العلاقة بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية
د. إسماعيل عبد عباس
يرتبط علم أصول الفقه بالفقه علاقة الأصل بالفرع، بل إن كلًّا منهما يكمل الآخر، يفيد منه ولا يستغني عنه، فحق الأصولي أن يكون فقيهًا، وحق الفقيه أن يكون أصوليًّا حتى يتسنَّى له النظر الصحيح في الدليل، واستنباط الحكم الشرعي منه، ومن هذا نجد أن كثيرًا من العلماء السابقين من جمع في كتب القواعد الفقهية بين القواعد الأصولية والفقهية؛ منهم الإمام القرافي في كتابه الفروق، والإمام السيوطي في الأشباه والنظائر، وابن نجيم في الأشباه والنظائر، وذلك لأن كلا النوعين من القواعد يشتركان في أنها قضايا وأصول عامة[1] يندرج تحتها فروع وجزئيات متعددة، فهما يقومان بتأصيل الفروع والجزئيات الفقهية التي لا تتناهى.
يقول الشيخ علي أحمد الندوي: ((ولعل الإمام شهاب الدين القرافي أول من ميَّز بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية))[2]، بمعنى أن مَن سبَقه لم يُميز بينهما.
ولذلك اعتبرها القرافي من أصول الشريعة التي تضبط فروعها؛ حيث قال: ((فإن الشريعة المعظمة المحمدية - زاد الله تعالى منارها شرفًا وعلوًّا - اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:
أحدهما: المسمى بأصول الفقه وهو غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك.
والقسم الآخر: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر شيء منها في أصول الفقه على سبيل التفصيل))[3].
ويشتركان أيضًا في أن القواعد الفقهية تتفرع عنها قواعد فقهية أخرى؛ كالقواعد الكلية الخمسة، وهو بعينه موجود في القواعد الأصولية، فقاعدة الحاكم هو الله الأصولية مثلًا استنبطت منها جميع الأدلة التبعية الكبرى؛ كالقياس وسد الذرائع والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب وغيرها[4].
ويشتركان أيضًا في الكشف عن الحكم الشرعي لكثير من الأفعال والتصرفات[5]، فالقاعدة الأصولية (الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة)، تكشف عن الحكم في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: 10]، فالأمر بالانتشار في طلب الرزق جاء بعد النهي عن البيع وقت الجمعة، فيفيد هذا الأمر الإباحة، ولهذا قال الزنجاني: ((لا يخفى عليك أن الفروع إنما تبنى على الأصول، وأن من لا يفهم كيفية الاستنباط ولا يهتدي إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأداتها التي هي أصول الفقه، لا يتسع له المجال ولا يمكنه التفريع عليها بحال، فإن المسائل الفرعية على اتساعها وبعد غاياتها لها أصول معلومة وأوضاع منظومة، ومن لم يعرف أصولها لم يُحط بها علمًا))[6].
وقد بيَّن زين الدين ابن نُجيم في مقدمة كتابه القيم (الأشباه والنظائر) - أن مؤلفه مشتمل على سبعة فنون؛ منها: معرفة القواعد التي ترد إليها، وفرعوا الأحكام عليها، كقاعدة (الأمور بمقاصدها)، و(اليقين لا يزال بالشك)، و(المشقة تجلب التيسير)، و(الضرر يُزال)، و(العادة محكمة)، ثم قال: "وهي أصول الفقه في الحقيقة، وبها يرتقي الفقيه إلى درجة الاجتهاد، ولو في الفتوى"[7].
وعلق شهاب الدين الحموي على كلامه إذ ذكر: أن المقصود من قوله: "(وهي أصول الفقه في الحقيقة)؛ أي: كأصول الفقه، وإلا فليست أصول الفقه، فضلًا عن أنْ يكون ذلك على سبيل الحقيقة"[8].
وكذلك أن كلًّا منهما تعين المجتهد أو الفقيه على الوصول إلى الأحكام الشرعية، ومعرفة الفروع الفقهية، فهما متفقان من حيث الثمرة، أو متشابهان من حيث الفائدة، كما أنهما متشابهان من حيث الأثر؛ فإن كلًّا منهما سبب الاختلاف في تباين نظر الفقهاء في كثير من الأحكام الشرعية الفقهية.
فضلًا عن التداخل بينهما، فكثير من القواعدِ مشتركةٌ بين العِلمين؛ إذ تذكر في الكتب الخاصة بالقواعد الأصولية، والقواعد الفقهية، مثل قاعدة (الاستصحاب)، و(براءة الأصل)، وغير ذلك كثير.
وللصلة الوثيقة بينهما ذكرَ بعض الأصوليين جملة من القواعد الفقهية الكبرى في علم الأصول، فقد جاء في جمع الجوامع في خاتمة كتاب الاستدلال ((مبنى الفقه على: أن اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والعادة محكمة، قيل: والأمور بمقاصدها))[9].
وإذا كانت القواعد الأصولية والفقهية تشترك في هذا القدر من الخصائص، فإنهما يختلفان من عدة وجوه؛ منها:
1- من جهة المستفيد منهما: فالقاعدة الأصولية يستفيد منها المجتهد خاصة؛ حيث يستعملها عند استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها، أما القاعدة الفقهية فيمكن أن يستفيد منها المجتهد والفقيه والقاضي والمتعلم؛ إذ كل قاعدة تشتمل على حكم كلي لعدد من المسائل، فالرجوع إليها أيسر من الرجوع إلى حكم كل مسألة على حدة[10].
2- من جهة متعلقهما: فالقواعد الأصولية متعلقة بالأدلة الشرعية، أما القواعد الفقهية فهي متعلقة بأفعال المكلفين، فمثال القاعدة الأصولية (الأمر يقتضي الوجوب)، فهذه القاعدة متعلقة بكل دليل في الشريعة فيه أمر، ومثال القاعدة الفقهية (اليقين لا يزال بالشك)، فهذه قاعدة متعلقة بكل فعل من أفعال المكلف تيقنه أو تيقن عدمه، ثم شك في العكس، لكن قد توجد بعض القواعد التي تشمل الموضوعين (الدليل والفعل)؛ مثل: العرف، وفتح الذرائع؛ فإذا نُظِرَ إلى العرف على أنه فعل صادر من المكلف، كان قاعدة فقهية، وإذا نظر إليه على أنه إجماع عملي كان قاعدة أصولية، وإذا نظر إلى فتح الذرائع على أنه فعل ممنوع أدى إلى مصلحة راجحة، كان قاعدة فقهية، وإذا نظر إليه على أنه دليل على تجويز ما أدى إليه كان قاعدة أصولية[11].
3- من جهة توقف كل منها على الأخرى في استنتاجها: فالقاعدة الأصولية لا يتوقف استنتاجها والتعرف عليها على قاعدة فقهية، بخلاف العكس فإن القاعدة الفقهية يتوقف استنتاجها على القاعدة الأصولية[12] .
4- من جهة القوة: فالقواعد الأصولية لها من الحجية والقوة بحيث يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أما القواعد الفقهية فلا يصح الاعتماد عليها وحدها لبيان الحكم الشرعي، إلا إذا كانت تستند إلى دليل شرعي يعضدها كما سبق تفصيله[13].
5- من جهة إيجادها: فالقواعد الأصولية قد وجدت قبل الفروع بخلاف القواعد الفقهية، فإنها قد وجدت بعد وجود الفروع[14].
6- من جهة وجودها: فالقواعد الاصولية متقدمة في وجودها الذهني والواقعي على القواعد الفقهية، فإن الفرض الذهني يقتضي وجود الأصول قبل الفروع؛ لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط، أما القواعد الفقهية، فهي متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن القواعد الأصولية، بل هي متأخرة عن الفروع الفقهية أيضًا؛ لأنها تضبطها، وتجمع شتاتها، وتربط بينها، فإن القواعد الأصولية يبنى عليها استنباط الفروع الفقهية، حتى إذا تكونت المجموعات الفقهية المختلفة، أمكن الربط بين فروعها وجمع أشتاتها في قواعد عامة جامعة لهذه الأشتات وتلك النظريات الفقهية[15].
7- من جهة حقيقتها: فالقواعد الأصولية في حقيقتها قواعد استدلالية يلتزمها الفقيه؛ ليعتصم بها عن الخطأ في الاستنباط، فهي تعين الفقيه في اكتشاف الحكم الشرعي، وليست هي ذات الحكم ولا تعبر عنه، في حين أن القواعد الفقهية تعبر عن حكم شرعي كلي يندرج تحته الكثير من الجزئيات التي يتحقق فيها الموضوع الكلي العام أو مناطه، ولذلك يرجع الفقيه إليها لاستحضار الأحكام الفقهية[16].
• إن القواعد الأصولية: تبيِّن المنهاج الذي يلتزمه المجتهد أو الفقيه، ويسير عليه، ليعتصم به من الخطأ في الاستنباط، فقواعد الأصول أسست لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله، وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام من الأدلة الإجمالية، وذلك كمباحث الحُكم، ومباحث الألفاظ، وأدلة الأحكام، كقاعدة القياس، والاستحسان، والاستصحاب، وسد الذرائع، والمصلحة الملائمة مع مقصود الشرع، وكالقواعد التي تذكر في التعارض بين ظواهر النصوص، والأقيسة، والمصالح، وغير ذلك مما يتصدى لها، ويكون له دخل في رسم المنهاج الذي يتقيد به الفقيه في الاستنباط.
• أما القواعد الفقهية، فهي مجموعة من الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى قياس واحد يجمعها، أو إلى ضابط فقهي يربطها؛ إذ هي ثمرة للأحكام الفقهية الجزئية المتفرقة، يجتهد فقيهٌ مستوعب للمسائل، فيربط بين هذه الجزئيات المتفرقة برباط هوَ القاعدة التي تحكمها، أو النظرية التي تجمعها، فإنما أسست لتربط المسائل المختلفة الأبواب برابط متحدٍ، هو الحُكم الذي سيقت القاعدة لأجله، وذلك كقواعد الملكية في الشريعة، وكقواعد الضمان، وكقاعدة (الضرر يُزال)، وغير ذلك من القواعد الفقهية التي نراها في (القوانين الفقهية) لابن جزي، و(الأشباه والنظائر) لابن السُبكي، و(الأشباه والنظائر) لابن نُجيم، و(مختصر قواعد العلائي وكلام الإسنوي) للحموي، ففيها ضبط لأشتات المسائل المتفرعة[17].
8- من جهة استخراجها: القواعد الأصولية توصل إليها علماء الأصول عن طريق دراستهم للنصوص الشرعية، واستقراء صيغها، وأوجه دلالتها على الأحكام الشرعية، وتتبع مقاصد الشرع من هذه الأحكام؛ فهي قواعد لغوية وضعت على أسس علمية لتقعيد تفسير النصوص، وضبط الاستنباط والاجتهاد، أما القواعد الفقهية فهي أحكام شرعية كلية مستنبطة من المصادر الشرعية النقليـة، أو العقلية[18].
9- من جهة عمومها واطرداها: فالقواعد الأصولية عامة مطردة كلية في رأي القائل بها بخلاف القواعد الفقهية، فليست مطردة، فقد يرد عليها بعض الاستثناءات التي تجعلها قواعد أغلبية[19].
10- من جهة الغاية: "إن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله، وأما قواعد الفقه فإنما تراد لتربط المسائل المختلفة الأبواب برباط متحد وحكم واحد هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله"[20].
11- من جهة الموضوع: "علم الأصول بالنسبة للفقه ميزان ضابط للاستنباط الصحيح من غيره، وقواعد هذا العلم وسط بين الأدلة والأحكام، فهي التي يستنبط بها الحكم من الدليل التفصيلي، وموضوعها دائمًا الدليل والحكم؛ كقولك: "الأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة"، أما القواعد الفقهية فهي قضايا كلية أو أكثرية، جزئياتها بعض مسائل الفقه وموضوعها دائمًا هو فعل المكلف" [21].
[1] ينظر: نظرية التقعيد الأصولي 175، القواعد الكلية لمحمد عثمان شبير 27.
[2] القواعد الفقهية للندوي 67.
[3] الفروق 1/ 62.
[4] ينظر: نظرية التقعيد الأصولي 158.
[5] ينظر: القواعد الكلية لشبير 27.
[6] تخريج الفروع على الأصول للزنجاني 34.
[7] الأشباه والنظائر لابن نجيم: 14.
[8] غمز عيون البصائر-شرح كتاب الأشباه والنظائر-: 1/ 34.
[9] جمع الجوامع بشرح المحلي: 2/ 356.
[10] ينظر: القواعد للحصني 1/ 25 وما بعدها، القواعد الفقهية للزحيلي 14، القواعد الفقهية الكلية الخمس الكبرى للعميري: 68.
[11] ينظر: كتاب القواعد لتقي الدين الحصني 1/ 25، القواعد الكلية لشبير 30.
[12] ينظر: القواعد للحصني 1/ 26، الأصول العامة للفقه المقارن 43.
[13] ينظر: القواعد الكلية لشبير29.
[14] ينظر: الجامع لمسائل أصول الفقه لعبدالكريم النملة.
[15] ينظر: أصول الفقه، لأبي زهرة: 12-13، و(مالك) لأبي زهرة: 221-222، والقواعد الفقهية للندوي: 69.
[16] ينظر: أصول الفقه لأبي زهرة 7 وما بعدها.
[17] ينظر: أنوار البروق في أنواء الفروق: 1/ 70، وتهذيب الفروق والقواعد السنية: 1/ 7، وأصول الفقه، لأبي زهرة: 10-12، والقواعد الفقهية للندوي: 67-71، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: 19-20.
[18] ينظر: تفسير النصوص 1/ 90 وما بعدها.
[19] ينظر: القواعد الكلية لشبير 29.
[20] موسوعة القواعد الفقهية للبورنو 1/ 26.
[21] القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه 13.