وداعاً .. رمضان
حمدي شلبي
إن الشهور والليالي والأعوام مقادير للآجال ومواقيت للأعمال تنقضي حثيثاً وتمضي جميعاً، والموت يطوف بالليل والنهار لا يؤخر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظة لأعمال العباد يدعون بها يوم القيامة يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا(آل عمران: 30).
ينادي الله عباده فيقول: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".(الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه).
لقد أوشك رمضان على الرحيل بأعمالكم، ويكاد يختم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئاً فليبادر بالتوبة والأوبة والرجوع إلى الله والحسنى قبل غلق الباب وطي الكتاب في شهره إلى ربه منيباً، وفي عمله مسدداً ومصيباً، فليحكم البناء ويشكر ربه المنعم على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. وما أجمل الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تجمع إليها الحسنات، وأكرم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغب فيها.
لقد كنتم في أيام شهر البر والخير تصومون نهاره، وتقومون ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات طمعاً في الثواب وخشية من العقاب. وقد آذنت تلك الأيام بالرحيل وكأنها ضرب خيال، وقد فاز فيها من جد واجتهد، وخسر فيها من لها ولعب.
فعلينا أن نعود إلى الله - تعالى -، فنعاهده على المداومة على الطاعة وإخلاص العبادة له، فإن استدامة أمر الطاعة وامتداد زمانها زاد الصالحين وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمن محدود ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حق الله على العباد يعمرون بها الأكوان على مر الأزمان.
وإن للقبول والربح والفوز في هذا الشهر علامات، وللخسارة والرد أمارات.
وإن من علامة القبول فعل الحسنة بعدها، فأتبع حسناتك بالحسنات تكن علامة على قبولها، وأتبع السيئات بالحسنات تكن كفارة لها ووقاية من خطرها.
قال - تعالى -: " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى " للذاكرين 114 (هود).
وقال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". (رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع).
فيا من حاولت أن تحقق التقوى في رمضان كما أمر الكريم المنان فصمت صوم عبادة وتمنيت أن تكون السنة كلها رمضان، وإذا بك تحزن لمرور أيامه وتفجع إذ آذن الشهر بالرحيل: لا تحزن، فإن الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد عالج المحبين للطاعة بعد مرور شهر رمضان فمد وشائج القربى بيننا وبين شهر الطاعات، فما رمضان إلا صيام وقيام وقرآن وتقوى.
فأولاً: إن كنت حزيناً على الصيام: فقد سن لك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصيام على مدار العام بداية من شوال ووصولاً إلى شعبان، فلم تحرم الصيام:
سن صيام الأيام الستة من شوال وبين لك فضلها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر" (رواه مسلم في الصحيح ح 1164 والترمذي في ك الصوم ح 759 وأبو داود 2433 عن أبي أيوب الأنصاري).
وسن صيام يوم عرفة، وبشرك بأنه يكفر ذنوب سنتين فقال - صلى الله عليه وسلم -: "صيام يوم عرفات أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده" (رواه مسلم ك الصيام 1162 وأبو داود ك الصوم ح 2425 عن أبي قتادة).
وسن صيام يوم عاشوراء وأخبر بأنه يكفر ذنوب السنة التي قبله فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (رواه مسلم عن أبي قتادة).
ولما قيل له: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه مسلم ك الصيام وأبو داود ك الصوم عن ابن عباس).
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصوم أكثر شهر شعبان كما قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: "ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان" (متفق عليه) فاجعل هديه نورك واقتد بفعله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان يصوم يومي الإثنين والخميس ولما سئل عن ذلك قال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين والخميس، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (صحيح أبي داود).
وسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر: فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر" (متفق عليه).
ومدح صيام داود - عليه السلام - فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (متفق عليه).
فعليك أن تواصل عهدك بالصيام طيلة العام من خلال هدي المصطفى - عليه الصلاة والسلام - تدخل الجنة من باب الريان.
ثانياً: قيام الليل دأب النبي الكريم طيلة العام:
فيا من يحزن على فوات أيام الشهر للقيام بين يدي الله طاعة لا للهو والسمر، قيام الليل دأب نبيك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - طوال العام فقد أمره ربه به فقال: قم الليل إلا قليلا (2) (المزمل) و امتثل - صلى الله عليه وسلم - لأوامر ربه فكان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه فقيل له: ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أكون عبداً شكوراً"؟
فوائد قيام الليل:
وقيام الليل فيه فوائد منها:
الاقتداء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به: قال الله - عز وجل -: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا 21(الأحزاب).
وتكفير الذنوب والخطايا: فإن بني آدم يخطئون بالليل والنهار فيحتاجون إلى الاستكثار من مكفرات الخطايا.
وقيام الليل من أعظم المكفرات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: "قيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة"، ثم تلا تتجافى" جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون 16) (السجدة). والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
ولذا حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد" (رواه الترمذي في ك الدعوات، عن أبي أمامة وبلال مرفوعاً، وهو حديث حسن، انظر جامع الأصول تمام المنة في تخريج فقه السنة للألباني - رحمه الله -.
وهو شرف المؤمن: كما أخبر رسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" (السلسلة الصحيحة للألباني).
سبب في دخول الجنة: عن عبد الله ابن سلام - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قدومه المدينة: "يا أيها الناس، أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" (أخرجه الترمذي في ك صفة القيامة، وقال حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجه وإسناده صحيح).
ثالثاً: القرآن نور القلوب فأنر قلبك بتلاوته طوال العام:
فليس وصف رمضان بأنه شهر القرآن يجعلك لا تقرأ القرآن إلا في رمضان فقط ثم بعد ذلك تتخذه مهجوراً بقية عامك، فالقرآن كلام الله وهو كتاب حياة للمسلم صباحه ومساءه.
وفضل قراءته وثوابه عظيم تضاعف لك بتلاوته الحسنات أضعافاً مضاعفة مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" (الحديث أخرجه الترمذي في سننه).
وهذا القرآن شفاء القلوب ودواء النفوس
لقوله تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا 82 " (الإسراء).
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن ومن أرادهما معاً فعليه بالقرآن" (رواه مسلم في صحيحه).
والله - تعالى - يرفع بالقرآن أهل القرآن.
لما في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" (رواه مسلم في صحيحه).
وأخيراً:
إذا أردت أيها المسلم أن يطمئن قلبك على قبول صومك وقيام ليلك في شهر رمضان فانظر إلى قلبك وإلى حال نفسك بعد ذهاب شهرك، فإن أحسست بخوف من الله إذا ما أقدمت على وزر من الأوزار، فتلك هي الثمرة المرجوة من الصيام وهي تقوى الله العلام لعلكم تتقون 183(البقرة). فاحمد الله على ذلك وداوم على ما يحفظ في قلبك هذا الكنز الثمين بدوام الطاعة، واعلم أن تقوى الله، آثارها عظيمة في الدنيا والآخرة.
ورب رمضان هو رب سائر السنة، فيجب أن نعاهده - سبحانه - أن نكون حيث أمرنا وأن ننتهي عما نهانا، ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ حيث كان إذا فرغ من عبادة سارع إلى غيرها ممتثلاً أمر ربه فإذا فرغت فانصب (7)(الشرح).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك