الرفق في مجال العبادات
د. حسن محمد عبه جي
اقترن الرِّفقُ في كلام المصطفى بالخير وجوداً وعدماً، فقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أُعْطِيَ حَظَّه مِنَ الرِّفْقِ فقَدْ أُعْطِيَ حظَّه من الخير، ومَنْ حُرِمَ حظَّه من الرِّفْق فقَدْ حُرِم حظَّه من الخير)) [1].
فالرِّفق خير خالص، والإنسان الرَّفيق محلُّ ذلك الخير ومصدره.
وفي مجالات الرِّفق يقول صلى الله عليه وسلم: (( إن الله يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه )) [2].
فليس للرِّفق حدود تقيّده، ولا مجال واحد يختصُّ به، فهو مطلوب في كل الشئون والأحوال، والحياةُ بكلِّ تفاصيلها ميدان له، وهي تحتاج إليه.
وأبرز مجالات الحياة التي تحتاج إلى الرفق ثلاثة، هي: العبادات، والصِّلات الأسرية، والعلاقات العامة، وسأعرض في هذا المقال إلى الأولى.. الرِّفق في مجال العبادات.
الإسلام دين اليُسْر، فلا عنَتَ فيه ولا مشقة، قال سبحانه: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185] [3]، وتمتاز تكاليفه بالرحمة، فلا تضييق فيها ولا تعجيز، قال جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78] [4]، ولا تكليفَ فيه إلا بما يطاق، قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286] [5]، وبهذا غدا الرِّفق مقصداً من مقاصد هذا الدّين، وسمة بارزة فيه، وخصيصة من خصائص تكاليفه الشرعية.
فهو مطلوب حين أداء العبادة، صلاةً كانت أو صياماً أو زكاة أو حجاً أو غير ذلك، فريضة كانت أو تطوعاً، قولية كانت أو عملية، سرية كانت أو جهرية، فردية كانت أو جماعية، وإليك بعضَ الأمثلة الدالّة على ذلك:
1- النّهْي عن التّشديد في العبادة رفقاً بالنفس:
عن عائشةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( يا أيها النَّاس خذوا من الأعمال ما تُطِيقون، فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله ما دامَ وَإِنْ قَلَّ )) أخرجه البخاري ومسلم [6].
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((... سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشيْءٌ من الدُّلْجة. والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا )) الحديث، رواه البخاري [7].
قال ابن حجر: (( قوله (وقاربوا) أي: لا تُفْرِطوا فتُجْهِدوا أنفسَكم في العبادة؛ لئلا يفضيَ بكم ذلك إلى المَلال، فتتركوا العمل فتُفَرِّطوا )).
وقال أيضاً: (قوله (واغدوا وروحوا...) فيه إشارة إلى الحثِّ على الرِّفْق في العبادة) [8].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ وحَبْلٌ ممدودٌ بين ساريتَيْن فقال: (( ما هذا؟)).
قالوا: لِزَيْنَبَ، تصلِّي، فإذا كسِلَتْ أو فَتَرَتْ أمسكَتْ به. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( حُلُّوه، لِيُصلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا كَسِلَ أو فتَرَ قعدَ )) وفي رواية: (( فليَقْعُدْ )) رواه البخاري ومسلم [9] واللفظ له.
وفي الحديث أن الرِّفق بالنَّفْس في العبادة مطلوب، فإذا أدّى الإنسانُ فرضَه فلا يتكلّف ما وراء ذلك إلا بقدر طاقته، ولا يُشَدِّدُ على نفسه في الإكثار من النوافل، خشية الوقوع في الملل، وقد بوّب البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب ما يُكْرَه من التشديد في العبادة).
قال ابن بطّال: (( إنما يكره التشديد في العبادة خشية الفتور وخوف الملل )) [10]، وهذا ربما أفضى إلى ترك العبادة.
وذكر ابن حجر من فوائد هذا الحديث: (( الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التَّعمُّق فيها، والأمر بالإقبال عليها بنشاط )) [11].
وعن عبد الله بن عَمْرِو بنِ العاص قال: أُخْبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: لأقومَنَّ الليل، ولأصُومَنَّ النَّهارَ ما عِشْتُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( آنْتَ الذي تقولُ ذلكَ؟)) فقلتُ له: قد قلْتُه يا رسولَ الله.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( فإنَّك لا تستطيعُ ذلك، فصُمْ وأفطِرْ، ونَمْ وقُمْ، وصُمْ من الشَّهْرِ ثلاثةَ أَيَّامٍ؛ فإنَّ الحسنةَ بعشْرِ أمثالِها، وذلك مثلُ صيامِ الدَّهْرِ )).
قال: قلتُ: فإني أُطِيقُ أفضلَ من ذلك.
قال: (( صُمْ يوماً، وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ )).
قال: قلتُ: فإني أُطِيقُ أفضلَ من ذلك يا رسول الله.
قال: (( صُمْ يوماً، وأفطِرْ يوماً، وذلك صيامُ داودَ - عليه السَّلام - وهو أعْدَلُ الصِّيام )).
قال: قلت: فإنّي أُطِيقُ أفضلَ من ذلك.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( لا أفضلَ من ذلك )).
قال عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: لأن أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثةَ الأَيَّامَ التي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ من أهلي ومالي. أخرجه مسلم [12].
قال الإمام النووي رحمه الله: (( حاصل الحديث: بيانُ رفقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقتِه عليهم، وإرشادُهم إلى مصالحهم، وحثُّهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيُهم عن التَّعمُّق والإكثار من العبادات التي يُخاف عليهم المللُ بسببها، أو تركُها أو تركُ بعضها... )) [13].
ونقل أبو حامد الغزالي رحمه الله عن بعضهم قوله: (( ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرِّفق...)) [14].
[1] تقدم تخريجه ص 55.
[2] تقدم تخريجه ص 44.
[3] سورة البقرة (185).
[4] سورة الحج (78).
[5] سورة البقرة (286).
[6] البخاري: كتاب اللباس - باب الجلوس على الحصير ونحوه (5861)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1: 540 حديث 215 (782) وللحديث قصة.
[7] البخاري: كتاب الرقاق - باب القصد والمداومة على العمل (6463).
[8] (( فتح الباري )) 11: 303.
[9] البخاري: كتاب التهجد - باب ما يكره من التشديد في العبادة (1150)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين - باب أمر من نعس في صلاته... 1: 541 حديث 219 (784).
[10] (( شرح صحيح البخاري )) لابن بطال 3: 144.
[11] (( فتح الباري )) 3: 45.
[12] مسلم: كتاب الصيام - باب النهي عن صوم الدهر... 2: 812 حديث 181 (1159).
[13] (( شرح صحيح مسلم )) 8: 39-40.
[14] (( إحياء علوم الدين )) 3: 198.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك