![قديم](ibbye-hajj/statusicon/post_old.gif)
01-02-2023, 04:53 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 361,175
|
|
نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي
نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي
أحمد فهمي أبو سنة
أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره.
ربَّنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
وأصلِّي وأسلِّمُ على سيدنا مُحمَّد سيِّد الفقهاء وإمام المجتهدين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعدُ؛ فإن الجامع الأزهر قد اشتد حرصه على الاشتراك في أسبوع الفقه الإسلامي لما يحمله من التبعة العظيمة نحو الإسلام، وفقه الإسلام، ولما يرجوه من وضعه في المكان اللائق به واستمداد العدالة منه على يد القضاة والمفتين في البلاد الإسلامية.
وقد تفضل المسؤولون فرغبوا إليَّ أن أشترك في هذا الأسبوع مندوبًا عن الأزهر، وأن ألقي بحثًا فيه، فشكرت لهم هذه الثقة.
وعلى رغم الموانع وضيق الوقت، أوجبت على نفسي الإسهام في هذا الأسبوع، واخترت من بين الموضوعات المقترحة موضوع: "التعسف في استعمال الحق"؛ لأنها نظريَّة يدعى على الفقه القصور فيها.
وقد بذلت جهدي في أبواب الفقه المختلفة متتبعًا آراء الفقهاء، فكانت هذه الثمرة الصغيرة، والله المسؤول أن يوفق العاملين للفقه إلى إنهاضه، وتجلية محاسنه لينتفع المسلمون بما فيه من حق وعدل وإحسان.
السيد الرئيس، أيُّها السادة:
إنَّ الأزهر الذي وقف في قلب البلاد الإسلاميَّة عبر القرون ينشر نور الإسلام، ويصون أصوله وأحكامه، ويذود عنه شُبَه المبطلين، وضلالات المغرضين، ليحييكم تحية من عند الله مباركة طيبة، ويكبر في القائمين بهذا الأسبوع الهمَّة العالية في العرفان بفضل الفقه على الناس منذ القدم في تنظيم الحياة الرَّاقية، وتحقيق العدل بين الناس.
ويعتبر هذا الأسبوع عيده العلمي الأكبر؛ لأنه مؤازرة عظيمة لدعوته، وإظهار للباحثين على محاسن هذا الفقه، وما فيه من موازين الحق وأسباب الرَّحمة، ويرجو مخلصًا أن يكون هذا الأسبوع فاتحة ترحيب من الأمم الإسلاميَّة بهذا الفقه؛ ليتخذوه قانون القضاء وقانون الحياة، فهو شرع الله، وهو رمز الاستقلال الصحيح، وهو المفخرة الكبرى للقوميَّة العربيَّة والإسلاميَّة.
نظريَّة التَّعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي
تقدمة:
الفقه الإسلامي أظلت رايته بلاد المسلمين في أكبر بقعة عرفها التاريخ على وجه الأرض ثمانين سنة وثلاثمائة وألفًا - صان فيها حقوق الناس، وحفظ مصالحهم فنعموا بعدالة التشريع وعدالة القضاء: ذلك العدل الذي من أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
جهد القضاء والمفتون من الفقهاء في استنباط الأحكام من مصادر الشريعة كلما نزلت بهم قضية أو حزبهم أمر، فكانوا يحدثون للناس أقضية بقدر ما أحدثوا، ويصونون فيهم المصلحة التي أرادها الله من هذا الدين؛ كما يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فقامت بذلك الحجة البالغة على كمال هذا الدين، وعلى أنه شريعة الناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقامت بذلك الآية البينة على أن الفقه كائن حي ينمو ويؤتي أكله بإذن الله لتلبية حاجات الحياة ومطالبها على اختلاف ألوان المجتمعات في كل عصر ومصر، ونظرة واحدة إلى تطور الكتب الفقهية من زمن كبار الأئمة المجتهدين ترينا مبلغ الرقي المتزايد والنمو المُطَّرد الذي وصل إليه طالما كان يجلس مع القضاة على كراسي القضاء، ويقعد مع المفتين في المجامع والمساجد.
النظرية:
ونظرية التعسف في استعمال الحق تسميتها بهذا الاسم منقولة عن رجال الحقوق الغربيين؛ ولكنَّ هذه النَّظرية عرفها الإسلام منذ أرسل الله رسوله وأنزل عليه قرآنه واعتنقه الناس دينًا، وطبَّقوه في قضاياهم، وسائر علاقاتهم شريعة محكمة، بيَّن الحق كما بيَّن مصادره وأنواعَ التعدي عليه مباشرة وتسببًا وعمدًا وخطأً، وعن طريق التَّحايل والذَّريعة، فلم يترك قانونه قضية من غير حكم.
ولكن الذين يقرؤون لرجال القانون من الغرب، ولا يقرؤون الفقه الإسلامي دأبوا على أن يُعْجَبوا بكل ما نقلوه عن الغرب على حين يتَّهِمُون الفِقْهَ بقِصَرِ نظرياته، وجُمود أحكامه.
معنى التعسُّف في استعمال الحق:
قسم علماء الشريعة الحقوق إلى ما هو حق العامَّة، وضابطه ما يتعلق به النفع العام للمجتمع من غير اختصاص بأحد؛ كالانتفاع بالطريق العام، والأنهار العامة، والمساجد، وهذا يثبت للناس جميعًا حق الانتفاع به والدفاع عنه، الثاني: الحق الخاص، وهو ما تتعلَّق به مصلحة خاصَّة للفرد؛ كحقِّه في ملكه، أو في ولايته على ولده، وميَّزوا بين الحقَّين: بأنَّ الأول: لا يمكن تمليكه ولا إسقاطُه، والثاني: يمكن تمليكه وإسقاطه.
وما دام التَّعسُّف في استعمال الحق شاملاً للقسمين يمكن إدماجهما في تعريف واحد نستخلصه من الاستعمالات المختلفة للفقهاء، وهو ما يثبت للإنسان استيفاؤه؛ سواء أكان عامَّا أو خاصَّا، وسواء أكان حقَّا متعلقًا بالمال؛ كحق الملك في الأعيان، وحق الانتفاع بالعين المستأجرة أو المستعارة، وحق الحبس في المرهون، أم كان حقًّا غير مالي؛ كحق الولاية للشخص على أولاده، وحق الزَّوجية ومنه حق الطَّاعة لولي الأمر، وحق الشُّورى للأفراد الذين يتأهلون لذلك وغيرهما من الحقوق السياسية.
ولا يأبى الفقه الإسلامي تقسيم فقهاء القانون له إلى شخصي وعيني، فالأول: دين أو عمل أو امتناع عن عمل لشخص على آخر؛ كالثمن المؤجل، ومنفعة الأجير، والامتناع عن الانتفاع بالمرهون أو الوديعة، والحق العيني هو علاقة اختصاص لشخص على شيء في مواجهة الناس جميعًا؛ كحقِّ الملك، وحقِّ التَّصرُّف في المَملوك، وحقِّ الارتفاق بالشرب، والطريق، ووضع الجذوع على حائِطِ الجار.
وأسباب اكتساب هذه الحقوق إمَّا اختياريَّة، وإمَّا جَبْرِيَّة، فالأولى: العقد، والعلم النافع؛ كالفضالة، ومنها ما إذا أنفق على اللقيط بغَيْرِ إذْنِ القاضي عند المالكيَّة، والعمل الضَّار؛ كارتكاب الجرائم، والامتناع الضار.
والسَّبب الجَبْرِي أمران: الأوَّل: أوامر الشارع؛ كالإنفاق على الأولاد، والضرائب من العشر، والخراج، والزكاة، والثاني: هو الإرث.
معنى التَّعسف:
التَّعسُّف في استعمال الحقِّ تعبيرٌ واردٌ إلينا عن الحقوقِيِّين الغربيين، فيجمل بنا أن نعرفه بما أرادوا منه، ثم نتكلَّم عمَّا يقابله في الفقه الإسلامي.
فالتَّعسف في استعمال الحق عندهم هو: استعمال الحق على وجه غير مشروع، فالمفروض أن الحق أمر مشروع ومباح الاستخدام؛ ولكن الذي استعمله نحا في ذلك نحوًا غير مشروع؛ كما سيتبين هذا فيما بعد.
وفرق بين التَّعسف وبين الفعل الضار أو الامتناع الضار؛ لأن الأخيرين أمر غير مشروع، أي ممنوع ومحرم من أول الأمر.
أما التعسف فهو استعمال الحق المشروع على وجه غير مشروع.
أحوال التعسف في القوانين الحديثة:
ذكرت التَّقنينات الحديثة ثلاثة أحوال للتَّعسف في استعمال الحق هي:
الأول: أن يأتي الإنسان بعمل مشروع، ويقصد به الإضرار بالغير من غير أن تكون له مصلحة فيه.
الثاني: أن يأتي بعمل مشروع للحصول على مصلحة ضئيلة له، لا تتناسب مع الضرر العظيم الذي لحق الغير من جراء هذا العمل.
الثالث أن يأتي بعمل مشروع يقصد به تحقيق مصلحة غير مشروعة، وقد نص على هذا القانون المصري في المادة 4، 5؛ والقانون السوري 5، 6.
النظرية والفقه الإسلامي:
هذه النَّظرية مسطورة في صميم الفقه الإسلامي وبارزة في آيات الكتاب وأحاديث السنة بأوسع من معناها في القانون، وهي من المبادئ الكبرى التي حفظت بها الحقوق منذ كان الإسلام.
الأدلة عليها إجمالاً:
الأدلة عليها من القرآن والسنة:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن جرير وابن المنذر، أنَّ رجلاً من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلَّق زوجته حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُها إلا يومين أو ثلاثًا راجَعَها ثُمَّ طلَّقها، فعل ذلك بِها حتَّى مَضَتْ لَها تسعةُ أشْهُرٍ يُضارُّها، فأنزل الله تعالى الآية.
يعني - والله أعلم - إذا طلَّقْتُمُ النِّساء فقارَبْنَ انْقِضاءَ عِدَّتِهن فأمسكوهن بالرجعة؛ بما هو متعارف في الشرع من حسن العشرة، أوِ اتْرُكوهُنَّ حتَّى تنقضي عدتهن، ولا تُراجِعُوهُنَّ مُضارِّين لَهُنَّ بِهذه الرجعة، فيتحقق بذلك عدوانكم عليهن.
وجه دلالة الآية أن الإمساك حق للزوج، وقد ندب الله تعالى إلى استعماله على نحو مشروع وهو الإمساك مع المعاشرة الحسنة، ونهى عن استعماله على نحو غير مشروع، وهو استعماله على وجه المضارة على النَّحو الذي فعله ثابت بن يسار، وهذا بعينه هو إساءة استعمال الحق؛ لأنَّهُ اسْتِعمالُ حقِّ الإمساك: على وجْهٍ غَيْرِ مَشروع.
الدليل الثاني: قال الله تعالى بعد بيان نصيب الإخوة لأم من الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12].
يعني - والله أعلم - لكل من الإخوة لأم نصيبه بعد أداء دين المورث، وإخراج وصيته، على أن يكون المورث قد أقر بالدين، وأوصى من غير ضرار بورثته، بأن يكون الدين صحيحًا، والوصيَّة لا ضرار فيها.
وجه الدلالة أنَّ الوصية حق للمورث، وله استعماله على وجه مشروع بأن يكون فيه بر بالورثة، ولا يجوز استعماله على وجه غير مشروع بأن يكون إضرارًا بالورثة؛ كأن يوصي بأكثر من الثلث، أو يوصي لأحد الورثة، فالوصية مع الإضرار هي بعينها إساءة استعمال الحق.
الدليل الثالث: ما أخرج أحمد بسنده إلى عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))، وما رُوِيَ عن الأوزاعي عنه - صلى الله عليه وسلم - ((يأتي على النَّاس زمان يستحلون الربا بالبيع)).
وما أخرج البخاري عن النُّعمان بن بشير أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنَّ الزواج والبيع عمل مشروع والزواج لأجل التَّحليل والبيع لأجل الربا عمل غير مشروع، فلما قصد بالمشروع غير المشروع نهى عنه الشارع، وحكم بفساده؛ لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ووجه الدلالة من الحديث الثالث أن الذين في أسفل السفينة يستعملون نصيبهم وحقهم؛ لكن لما أرادوا أن يستعملوه على وجه غير مشروع؛ لأنه يضر الجماعة ضررًا عظيمًا لا يتكافأ مع مصلحة شربهم، وترك إيذاء الفريق الأعلى، اعتبره الشارع منكرًا يجب أن يمنعوا عنه، إلى غير ذلك من أدلة يأتي بعضها إن شاء الله.
اشتراكية الحق في الإسلام:
الحقوق الشخصية والعينية ليست مختصة بأصحابها في الإسلام اختصاصًا مطلقًا، وليسوا مستبدِّين في التَّمتُّع بِمزاياها استِبْدادًا عمَّا قد يتبادَرُ من وصْفِها بِالحُقوق الخاصَّة.
بل الواقع أنَّ للجماعة حقًّا عامًّا مشتركًا بينهم، وذلك من ناحيَتَيْنِ:
الأولى: أنَّ تصرُّف الشَّخص فيها مشروعٌ بشَرْط سلامة الجَماعة من ضررٍ يَنْشَأُ عن استعمال هذا الحق؛ كما يشير إلى ذلك حديث الواقع في حدود الله؛ ولهذا أذن للجماعة في منعه عنِ اسْتِعماله للحقِّ استِعْمالاً ضارًّا بِهم، فصاحِبُ الحقِّ يَجِبُ أن ينظُرَ إلى النَّتائِجِ النَّاجِمَة عنِ اسْتِعْمالِه إنْ قَصَدَ الضَّرَرَ، أو ترك الاحتراس، أو أراد تحقيق مصلحة لا تتكافأ مع ضرر الغير أو مصلحة غير مشروعة.
الناحية الثانية: أن الحق كما جعل الله فيه مصلحة فردية لصاحبه، جعل فيه مصلحة اجتماعيَّة لصالح الجماعة؛ لأنه من ثروة الأمَّة التي تعتمد عليها، ولهذا نهى الشخصَ عن إتلاف ماله؛ لأنه إن لم يصبه هو بالخسارة أصاب الجماعة، ولأن الله جعل فيه نصيبًا معلومًا للجماعة كما في الزكاة والعشر والخراج، ويدل على هذا النَّهْي عن الاحتكار والنهي عن رفع الأسعار وحق الجماعة في بيع المال المحتاج إليه على صاحبه عند الغلاء الشديد أو المجاعة.
ويشير إلى هذا الأصل العظيم قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وبهذا تبيَّن أنَّ الحقَّ الخاصَّ فيه جهة عموم نظرًا للوظيفة الاجتماعية التي رتَّبها الشَّارع من النَّاحيَتَيْنِ السَّابقَتَيْنِ.
ولهذا المبدأ ارتباطٌ وثيقٌ بنظريَّة التَّعسُّف في استعمال الحقِّ، من جِهَةِ أنَّ صاحبَهُ يجب أن يشعر بأن لغيره فيه نصيبًا لا يصح الاعتداء عليه.
تفصيل الكلام على التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي:
تعريفه:
تبين من دراساتنا لأحكام التَّصرُّفات، وما يعتبر منها مُخالفة، وما لا يعتبر أنَّه يُمكن تعريفه بِما يأتي: هو تصرُّف الإنسان في حقِّه تصرُّفًا غيرَ مُعتاد شرعًا.
ولشرح هذا نقول: الأصل الفقهي العام في المسؤولية إذا تصرَّف الإنسان في حقه.
قرَّر الفقهاء كما في الفقه الحنفي وغيره، أن للإنسان أن يتصرف في ملكه تصرفًا معتادًا ولا يسأل عما يترتب عليه من ضررٍ حينئذٍ، وإنما يسأل عن الضرر إذا كان التَّصرف في ملكه غير معتاد.
ويقصدون بالملك ها هنا الحقَّ؛ بدليل أنَّهم ذكروا من فروع هذا الأصل ما لو سقى أرضه من الأنهار العظام التي ليست مملوكة للأفراد؛ كالنيل، والفرات، أو ساق منها نهيرًا إلى أرضه، قالوا: يجوز ذلك إلاَّ إذا أضرَّ بالعامَّة.
تفريع:
وفرَّعُوا على هذا الأصل أُمُورًا منها ما إذا سقى زرعه فنزت أرض جاره، وتلف بذلك زرع أو بناء إن سقاها سقيًا معتادًا بأن سقاها قدر ما تحتمله عادة لم يضمن وإن سقاها قدرًا لا تحتمله ضمن.
ومنها ما إذا أحرق حصائِدَهُ في أرضٍ مَملوكة أو مستأجرة، فاحترق بذلك شيء لجاره لم يضمن لأنه تصرف في حقه تصرفًا معتادًا، وإن كانت الرياح مضطربة عند الإحراق فأحرقت شيئًا لغيره ضمن، لأنَّه يَعْلَمُ أنَّ النَّار لا تستقرُّ فكان مستعملاً لِحقِّه استعمالاً غير معتاد؛ أي فكان متعديًا.
ومن هذا يتبيَّن حُكْمُ الفِقْهِ فيما لو حَفَرَ بئرًا في مِلْكِه فغاض الماءُ من بئر جاره، أو أدار آلةً إدارةً مُعتادة فتأذَّى السُّكَّان بضوضائها، وهو أنه لا يضمن الضرر؛ لأنه تصرف معتاد.
وحُكْمُ هذا الأصلِ يسري على مَنْ قامَ بِعَمَلٍ لغيره بناءً على عقد أو إذن كالطبيب والقاضي ومنفذ الأحكام؛ إذا سلك الطريق المعتاد في عمله فتخلف عن ذلك ضرر: لا يضمن وإن جاوزه ضمِن، ولهذا قالوا: إن الختان والفصاد إذا هلك الغلام والمريض بجرحهما المعتاد لا يضمنان[1]، وإن جاوزاه ضمنًا، وكذلك القاضي إذا ظهر أنه حكم بغير الحق، والمنفذ للعقوبة كالسجان والجلاد إذا تخلَّف عن قيامه بعمله المعتاد ضرر، ويشير إلى هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه)) الحديث، حيث لم يعتبر خطأ القاضي تعدِّيًا بعد ما تحرى في عمله وجه الصواب.
وتصرف الإنسان في حقه تصرفًا غير معتاد هو جماع مسائل التعسف في استعمال الحق.
أصول مسائل الإساءة في استعمال الحق
يتبع
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|