الخراج بالضمان
أبو عبدالرحمن أيمن إسماعيل
هذه القاعدة هي جزء من حديث نبوي ترويه لنا عائشة رضي الله عنها أنَّ رجلًا قد اشترى غلامًا واستعمله وربح من غلته، ثم وجد به عيبًا، فتخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى برده إلى صاحبه، فقال صاحب الغلام: قد استغل غلامي، يريد أخذ هذه الغلة، فقال صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"[1].
قال الجويني: ومعنى "الخراج بالضمان"؛ أي: ما يخرج من المبيع من فائدة، فهو للمشتري على مقابلة كون المبيع في ضمانه، فكأن الشارع جعل الزوائد في معارضة خطر الضمان عند تقدير التلف؛ ا.هـ[2].
أقول: فالذي يضمن هو المستحق للخراج، له غُنمه وعليه غُرمه، لذا قعَّد العلماء: "الخراج والضمان لا يفترقان"[3].
ويؤيد هذه القاعدة: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربح ما لم يُضمن". قال الشوكاني: وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربح ما لم يُضمن"؛ يعني لا يجوز أنْ يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل أنْ يشتري متاعًا ويبيعه آخر قبل أنْ يقبضه من البائع، فهذا باطل، وربحه لا يجوز؛ لأنَّ المبيع في ضمان البائع الأول؛ ا.هـ[4].
قال ابن القيم: والنهي عن ربح ما لم يُضمن قد أَشكَلت علته على الفقهاء؛ فإنَ المبيع لم تنقطع عنه علق البائع، فهو يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإنْ أقبضه إياه فإنَّما يقبضه على تأسف على فوت الربح، وهذا معلوم بالمشاهدة؛ ا.هـ[5].
يؤيد هذه القاعدة: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"[6]، وفي رواية: "إذا اشتريت مبيعًا فلا تبعه حتى تقبضه"[7].
فهنا ينهى النبي صلى الله عليه وسلم المشتري أنْ يبيع ما اشتراه في محله حتى ينقله إلى رحله ومكانه، وعلة ذلك: أن المشتري سيربح في مبيع هو لا يضمنه، بحيث إنه لو هلك المبيع، لكان من ضمان البائع الأول، فيكون المشتري رابحًا لما لا يضمن.
قال الشافعي: لأنَّهُ إذَا بَاعَ شَيْئًا اشْتَرَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ، فَقَدْ بَاعَ مَضْمُونًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَصْلُ الْبَيْعِ لَمْ يَبْرَأْ إلَيْهِ مِنْهُ، وَأَكَلَ رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ؛ ا. هـ [8]. وعلة أخرى ذكرها ابن عباس رضي الله عنه: لَمَّا سأله طاوس عن سبب النهي الوارد في الحديث؟ فقال رضي الله عنه: مال بمال، والطعام مرجأ؛ ا.هـ[9].
ويؤيد هذه القاعدة قول ابن عمر رضي الله عنه: "ما أدركتِ الصفقةُ حيًّا مجموعًا، فهو من مال المبتاع"[10].
قلت: فهذه فتوى ابن عمر رضي الله عنه بأن ما يقبضه المشتري من البائع فهو من ضمان المشتري، يضمنه بتلفه، فلما كان ضامنًا له فمن العدل أن يكون هو المستحق لغلته الحاصلة.
فوائد على القاعدة:
هل حديث المُصراة ينافي القاعدة؟ نقول ورد في حديث المُصراة أمْر النبي صلى الله عليه وسلم بردها ومعها صاعًا من التمر في مقابل ما أخذه المشتري من لبنها[11]، فاعلم أنَ هذا لا ينافي القاعدة المذكورة؛ وذلك لأن صاع التمر المأمور برده مع المُصراة إنَّما هو عِوضٌ عن اللبن الذي كان موجودًا وقت العقد في ضرع المصراة، وليس على اللبن الحادث بعد الشراء، فإنَّ اللبن الحادث يكون ضمانه على المشتري، وهذا هو عين العدل والقياس، وأما الخراج الذي للمشتري إنَّما هو الحادث بعد العقد والقبض؛ ا.هـ[12].
ومن الفوائد: الأجرة والضمان لا يجتمعان:
إذا كنَّا قد صدَّرنا باب هذه القاعدة بقولنا: "الخراج والضمان لا يفترقان"، فتأتي هذه القاعدة على النقيض، فتقول: الأجرة والضمان لا يجتمعان، بمعنى: إذا كان ضمان المبيع ينتقل للمشتري بقبضه له، فالأمر في الإجارة مختلف؛ حيث إنَّ من استأجر مبيعًا، سيارة كانت أو دارًا، فإنه لا ضمان عليه، بل إنَّ ضمانه لم يزل على صاحبه الأول، وعليه فإنْ هلك هذا المبيع بغير تفريط ولا تعدي من المستأجر، فإنَّه لا يضمن سوى الأجرة فقط؛ حيث إنَّ المستأجر مؤتمن، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضمان على مؤتمن"[13].
[1] حم (24224) د (3508) ت (1285) ن (4490)، وقد ضعَّفه البخاري وأبو داود، وصححه ابن القطان وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم، قال الترمذي: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، يرون أن الرجل يشتري العبد، فيستغله ثم يجد به عيبًا، فيرده على البائع، فالغلة للمشتري؛ ا.هـ، قال الألباني: هو حديث حسن، رواه الترمذي بسند فيه مخلد بن خفاف؛ قال عنه الحافظ: مقبول؛ أي: عند المتابعة، وقد رواه أبو داود بسند فيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو كثير الأوهام وقد ضعَّفه الذهبي في الميزان، فالحديث حسن، ولا سيما وقد تلقاه العلماء بالقبول؛ ا.هـ، وانظر لما سبق تقريب التهذيب (5/ 394)، وبلوغ المرام (ح/ 818) والتلخيص الحبير (3/ 24) وإرواء الغليل (1/ 158).
[2] وانظر نهاية المطلب (5/ 219).
[3] وانظر المغني (4/ 160)، والقواعد الفقهية لمحمد بكر إسماعيل (ص/ 207)، والقواعد الفقهية د.عزام (ص/ 504).
[4] قلت: فكما أن الشرع نص على أن الذي يضمن هو الأحق بالربح، لذا فالذي لا يضمن المبيع فلا حق له في أخذ ربحه وغلته، وانظر نيل الأوطار (5/ 179) وشرح السنة (4/ 307).
[5] ذكره ابن القيم في تعليقه علي سنن أبي داود، قلت: والعلة التي ذكرها ابن القيم تختلف عن تلك التي ذكرها الشوكاني، وكلا العلتين يصلح لتفسير الحديث، فتأمل، وانظر عون المعبود (6/ 362).
[6] حم (5500) خ (2126) م (1525) ن (4597).
[7] قط (2820)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (ح/ 343).
أقول: وفي هذا الحديث دلالة على أن النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، ونقله عن مكانه هو نهي عام لكل مبيع، طعامًا كان أو غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتريت مبيعًا"، ويؤيده قول ابن عباس: "أحسبه في كل شيء"؛ متفق عليه، أما رواية ذكر الطعام، فهي ذكر لفردٍ من أفراد العموم فلا يخصصه، وانظر: طرح التثريب (6/ 100)، وإحكام الأحكام (ص/ 529)، وفقه المعاملات (ص/ 86)، ومعالم السنن (3/ 135).
[8] ذكره في الأُم (9/ 192).
[9] م (1525).
[10] خ (4/ 500) معلقًا بصيغة الجزم، ووصله الدارقطني وابن حجر من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبدالله بن عمر عن أبيه، وصحَّحه النووي، قال ابن حجر: صحيح موقوف؛ انظر: تغليق التعليق (3/ 242)، والمجموع (12/ 111)، وتبييض الصحيفة (2/ 125).
[11] ووجه الإشكال أن الشاة كانت في ضمان المشترى، فلماذا يرد معها صاعًا من تمر، أليس الخراج بالضمان؟
[12] بتصرُّف يسير من إعلام الموقعين (1/ 367).
[13] قط (2961) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وفي سنده عبدالله بن شبيب، قال عنه الحاكم: ذاهب الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق الأخبار ويقلبها، وكذلك ففي سنده يزيد بن عبدالملك، قال عنه النسائي:متروك الحديث، لذا فالحديث ضعيف مرفوع، قد ضعفه ابن حجر والبيهقي والذهبي، وقد رواه البيهقي في الكبرى موقوفًا على عليِّ، وسنده ضعيف، قال ابن حجر: لم يصح مرفوعًا، وإنما يُروى عن شريح من قوله؛ ا.هـ، وقال البيهقي: لم يصح إلا من قول شريح؛ ا.هـ، قلت: وقول شريح قد أخرجه عبدالرزاق ولفظه: "ليس عَلَى الْمُسْتَوْدِعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ"، وسنده صحيح، والمُغِل: هو الخائن المتهم، وانظر: نصب الراية (4/ 335) والتلخيص الحبير (3/ 214)، ومعرفة السنن والآثار (4/ 482).
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك