02-16-2023, 05:14 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 360,975
|
|
عبرة الزلازل
عبرة الزلازل
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:
فـ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
أيَّها المؤمنونَ، إن للإيمان حياةً وبصيرة توقظ النفوس وترهف شعورها نحو ادِّكار الآيات شرعيها وكونيها؛ لتعمل فيها الأثر الذي يكون به تصحيحُ سيرها إلى الله، والتزود من صالحات التقوى، ولا سيما ما كان منها على خلاف السنن ومألوف العادة، ألا وإن الزلازل من آيات الله الباهرة التي تحمل في طيات مصابها عبر الادكار.
ففي اضطراب الأرض لفت لإدراك عظيم قدرة الله وقوته، وتذكير بالقوة الربانية التي لا يصمد أمامها شيء، وتخويف للعباد بالنذر الكونية حين استجابت الأرض الراسخة بجبالها الشم لأمر ربها؛ إذ أوحى إليها أن تتمادى عن سنن القرار، فاضطربت في بضع دقائق مخلفةً دمارًا هائلًا لا تكفي عشرات السنين لاستصلاحه، ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾ [الملك: 16].
وفي محن الزلال تذكير بعظيم منة الله على الناس بجعله الأرض قارة تحت أرجلهم؛ ليهنأ عيشهم، وتطيب حياتهم، وينتظم أمرهم، ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ [غافر: 64]، فما عسى أن تكون حالهم والأرض من تحتهم تضطرب؟!
وفي ابتلاء الزلازل استعتاب رباني للعباد، وتذكير بشؤم ما اقترفته أيديهم من المآثم؛ لعلهم يرجعون، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾؛ قال ابن بطال: "ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال تعالى: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا)... والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصي والإعلان بها، ألا ترى قول عمر حين زلزلت المدينة في أيامه: يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجنَّ من بين أظهركم، فخشي أن تصيبه العقوبة معهم، كما قالت عائشة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثُر الخبث)"؛ ا. هـ.
وفي محنة الزلازل اصطفاء رباني للشهداء، ورفعةٌ لمنازلهم التي لا تُبلغ بالعمل؛ إذ قدَّر عليهم الموت تحت أنقاض الهدم والخسف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي الزلازل امتحانٌ عظيم للإيمان، وبَلْوِ خبره؛ من حيث التسليم لأمر الله وحكمته والصبر على مرِّ قضائه؛ فكان لمواقف أهل الإيمان إزاء مصابهم أبلغ أثر على النفس، وأنت ترى أحدهم يحمِل طفله الذي قضى نحبَه بهدم الزلازل وشفتاه تُتمتِمُ بالحمد لله، وإن فاضت عيناه بالدمع، وآخر يسأل عن كيفية التطهر والصلاة وهو حبيسٌ بين ركام الهدام لا يستطيع الخلاص منه، وأخرى معلقة بين الصخر والحديد والخطر مُحدق بها، يُطلب منها الخروج، فتأبى إلا أن تُمد بخمار تُستَرُ به من أعين الرجال الأجانب! فأي إيمان وقَر في قلوبهم؟! وأي إمداد رباني أُكرموا به في شدة بلواهم؛ قال الشيخ عفيف الدين بن البقال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب! كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟! فرأيت في المنام رجلًا وفي يده كتاب، فأخذته فقرأته، فإذا فيه هذه الأبيات فيها الإنكار علي:
دَع الاعتراض فما الأمرُ لك
ولا الحكم في حركات الفلك
ولا تسأل الله عن فعله
فمن خاض لجةَ بحر هلَك
إليه تصيرُ أمور العباد
دَع الاعتراض فما أجهَلك
ولو تأمَّلت فيما يصيب العباد
والبلاد لأدركت ذلك..
وفي الزلازل إحياء لوشيجة الرحم الإيماني الذي يربط المؤمنين ببعضهم، حين كان مصاب بعضهم بتلك الزلازل مصابًا لهم، فعاشوا بالألم عيش الجسد الذي اشتكى منه عضو، فتداعت له سائر الأعضاء بالحمَّى والسهر، فلهجت ألسنتهم بالدعاء والضراعة لإخوانهم، وجادت نفوسهم بالتطوع الإنقاذي والتبرع العيني والمالي والتذكير بحقوق أولئك المنكوبين، والقيام بشأنهم ورعاية أُسرهم، والتذكير بعظيم المسؤولية نحوهم.
الخطبة الثانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، أيها المؤمنون، وفي زلازل الدنيا إشعار بدُنوِّ الساعة؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وهو القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض"؛ رواه البخاري ومسلم.
وفيها التذكير بالزلازل العظيم الذي تختم به الحياة، حين تزلزل الأرض زلزالها، وتخرج الأرض أثقالَها، ويقول الإنسان: ما لها؟ يومئذ تحدِّث أخبارها بأن ربك أوحى لها، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2].
__________________
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|