عنان السماء.
والقرار: هو الأرض التي يقر ويثبت عليها ويقيم.
فمَن ملَك أرضًا ملكًا صحيحًا، فإنه يملِك معها هواءها الذي يعلوها إلى السماء، ولا يجوز لأحد أن يعلو على بنيانه إلا بإذنه؛ لأنه يجوز بيع الهواء الذي يعلو فوق ما أقيم على الأرض على خلاف[20].
فإن كان الهواء يتبع القرارَ في الملكية، فكذلك في رمي الجمرات، فإن للهواء حكم القرار، متى ما وقعت الجمار في محل الرمي.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك