عيدُ الفِطرِ جَائزةُ الصَائمِين
وتَعزيزُ القِيَم والمبَادِئ والأَخْلاق
د. خاطر الشافعي
وسط جراحاتنا الكثيرة، وأمانينا الثكلى، يأتينا موعدٌ مع الفرحة بالعيد، فالسرور هنا معطياتٌ ونتيجة وبرهان؛ والمعطيات أن نفرح بما شرع لنا الحق سبحانه وتعالى من عبادات، وأمرنا به منطاعات، وما يترتب عليها من الحسنات.
"فليس الفرح التاموالسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه،وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسُـر به، وإن حجب عنه فهو بالحزنبه والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولاسرور إلا به، أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لايحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلاموالإيمان والقرآن، كما فسره الصحابة والتابعون"[1].
ومن جمال ورقي ديننا الحنيف، أنه أرسى لدينا قِيَم الحب والخير والجمال والمصالحة مع النفس والغير، وأنه أرشدنا إلي ما فيه السعادة والمشاركة الوجدانية والسمو الأخلاقي، فلا نستشعر سعادتنا كاملةً إلَّا بإهدائنا السعادة إلي إخواننا في الدين في كل مكان على وجه البسيطة؛ فننظر بعين الإحسان إلى المحتاج؛ وإن كنا لا نملك المال فالابتسامة لن تكلفنا شيئًا؛ وقد أخبرنا المعصوم صلى الله عليه وسلم أن ابتسامتنا صدقة، وإدخال السرور علي نفوس إخواننا من أعمال الخير في كل الأوقات، فما بالنا بيوم الجائزة الذي يضع الجميع على ناصية الوحدة الإيمانية؟
ولا ننسى يوم العيد الدعاء لإخوانٍ لنا في الدين أن يفكَّ الله كربهم، ويفتح لهم أبواب الفرج، وأن نُخرج زكاة الفطر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرةللصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاةمقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"[2].
ما أجمل عيد الفطر وهو يضعنا على الصورة التي ينبغي أن نكون عليها طوال العام، فتكسونا مظاهر الفرح و نحن نذهب لأداء صلاة العيد، ونحن نُكبِّر في نفس الوقت، في مشهدٍ يُظهِر وحدتنا الإيمانية.
فعن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً"[3]، فإنها مظاهر الفرح بالعيد، التي ينبغي ألَّا تخلوا من مظاهر الشكر لله سبحانه وتعالى، على توفيقه للطاعة، وإعانته جلَّ وعلا للمسلم على الصوم والقيام وصالح الأعمال، ويجب أن يكون الشكر لله سبحانه وتعالى بالبذل والعطاء من النعم التي أنعمها علينا والتي لا تعد ولا تحصى.
"فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمدهلذاته وكماله، وأن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا هو، فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك، فيحبه من الوجهينجميعاً... فإنه هو الذي جعل الحامد حامداً والمسلم مسلماً والمصلي مصلياًوالتائب تائباً، فمنه ابتدأت النعم, وإليه انتهت, فابتدأت بحمده وانتهت إلىحمده، وهو الذي ألهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح، وهي من فضله وجوده.وألهم عبده الطاعة وأعانه عليها ثم أثابه عليها وهي من فضله وجوده, وهوسبحانه غني عن كل ما سواه"[4].
ومن تمام النعمة أن يوفقنا الله سبحانه وتعالى في هذا اليوم العظيم إلى رسم البسمة علي وجوه البائسين، ولاسيما اليتامى. فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم : (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ في الْجَنَّةِهَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَاشَيْئًا).[5] وكذلك إدخال السرور على كل الأهل والجيران، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم: (خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ الله تَعَالَىخَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيرُ الجِيرَانِ عِنْدَ الله تَعَالَىخَيْرُهُمْ لِجَارِهِ)[6].
إنه يوم الفرح العظيم الذي منه ينطلق الأمل الكبير في غدٍ أفضل بإذن الله الكريم، مهما كانت دواعي الحزن والألم، التي تداهم القابضين على دينهم، فلا مجال في شريعتنا لليأس والقنوط. فـ "عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمصافَّ المشركين يوم الخندق، قال: وكان يوماً شديداً لم يلقَ المسلمون مثلهقط، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر معه جالس - وذلكزمانَ طَلْعِ النخل - قال: وكانوا يفرحون به إذا رأوه فرحاً شديداً ؛ لأنعيشهم فيه، قال: فرفع أبو بكر رأسه فبصُرَ بطَلْعَةٍ وكانت أول طَلْعةرُئِيت، فقال هكذا بيده: طلعةٌ يا رسول الله (من الفرح)، قال: فنظر إليه رسولالله صلى الله عليه وسلم فتبسم وقال: "اللهم لا تنزع منا صالح ما أعطيتنا،أو صالحاً أعطيتنا ".[7] فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا، وما يأتينا به نأخذه، لأنَّ فيه سعادتنا، ونحنُ إنْ لمْ نتأسَّ بنبينا فَبِمَنْ نقتدي؟! وهو من هو.. هو خير البشر أجمعين صلى الله عليه وسلم، فلنتأمل كيف كان تصرفه رغم حصار الأعداء: لم يُعنِّف أبا بكر، بل فرح بفرحه، وهذا درسٌ نبويٌّ بليغ عالج به المُصطَفى صلى الله عليه وسلم نفوس المؤمنين المُرهَقة علاجًا نفسيًّا ناجعًا ؛ فأدخل الفرحة على قلوبهم رغم ما هم فيه من شدة في عيدهم الأول في المدينة في السنة الثانية من الهجرة، فنبتت في أرضهم بذور الأمل وشحذوا عزيمتهم. "فهذا فرحٌ نبويٌّ برزق الله.. يفرحُ النبيّصلى الله عليه وسلم بظهورطلعةِ نخلٍ، ويتبسَّمُ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويقرُّ أبا بكرٍ علىفرحتِهِ، مع أن الأحزاب يحيطون بالمدينة.. لم يقل عليه الصلاة والسلام: مهيا أبا بكر! كيف تفرحُ بنخلةٍ والإسلامُ محاصرٌ، وجيوشُ الكفر علىالأبواب؟".[8] فلا ينبغي أبدًا أن يفقد عيدنا بريقه ورونقه، ولتكن مظاهر الفرح به دافعًا للتمسك بكل ما فيه من مبادئَ تُرسي قِيَمَ الحق والخير والحب والجمال والسعادة ظاهرًا وباطنًا.
إنه وقت الفرح بالطاعة، الذي يجب ألا تخالطه معصية، فلا يجب السهر ليلة العيد حتى الصباح، وتضييع صلاة العيد، والنوم طيلة النهار، وتفويت فرصة جمع الحسنات في هذا اليوم السعيد، فـ "اشتر نفسك اليوم، فإن السوقَ قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة،وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: 9]، ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [الفرقان: 27]"[9].
إنَّ عيدَ الفِطر هو يوم الجائزة للصائمين القانتين، والذي يُعزِّز القِيَم والمبادئ والأخلاق الإسلامية السامية في أبهي صورها، و الذي تُلطِّف فيه نسائم الرحمة والود النفوس المُرهَقة، ويداعب فيه الفرح قلوب المؤمنين.
كل عام وأنتم بخير
المصادر:
1- لمسات من العطر في عيد الفطر/ عصام ضاهر.
2- ينابيع الخير في عيد الفطر/ محمد سعيد الشعيرة.
[1] الفوائد المجموعة لابن القيم.
[2] رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن.
[3] صحيح سنن أبي داود.
[4] الفوائد المجموعة لابن القيم.
[5] رواه البخاري.
[6] رواه الترمذي وقال حديث حسن، وصححه الألباني.
[7] مصنف ابن أبي شيبة.
[8] د/عادل باناعمه (عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى) :كتاب "دعوة للفرح ثورة على مذهب المتنبي".
[9] الفوائد المجموعة لابن القيم.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك