شبكة ربيع الفردوس الاعلى  

   
 
العودة   شبكة ربيع الفردوس الاعلى > 3 > الموسوعة الضخمة ------- علوم القران و التفسير
 
   

« آخـــر الــمــواضــيــع »
         :: مصحف محمد مصطفى الزيات قراءة عاصم رواية شعبه سوره الحاقه (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف محمد مصطفى الزيات روايه الدورى عن ابى عمرو البصرى سورتان الحاقه و القدر (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف محمد مصطفى الزيات سوره القدر روايه إدريس الحداد عن خلف البزار العاشر (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف محمد مصطفى الزيات روايه خلف قراءه حمزه 3 سور القدر و الليل و الشمس برابط واحد (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف محمد مصطفى الزيات سورة القدر جمع روايتي البزي و قنبل قراءة ابن كثير (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف محمد مصطفى الزيات سورة الحاقة رواية قالون عن نافع (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف محمد مصطفى الزيات رواية ورش عن نافع 4 سور برابط واحد (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: محمد مصطفى الزيات المصحف المجود سورة الفاتحة بجمع القراءات السبعة (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: مصحف يوسف شوبان سورة النجم (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: المصحف الواثق بالله مصحف القران مكتوب رواية حفص عن عاصم (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)      

إضافة رد
   
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

  #1  
قديم 04-14-2015, 12:52 PM
منتدى اهل الحديث منتدى اهل الحديث غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 5,969
افتراضي لم يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة فمن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء (بحث وتخريج)

لم يقرأ النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم بالإمالة !
فمن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة السلام على من بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين, وعلى الآل والصحب الكرام, وعلى كل محب للصدق متجرد للحق, أياً كان مصدره أو موطنه لا تأخذه في الله لومة لائم, متبرئ من كل أمر لا يؤيده الدليل ولا تعضده الحجة, ولا يهدي إليه سلطان ولا برهان.
أما بعد:
فهل قرأ النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم بالإمالة ؟
وإن كان الجواب بالنفي فمن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء رحمة الله عليهم أجمعين.
هذان سؤالان عظيمان جليلان, والحاجة إلى الجواب عليهما ملحة متأكدة, لا سيما في هذا الزمان الذي بدأت تنتشر فيه القراءة بالإمالة في بلادنا عند طائفة من القراء, ليسوا هم ممن يميلون في لهجتهم, وليس من يستمع إليهم ممن يميل أو يفهم الإمالة أو يستسيغها.
وقد يأتي زمان تصبح فيه القراءة بالإمالة وشاحاً يتزين به بعض القراء, ليجلب إليه الأسماع والأبصار.
وقبل أن أجيب على هذا السؤال الكبير أذكر أمراً مهماً جليلاً جداً.
وهو أن مثل هذا الأمر - أعني القراءة بالإمالة - إذا كان قد وقع من لدن النبي محمد صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم فإنه يفترض أن يرد بكل وضوح, وبأدلة صريحة غير محتملة, فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل كل ما يتعلق بكيفية قراءة النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم للقرآن, فكيف نقول: إن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قد قرأ بالإمالة, ثم لا نجد أن أحداً من الصحابة يذكر ذلك ولا يشير إليه, ولا يدل عليه, ولا يقف معه, بل يتنكرون له ويعرضون جميعاً عن ذكره, مع أنه مخالف للهجتهم وما اعتادوا عليه, في الوقت الذي نقلوا فيه أشياء كثيرة في أمر القراءة وغيرها هي دون ذلك في الأهمية بكثير.
وقد أشار الهذلي المتوفى سنة (465) هـ في كتابه "الكامل" إلى أن هناك من القدماء من أنكر أن القرآن نزل بالإمالة كما سيأتي ذكره.
وأقول: الحقيقة أني لم أجد أي دليل صحيح يستدل به على أن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قرأ بالإمالة, وقد ذكر بعض العلماء بعض الأدلة, وكلها أحاديث واهية, وإليك تخريجها مفصلاً.
أولاً: ما روي عن زر بن حبيش أنه قال: (قرأ رجل على عبد الله بن مسعود ïپ´ (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر الطاء والهاء, فقال الرجل: (طه) ولم يكسر فقال عبد الله (طه) وكسر الطاء والهاء فقال الرجل (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر الطاء والهاء, فقال الرجل: (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر, ثم قال: والله لهكذا علمني رسول الله r).
هذا الحديث قد أخرجه أبو عمرو الداني في "تاريخ القراء", وابن الجزري في "النشر" (2/31)
من طريق: محمد بن عبيد الله, عن عاصم, عن زر بن حبيش به.
قال ابن الجزري: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وهذا الحديث ضعيف جداً.
فإن محمد بن عبيد الله هذا هو العرزمي, وهو متروك الحديث. انظر: "التهذيب" (9/322)
فلا يصح الاستدلال به لضعفه الشديد.

وأخرجه الفراء في "معاني القرآن" (2/174), والأزهري في "معاني القراءات" (2/141)
عن قيس بن الربيع, عن عاصم, عن زر به.
وهذا حديث لا أصل له, كما قال الإمام الكبير أبو حاتم.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/62): "سألت أبي عن حديث رواه السمري صاحب الفراء، عن الفراء، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله ïپ´ أن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قرأ: {طه}مكسورة.
قال أبي: هذا الحديث لا أصل له" اهـ.
وقيس بن الربيع ضعفه وكيع, وأحمد, وعلي بن المديني, وابن معين, والنسائي, والجوزجاني, ويعقوب بن أبي شيبة, وابن سعد, والدارقطني, وغيرهم, وسئل ابن نمير عن قيس بن الربيع ؟ فقال: كان له ابن هو آفته, نظر أصحاب الحديث في كتبه فأنكروا حديثه, وظنوا أن ابنه قد غيرها, وقال أبو داود الطيالسي: إنما أتي قيس من قبل ابنه, كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في كتاب أبيه, ولا يعرف الشيخ ذلك. انظر: "التهذيب" (8/391)
وقال ابن حجر في "التقريب" (2/128): صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به.

وأخرجه الحاكم (2/245)
عن أبي بكر بن أبي دارم، عن عبيد بن غنام بن حفص بن غياث, عن عبيد بن يعيش, عن محمد بن فضيل، عن عاصم، عن زر به.
وهذا إسناد تالف.
أحمد بن محمد بن أبي دارم رافضي لا يوثق به, كما قال الحاكم. وقال الذهبي: كوفي رافضي كذاب. انظر: "الميزان" (1/139).
وعبيد بن غنام لم أجد أحداً ترجم له قبل الذهبي رحمه الله, فحاله غير معلومة, وإن وثقه الذهبي في "السير" (13/558), وقال فيه مرة: صدوق, كما في "العبر في خبر من غبر" (2/113), وقال: هو راوية الكتب عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وعلى أي حال فلا يمكن الاعتماد في أمر خطير كنسبة الإمالة إلى النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم على سند فيه رجل رافضي كذاب لا يوثق به, كما قال الحاكم نفسه والذهبي.

وقال الدارقطني كما في "أطراف الغرائب والأفراد" (4/352): (قرأ رجل طه...) الحديث.
غريب من حديث أبي بكر بن عياش, عن عاصم, عن زر.
تفرد به شيخنا أبو إسحاق إسماعيل بن يونس بن ياسين الكاتب, عن أبي هشام الرفاعي, عن أبي بكر بن أبي عياش" اهـ.
قلت: أبو هاشم الرفاعي هو محمد بن يزيد, وقد قال فيه البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه, وقال ابن نمير: كان يسرق الحديث, وقال ابن نمير أيضاً: هو أضعفنا طلباً وأكثرنا غرائب. انظر: "الميزان" (4/68)
وإسماعيل بن يونس بن ياسين لا تعرف حاله. انظر: "لسان الميزان" (1/446)

ثانياً: حديث حذيفة بن اليمان t أنه سمع رسول الله r يقول: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها, وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين).
قال الداني كما في "النشر" (2/30): "فالإمالة لا شك من الأحرف السبعة ومن لحون العرب وأصواتها" اهـ.
والحقيقة أن هذا الحديث منكر كما قال الذهبي في "الميزان" (1/553)
وقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8/108) (7219), وابن عدي في "الكامل" (2/78), والبيهقي في "الشعب" (2/540), والجوزجاني في "الأباطيل" (723)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" ( 1/ 118) (160)
من طريق: بقية بن الوليد، عن الحصين بن مالك الفزاري، عن أبي محمد، عن حذيفة ïپ´, عن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم.
وإسناده تالف.
قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن حذيفة إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية" اهـ.
وبقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية, وهو شر أنواع التدليس, ولا بد أن يصرح بالتحديث في كل طبقات السند.
وشيخه حصين بن مالك مجهول, كما قال الجوزجاني.
وقال الذهبي في "الميزان" (1/553): ليس بمعتمد.
وأبو محمد وهو الراوي عن حذيفة مجهول أيضاً.
قال الجوزجاني: هذا حديث باطل, وأبو محمد شيخ مجهول، وحصين بن مالك أيضاً مجهول.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، وأبو محمد مجهول، وبقية يروي عن الضعفاء ويدلسهم.

وقال السخاوي في "جمال القراء" ص (598)
روى صفوان بن عسال (أنه سمع رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم يقرأ (يا يحيى) فقيل له: يا رسول الله تميل وليس هي لغة قريش؟ فقال: هي لغة الأخوال بني سعد).
وهذا الحديث لا أصل له, وقد ساقه السخاوي هكذا بلا سند.
ثم إن علامات الوضع والاختلاق تبرق وتلوح عليه. والله أعلم.

وكذلك ذكر السخاوي أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أقرأني على بن أبي طالب (رأى كوكباً). بالإمالة.
وهذا لا أصل له أيضاً, فقد ذكره السخاوي بلا سند أيضاً.

وروي عن إبراهيم النخعي كما في "النشر" (2/31) أنه قال: (كانوا يرون أن الألف والياء في القراءة سواء) قال: يعني بالألف والياء التفخيم والإمالة.
وكلام إبراهيم النخعي هذا فيه غموض, فما المراد بقوله: سواء ؟!
هل المراد أن القارئ مخير بقراءة الألف ياء فهما سواء.
أم المراد أن المعنى لا يتغير بالإمالة.
أم المراد أن الألف والياء في الكتابة سواء.

وأما قول بعضهم: إن الإمالة قد ثبتت بالتواتر, فلو لم يرد أي دليل عليها فالتواتر كاف في ثبوتها, وهو أقوى من ورود النصوص عليها.
فالجواب على ذلك أن القرآن لا شك أنه ثابت متواتر, ولا يشك في ذلك مسلم.
ولكن المتواتر هو القرآن, أما كثير من تفاصيل القراءات المختلف فيها وكيفيات الآداء كافة فليست كذلك, ولا يقول إنها متواترة إلا من لا يعرف التواتر, كما قال الإمام ابن الجزري في النشر.
ولن أطيل في هذه المسألة, فإني سوف أفرد لها وقفة أخرى إن شاء الله تعالى, وسوف أذكر بعد قليل بعض النقول المتعلقة بذلك.
كما سوف أذكر في بحث مستقل أيضاً المراد بما اشتهر عن السلف من قولهم: (إن القراءة سنة متبعة) وأبين بكل وضوح إن شاء الله أن المراد بذلك ما يتعلق بفرش الحروف والإعراب ونحو ذلك, وليس ما يتعلق بطريقة الأداء.

قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/23): "تواتر القراءات عن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم إلى الأئمة السبعة فيه نظر, فإن أسانيد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة إلى النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم موجودة في كتب القراءات, وهي نقل الواحد عن الواحد لم تستكمل شروط التواتر... وأبلغ من هذا أنها في زمن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم لم تتواتر بين الصحابة... واعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات ظناً منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن, وليس ذلك بلازم, لأنه فرق بين ماهية القرآن والقراءات".

وقال الإمام أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز" ص (176): "وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي: كل فرد فرد مما روى عن هؤلاء الأئمة السبعة... وغاية ما يبديه مدعي التواتر المشهور منها كإدغام أبي عمرو ونقل الحركة لورش وصلة ميم الجمع وهاء الكناية لابن كثير أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين الواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم في كل فرد فرد من ذلك، وهنالك تسكب العبرات فإنها من ثم لم تنقل إلا آحاداً إلا اليسير منها, وقد حققنا هذا الفصل أيضا في "كتاب البسملة الكبير" ونقلنا فيه من كلام الحذاق من الأئمة المتقنين ما تلاشى عنده شبه المشنعين، وبالله التوفيق".

وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/171): "فكثير من القراءات تدعون تواترها، وبالجهد أن تقدروا على غير الآحاد فيها... ومن ادعى تواترها فقد كابر الحس, أما القرآن العظيم سوره وآياته فمتواتر ولله الحمد، محفوظ من الله تعالى، لا يستطيع أحد أن يبدله ولا يزيد فيه آية ولا جملة مستقلة".

وقال الزركشي في "البرهان" (1/318): "والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة أما تواترها عن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم ففيه نظر, فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات, وهي نقل الواحد عن الواحد, لم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة ".

وقال ابن الجزري في "منجد المقرئين" ص (89): "فإن قلت: قد وجدنا في الكتب المشهورة المتلقاة بالقبول تباينا في بعض الأصول والفرش كما في الشاطبية نحو قراءة ابن ذكوان (تتبعان) بتخفيف النون, وقراءة هشام (أفئدة) بياء بعد الهمزة, وكقراءة قنبل (على سوقه) بواو بعد الهمزة، وغير ذلك من التسهيلات، والإمالات التي لا توجد في غيرها من الكتب إلا في كتاب أو اثنين وهذا لا يثبت به تواتر. قلت: هذا وشبهه وإن لم يبلغ مبلغ التواتر صحيح مقطوع به, نعتقد أنه من القرآن وأنه من الأحرف السبعة التي نزل بها، والعدل الضابط إذا انفرد بشيء تحتمله العربية والرسم واستفاض وتلقي بالقبول قطع به وحصل به العلم... ونحن ما ندعي التواتر في كل فرد فرد مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق، لا يدعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر".

وقال ابن الجزري أيضاً في "النشر" (1/13): "وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم, وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف".
فانظر كيف أن ابن الجزري رحمه الله قد صرح بتراجعه عن ذلك القول الذي ظهر له فساده.
وابن الجزري أعلم من غيره في هذه المسألة, وهو من أعلم الناس بأسانيد القراء وطرقهم, وهو إمام لكل من أتى بعده من أهل القراءات والتجويد, فهو الإمام المقلد المعتمد عليه في هذا الشأن لكل من جاء بعده إلى اليوم.

وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (1/144): "وقد ادعي تواتر كل واحدة من القراءات السبع, وادعي أيضاً تواتر القراءات العشر, وليس على ذلك أثارة من علم.

وقال ابن الحاجب كما ذكر ابن الجزري في "النشر" (1/30): "والسبعة متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز وغيره" اهـ

قلت: فلا يهولنك بعد ذلك كثرة المقلدين المرددين ما قيل قبلهم من أن جميع القراءات وتفاصيلها وجميع أنواع الأداء قد جاءت متواترة.
ثم كيف تكون الإمالة قد رويت بالتواتر إلى النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم ثم لا تجد لها عن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم أي ذكر في كتب السنة والحديث كافة !

ولأنه لم يرد أن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قرأ بها, ولم يثبت ذلك عنه فقد صرح ابن تيمية رحمه الله بأن الإمالة إنما قرأ به القراء أو من قبلهم باعتبار أنه مما يرخص فيه, ومما يسوغ لهم أن يقرؤوا فيه باعتبار أن ذلك من لغات العرب التي كان بعضهم ينطق بها على هذا الوصف.
قال ابن تيمية رحمه الله كما في "جامع المسائل" (1/113): "وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي r تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته".

فالأقرب إذاً أن بعض القراء أو من قبلهم إنما قرؤوا بالإمالة اجتهاداً من باب التغني والترتيل, وموافقة لبعض اللهجات العربية, فإن الإمالة لهجة مشهورة من لهجات العرب, ولها قوانينها وضوابطها.
قال أبو عمرو الداني كما في "النشر" (1/30): "والإمالة والفتح لغتان مشهورتان فاشيتان على ألسنة الفصحاء من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم, فالفتح لغة أهل الحجاز, والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس" اهـ.
وكثير من النحاة وأهل اللغة يذكرون في كتبهم أبواب الإمالة وتفاصيلها.
بل إن كثيراً من تفاصيل أحكام التجويد إنما هو مجلوب من تلك الكتب.

ومما يؤكد ذلك أن الذي اشتهر بالإمالة وأكثر منها من القراء إنما هما حمزة والكسائي الكوفيان, ويليهما أبو عمرو البصري.
ومن المعلوم أن القراء قد اختاروا قراءتهم من أحرف كثيرة قبلهم.
"قال نافع: قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته, وما شك به واحد تركته, حتى ألفت هذه القراءة, وقرأ الكسائي على حمزة وغيره فاختار من قراءة غيره نحواً من ثلاثمائة حرف, وكذا أبو عمرو على ابن كثير وخالفه في نحو ثلاثة آلاف حرف اختارها من قراءة غيره". انظر: "القواعد والإشارات" للحموي ص (37)
وقد يكون بعض أولئك القراء الكثر ممن يميل بلهجته وطبيعته فأخذت عنه الإمالة.

وتذكر كتب القراءات أن قتيبة بن مهران هو ممن أخذ القراءة عن الكسائي, وانفرد عنه بإمالات رويت عنه من طريق: أبي بكر المطرز, ومن طريق: أبي علي النهاوندي, وقد تكلم العلماء في تلك الإمالات المروية عن قتيبة.
قال الهذلي في "الكامل" ص (315): "اعلم أن قتيبة حين دخل أبو علي النهاوندي بغداد بروايته حكى لأهل بغداد ما له نبرة, ولم يعتبر الموانع وغيرها, فاختاروا منها اختياراً فسموه: (إمالة قتيبة)، وتركوا ما كان منها
بشعاً في اللفظ وهو صحيح في العربية".
وقال الذهبي في "معرفة القراء الكبار" (1/356): "هو صاحب الإمالات المنكرة".
وقال عنه كما في بعض النسخ "له إمالات مزعجة معروفة" اهـ.
وقال الأندرابي في "الإيضاح" ص (603): وقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الفارسي: "أنا أظن أن إمالة هذه الحروف ونحوها من عادة الكوفيين في كلامهم وألفاظهم، لا أن قتيبة رواها عن الكسائي أنه اختارها في القرآن، وإن كانت إمالتها جائزة في اللغة العربية، والله أعلم بذلك".

قلت: فهذا مما يدل على أن الإمالات إنما هي اختيار من القراء رحمهم الله, باعتبار أنها من أنواع الترتيل والتغني, وبأنها من لهجات العرب المعروفة, وبعضها من عادة بعض الكوفيين في كلامهم وألفاظهم كما قال الفارسي, لا أن هذه المواضع التي أمالها القراء قد أمالها النبي r.

وقد أخرج ابن أشته عن ابن أبي حاتم قال: احتج الكوفيون في الإمالة بأنهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات, فاتبعوا الخط وأمالوا ليقربوا من الياءات. انظر: "الإتقان" (1/314)
وهذا صريح لا يحتاج إلى شرح.

وهذه القراءة التي تكلم فيها الهذلي والفارسي وغيرهما قد دافع عنها الداني, وانتصر لها في "الموضح" ص (671) فقال رحمه الله: "وكل ما ذكرناه من الحروف التي رواها قتيبة عن الكسائي في هذا الكتاب ممالة أو مشمة، هو على نص قوله في كتابه وترجمته في مجرده. وقد حدثنا بعامتها شيخنا أبو الفتح الضرير".

وقال ابن الجزري في "غاية النهاية" (2/38): "لا أعلم أحداً من الأئمة المعتبرين أنكر منها شيئاً… وكانت رواية قتيبة أشهر الروايات عن الكسائي بأصبهان وما وراء النهر، حتى كانوا يلَقنون أولادهم بها ويصلون بها في المحاريب، وعلمي بذلك إلى أواخر القرن السابع، وأما الحال اليوم فما
أدري ما هو".

ونقل عن الحافظ أبي العلاء الهمذاني في "مفردة قراءة الكسائي" أنه قال: هذه رواية جليلة وإسناد صحيح، وهي من أجل الروايات عن الكسائي، وأعلاها وأحقها بالتقديم وأولاها، وذاك أن قتيبة صحب الكسائي إحدى وخمسين سنة، وشاركه في عامة رجاله. "غاية النهاية" (2/39)

أقول: إذا كان ابن قتيبة بهذه المنزلة من الكسائي وأنه من أكثر الناس ملازمة له ومع ذلك تكلم الناس في إمالاته وأنها من اختياره ووضعه وسموها (إمالة قتيبة) فماذا يعني هذا ؟
إنه يؤكد بكل وضوح ما ذكرته من أن تلك الإمالات لم تكن منقولة عن النبي r, ولا أصحابه رضي الله عنهم, وإنما هي من اجتهادات بعض القراء رحمة الله عليهم أجمعين.
ومما يؤكد ذلك أنه لم يرد أي دليل في سنة النبي r يدل على الإمالة, وليس لها أي ذكر في كلام النبي r أو كلام الصحابة رضي الله عنهم, وهم الذين نقلوا قراءة النبي r, ولا يمكن أن تكون هذه القراءة موجودة ولا يأتي لها أي إشارة أو ذكر لا عن النبي r ولا عن أصحابه رضي الله عنهم كما سلف.

ويؤكد ذلك أيضاً أن كثيراً من العلماء الكبار قد استنكر قراءة من قرأ بالإمالة كما قال أحمد وغيره.
قال الذهبي في "السير" (10/170): "ولقد عومل حمزة مع جلالته بالإنكار عليه في قراءته من جماعة من الكبار".
فقد كره أحمد قراءة حمزة والكسائي, لما فيها من الكسر (أي: الإمالة) والإدغام، والتكلف، وزيادة المد. انظر: "المغني" (1/492)
"وقال الفضل بن زياد: إن رجلاً قال لأبي عبد الله: فما أترك من قراءته ؟ قال: الإدغام والكسر, ليس يعرف في لغة من لغات العرب.
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: أكره الكسر الشديد والإضجاع.
وقال في موضع آخر: إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به.
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة ؟ قال: أكرهه أشد كراهة, إنما هي قراءة محدثة, وكرهها شديداً حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: أكرهها أشد الكراهة قيل له: ما تكره منها قال: هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد.
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها, وقال: كرهها ابن إدريس, وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدي, وقال: ما أدري إيش هذه القراءة, ثم قال: وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب". انظر: "إغاثة اللهفان" (1/161)
فهل كان الإمام أحمد رحمه الله يجهل أن الإمالة وتفاصيل القراءات والأداء متواترة ! أم كان يجهل أن نقد القراءات المتواترة أمر خطير !

وقال أبو بكر بن عياش: قراءة حمزة عندنا بدعة.
قال الذهبي في "الميزان" (1/606) تعليقاً على قول أبي بكر بن عياش: "يريد ما فيها من المد المفرط، والسكت، وتغيير الهمز في الوقف, والإمالة وغير ذلك".

وقال ابن مهدي: لو صليت خلف من يقرأ قراءة حمزة لأعدت الصلاة.
وكذلك قال ابن عتيبة أيضاً.
وعن أبي بكر بن عياش قال: قلت لحمزة: ما هذه القراءة فما كان له حجة.
وقال يزيد بن هارون: إذا رأيتم من يقرأ قراءة حمزة فاعلموا أنه يريد الرئاسة.
وقد أرسل إلى أبي الشعثاء بواسط: لا تقرئ في مسجدنا قراءة حمزة.
وعن ابن أدريس أنه قال لحمزة: اتق الله فإنك رجل تتأله, وليست هذه القراءة التي تقرؤها – يعني الهمزة والإضجاع – بقراءة ابن مسعود ولا غيره.
فقال له حمزة: أما إني أتحرج أن أقرأ بها في المحراب, ولإن رجعت من سفري لأتركها.
فكان ابن إدريس يقول: ما أستجيز أن أقول لمن يقرأ بقراءة حمزة صاحب سنة.
وقال سفيان: ما ابتلي العباد ببلية أعظم من رأي وقراءة حمزة.
قال ابن قتيبة: من العجب أن حمزة يقرئ بطريقة ويكره الصلاة بها.
قال وكان ابن عيينة يأمر بإعادة الصلاة لمن قرأ بها, ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين, منهم بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.
وقال يعقوب بن شيبة: كان كثير من أهل العلم يجتنب اختيار حمزة للقرآن لإفراطه في الكسر (أي: الإمالة) وغيره, وسألت ابن المديني فجعل يذم قراءة حمزة, وقال: لم يقرأ على قراءة عبد الله, وإنما هذه القراءة وضعها هو, ولم يكن من أهل العلم, وما زلنا نرى الرجل يقرأ قراءة حمزة فإذا اتبع العلم تركها, وما زلنا نسمع أصحابنا ينكرون قراءة حمزة, ثم قال ابن المديني: وإنما نزل القرآن بلغة قريش, ولغة قريش التفخيم, وسمعت بشر بن موسى يحدث علي بن المديني قال: حدثني نوفل. فقال ابن المديني: نوفل ثقة. قال: سمعت عبد الله بن إدريس يقول لحمزة: اتق الله فإنك رجل متأله, وهذه القراءة ليست قراءة عبد الله ولا قراءة غيره. فقال حمزة: أما إني أتحرج أن أقرأ بها في المحراب. قلت: لم ؟ قال: لأنها لم تكن قراءة القوم. قلت: فما تصنع بها إذاً ؟ قال: أما إني إن رجعت من سفري هذي لأتركها. فسمعت ابن إدريس يقول: ما أستجيز أن أقول لمن يقرأ لحمزة: إنه صاحب سنة.
وقال سفيان بن عيينة: لا تصلوا خلف من يقرأ بقراءة حمزة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/255- 262) طبعة دار عالم الكتب. تحقيق: الدكتور قولاج.

وقد كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة, وينهى عنها.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره وبطنه.
وقال الساجي: قد ذمه جماعة من أهل الحديث في القراءة, وأبطل بعضهم الصلاة باختياره من القراءة.
وقال الساجي أيضاً والأزدي: يتكلمون في قراءته وينسبونه إلى حالة مذمومة فيها.
وقال الساجي: سمعت سلمة بن شبيب يقول: كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة.
وقال ابن دريد: أني لأشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة.
وكذا جاء عن عبد الله بن إدريس الأودي وغيره التبرم بقراءة حمزة.
وقال حماد بن زيد: لو صلى بي رجل فقرأ بقراءة حمزة لأعدت صلاتي
انظر: "الميزان" (1/605), و"التهذيب" (3/27).

وقال ابن قتيبة رحمه الله المتوفي سنة (276) هـ في كتابه "تأويل مشكل القرآن" ص (110):
"وقد كان الناس قديماً يقرؤون القرآن بلغاتهم كما أعلمتك ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف وزلوا وقرؤوا بالشاذ وأخلوا.
منهم رجل - يعني الإمام حمزة المقرئ المعروف رحمه الله - ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين, لم أر فيمن تتبعت وجوه قراءته أكثر تخليطاً ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصل أصلاً ويخالف إلى غيره لغير ما علة, ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة.
هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المد والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المركب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله، وتضييقه ما فسحه.
ومن العجب أنه يُقرئ الناس بهذه المذاهب ويكره الصلاة بها ! ففي أي موضع تستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها ؟!
وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.
وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشراً وفي مائة آية شهراً وفي السبع الطول حولاً، ورأوه عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبينين توهموا أن ذلك لفضيلة في القراءة وحذق بها.
وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت قراءتهم سهلة رسلة, وهكذا نختار لقراء القرآن في أورادهم ومحاريبهم" اهــ.

ولذلك لما سئل الكسائي عن الهمز والإدغام ألكم فيه إمام قال: نعم حمزة كان يهمز ويكسر, وهو إمام لو رأيته لقرت عينك من نسكه. انظر: "السير" (7/90), و"معرفة القراء" (1/263) كلاهما للذهبي.
قال الذهبي: "يريد بقوله يكسر أي: يميل" اهـ.
قلت: فكأن السائل ينكر عليه هذا الأمر غير المعروف.
ثم إنه لم يستدل على الإمالة بشيء إلا أن حمزة كان يكسر, وهو إمام لو رأيته لقرت عينك من نسكه !

ويشير الهذلي المتوفى سنة (465) هـ في كتابه "الكامل" ص (308) إلى أن هناك من القدماء من أنكر أن القرآن نزل بالإمالة.
قال رحمه الله: "رأيت قوماً زعموا أن القرآن لم ينزل بالإمالة, وإنما نزل بالتفخيم، ولما انتقلت الصحابة من المدينة ومكة إلى العراق، وأخذوا بلغة أهل الأنبار حتى أن رجلاً سمع ابن أبي وقاص بعد قدومه إلى القادسية يقرأ (موسى) و(عيسى) و(يحيى) بالإمالة فقال: إن أبا إسحاق جاور أهل الأنبار, وأن أبا حاتم عاب إمالة حمزة والكسائي وقال: إن القرآن لم ينزل هكذا, وقصد بذلك رد قراءة أهل الكوفة, وأن اليزيدي جالس الكسائي بعد انفصاله عن أبِي عمرو فسمع هاشم البربري يقرأ عليه ويمل إمالة مفرطةً فقال: أقل من هذا يا أبا معاوية, فقال هاشم: أما سمع يا أبا الحسن قول اليزيدي فقال: أكثر من هذا على رغم، والعجب من أبي خيثمة حين قال: إن الله لم ينزل القرآن بهذا اللغة حتى عاب الأعمش وأصحابه, وحكى حديث أهل مكة حين قدم هارون الكسائي ليصلي بهم فقرأ سورة (والنجم) فأمال فتفرقوا من خلفه وشغبوا عليه وذكر قصة فيها طول, ونحن نحترز عن التطويل في هذا الكتاب.
والجملة بعد التطويل أن من قال: إن الله لم ينزل القرآن بالإمالة أخطأ وأعظم الفرية على الله وظن بالصحابة خلاف ما هم عليه من الورع والتقى, وكيف يظن بهم ذلك ولم يتركوا فعلاً من أفعال رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم لا قولاً ولا حركة إلا نقلوه وبينوه, إذ هم حجة الشريعة... وأنى يظن بهم ذلك وهم أمناء الأمة، وفصحاؤها وحفاظ الدين والشريعة, كيف وقد قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ولو جاز أن يدخل في القرآن ما ليس فيه لجاز أن يزاد فيه وينقص, ولو جاز ذلك لتبدلت الشريعة ووصفت هذه الأمة بما وصف به اليهود والنصارى من تبدل التوراة والإنجيل, كيف وقد اجتمعت الأمة من لدن رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة... وهذه الحروف وأشباهها مشهورة فكيف الإمالة مع طولها لو كانت محدثة لأنكرها الصحابة والتابعون إلى يومنا هذا, ولم نقصد ذكر أحد ممن رد الإمالة لئلا يقال أخذنا في الطعن على المتقدمين" اهـ

إذا يؤخذ من كلام الهذلي رحمه الله أن هناك من أنكر أن الإمالة قرأ بها النبي r, فهو رأي قديم ومشهور.
وأما قول الهذلي رحمه الله: (ولو جاز أن يدخل في القرآن ما ليس فيه ، لجاز أن يزاد فيه وينقص) فجوابه أن صفة الأداء والتلاوة يختلف فيها الناس بطبيعتهم ولا يقال: إن من قرأ بالإمالة قد زاد في القرآن وإنما هو نوع من التغني بما يتوافق مع بعض لغات العرب, وأما أن ينسب ذلك إلى النبي r فأنى يثبت ذلك.

وأما قوله: (كيف وقد أجمعت من لدن رسول الله r إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة).
فجوابه أن يقال: أين هذا الإجماع من لدن رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم إلى يومه رحمه الله, وقد أنكر القراءة بالإمالة جماعة من الكبار كما سبق.
وكيف يقال بالإجماع من لدن الصحابة والتابعين على القراءة بالإمالة ثم لا نجد نصاً واحداً صحيحاً يؤيد أنهم قرؤوا بالإمالة أو أقرؤوا بها !
باستثناء من كانت لغتهم ولهجتهم الإمالة.

وكذلك قال الأندرابي في "الإيضاح" ص (77): وذلك أنه لولا أن رسول الله r قد كان يميل في بعض الأوقات إذا قرأ لم يكن ليستعمل الإمالة في القرآن جماعة الأئمة, و لم تكتب المصاحف بالياء في أمثال (والضحى والليل إذا سجى), ونحو ذلك، ولكن التفخيم أعلى وأشهر في فصحاء العرب, وهو الأصل, والإمالة داخلة عليه, وليس التفخيم والإمالة اختلافاً في نفس اللغة, وإنما ذلك اختلاف في اللحن وتقدير الصوت وتزيينه، وقد اختار كل فريق من العرب ما رآه أوفق بطباعه, واتبعهم على اختلافهم متبعون من غيرهم" اهـ

قلت: كيف يقال: إن الرسول r كان يميل في بعض الأوقات ثم لا يذكر عن الصحابة والسلف في ذلك حرف واحد, بل عدم ذكرهم لذلك والإعراض عنه جملة وتفصيلاً أعظم دليل على أن ذلك لم يقع من النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم, وإنما هو من اجتهادات بعض القراء بما يتوافق لهجات بعض العرب ولغاتها.
ولذلك قال: "وقد اختار كل فريق من العرب ما رآه أوفق بطباعه, واتبعهم على اختلافهم متبعون من غيرهم".

وقال السيوطي في "الإتقان" (1/321): "كره قوم الإمالة لحديث (نزل القرآن بالتفخيم) وأجيب عنه بأوجه
أحدها: أنه نزل بذلك ثم رخص في الإمالة.
ثانيها: أن معناه أنه يقرأ على قراءة الرجال لا يخضع الصوت فيه ككلام النساء".
ثم ذكر بقية الأوجه.
والحقيقة أنه لا حاجة لهذا الحديث ولا للإجابة عنه, لأنه حديث واه منكر كما قال الذهبي في "تلخيص المستدرك" (2/231)
والحديث قد أخرجه الحاكم (2/231), والبيهقي في الشعب (2/426)

ومما يدل أيضاً على أن الإمالة إنما هي اختيار من بعض القراء قول الداني كما في "النشر" (2/30): "وعلماؤنا مختلفون في أي هذه الأوجه أوجه وأولى، وأختار الإمالة الوسطى التي هي بين بين, لأن الغرض من الإمالة حاصل بها, وهو الإعلام بأن أصل الألف الياء, أو التنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء".
قلت: يتضح جلياً من كلام الداني أن الإمالة اختيار, وأن الغرض منها الإعلام بأن أصل الألف الياء أو التنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء.
ولذلك ذكر أن العلماء مختلفون في أي هذه الأوجه أوجه وأولى.

وقال ابن الجزري في "النشر" (2/35): "وأما فائدة الإمالة فهي سهولة اللفظ, وذلك أن اللسان يرتفع بالفتح وينحدر بالإمالة, والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع فلهذا أمال من أمال, وأما من فتح فإنه راعى كون الفتح أمتن, أو الأصل والله أعلم".
قلت: هو إقرار من ابن الجزري رحمه الله أن بعض القراء أمال لأجل السهولة في اللفظ فقط, ولذلك قال: "والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع فلهذا أمال من أمال, وأما من فتح فإنه راعى كون الفتح أمتن".
ثم إن كلام ابن الجزري هذا غير مسلم, فإن الإمالة ليست هي الأسهل دائماً, وليس الانحدار دائماً أخف على اللسان.

وعلى فرض صحة القراءة بالإمالة وأنها متلقاة عن النبي r, فلا شك أنه إنما رخص بها تيسيراً وتسهيلاً على من كانت لهجته كذلك, وليس المقصود أن يتعلمها من لم تكن من لهجته.
ومن يتكلف تعلمها والقراءة بها وهي ليست من لغته ولهجته فقد عكس القضية, فإنها رخصة لمن لا يستطيع النطق بغير الإمالة تسهيلاً عليه, فإذا أتى من يتكلف تعلمها بكل مشقة وعسر كما هو الحال فإنه قد وضع التعسير موضع التيسير والضيق موضع السعة.

ثم إنه لا شك أن الإمالة إذا قرأها من لم تكن من لهجته فإن تفكير القارئ سينصرف لا محالة إلى محاولة النطق الصحيح للإمالة, وسيكون في غفلة تامة عن تدبر المعنى, فما فائدة القرآن إذاً, وهل أنزل من أجل تحقيق اللفظ!
وكذلك إذا قرئ بالإمالة على من ليست من لهجتهم فإن قلوبهم تنصرف إلى النظر في كيفية النطق وإلى الإمالة, وسيكون ذلك من الأسباب الصارفة عن التأمل والتدبر في الآيات.

ثم إن معرفة تفاصيل أحكام الإمالة مما يشق على المتلقي, وهي مما يصعب ضبطه, فلا ينبغي الانشغال بذلك عن التلاوة والانتفاع بها.
وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الانشغال بمثل ذلك سبب للغفلة عن حقائق القرآن وحائل للقلوب عن فهم مراد الرب.
قال رحمه الله في "الفتاوى" (16/50): "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها... فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه".

ومما يؤكد أن أحكام الإمالة مما يصعب معرفته على المتلقي أن ابن غلبون المتوفى سنة (389) هـ ألف كتاباً في الإمالة اسمه: "الاستكمال لبيان جميع ما يأتي في كتاب الله عز وجل في مذاهب القراء السبعة في التفخيم والإمالة وما كان بين اللفظين".
وبين في مقدمته سبب تصنيفه لهذا الكتاب فقال: اعلم أيها الناظر في كتابي هذا - نفعنا الله وإياك - أني نظرت إلى الطالبين القراءات، والمتبعين الروايات، والمواظبين على التلاوات. فرأيتهم يختلفون في باب التفخيم والإمالة، وذلك في الأكثر منهم، إلا من عمل على الأصول، ونسق على ما في الفروع من ذلك, واختلاف الطائفة الأولى، والكثير منهم من يأتي إلى الإمالة الفاشية إذا لم يكن عنده فيها أصل فيفخم.
ومنهم من يأتي إلى التفخيم الذي لا خلاف في تفخيمه فيميله لقلة علمه بالأصل في ذلك.
ومنهم من يشك فلا يدري لقلة علمه: هل الفعل أو الاسم مفخم أو ممال".
أقول: وإنما حصل ذلك من أولئك الطالبين القراءات، والمتبعين الروايات، والمواظبين على التلاوات لمشقة معرفته وصعوبة ضبطه مع انعدام فائدته, ولأن الاهتمام به مضيع للأوقات ومشغل عن تدبر الآيات.
وفيه نقل للطالبين من السهولة والسعة إلى التضييق والتشديد الذي تنصرف به العقول إلى الألفاظ وتهجر المعاني والتدبر.

ومن المعلوم أن الحكمة من اختلاف القراءات ونزول القرآن على سبعة أحرف إنما هو دون شك التخفيف على العباد, كما نص على ذلك في الأحاديث الصحيحة الصريحة.
قال ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مشكل القرآن" ص (94)
فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرأ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم... ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة, فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات، ومتصرفاً في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين".

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (9/27):
"نقل أبو شامة عن بعض أهل الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب, ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة".

ومما لا شك فيه أبداً أن تعلم الإمالة ومعالجتها فيه تشديد وتكلف ومشقة أكيدة على من لم يكن يميل بطبيعته.
ثم إن الإمالة قد تكون مبدلة للمعنى, والأمثلة على ذلك كثيرة, وأكتفي بمثال واحد.
فقد سمعت أحد القراء المشهورين الكبار يقرأ قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) فقرأها هكذا (وجيء ربك والملك) فتغير المعنى وصار الله تعالى هو المأتي وليس هو الذي يجيء.
وكثرة الشيء وفشوه واشتهاره لا يدل بالضرورة على صحته وصوابه, وقد تفشو بعض القراءات في كثير من البلاد ويحكم العلماء عليها بالخطأ والمنع.
قال ابن الجزري في "النشر" (2/30): "ينقسم الفتح إلى شديد ومتوسط, فالشديد هو نهاية فتح الشخص فمه بذلك الحرف, ولا يجوز في القرآن بل هو معدوم في لغة العرب, وإنما يوجد في لفظ عجم الفرس ولاسيما أهل خراسان, وهو اليوم في أهل ماوراء النهر أيضاً, ولما جرت طباعهم عليه في لغتهم استعملوه في اللغة العربية وجروا عليه في القراءة, ووافقهم على ذلك غيرهم وانتقل ذلك عنهم, حتى فشا في أكثر البلاد وهو ممنوع منه في القراءة كما نص عليه أئمتنا".
قلت: انظر: كيف فشا في أكثر البلاد مع أنه ممنوع, وهذا يدل على أنه لا عبرة بانتشار الشيء واشتهاره.

وعلى هذا فيقال: إن من كانت لهجته الإمالة فإنه مرخص له أن يقرأ بها وليس المطلوب أن يقرأ بسواها, بل لا يشرع له أن يزول عن لغته ولا أن يعدل لسانه.
وعلى العكس من كانت لهجته استقامة اللسان فلا يشرع له أن يميل لسانه فيتكلف شيئاً ليس عنده فضلاً عن المشقة والتكلف وإضاعة الجهد وتغيير المألوف السهل, واستبداله بالغريب المستغرب.
ومن يستعظم هذا القول ويستنكره فليجهد نفسه في البحث عن رواية واحدة ثابتة فيها أن صحابياً تعلم الإمالة أو تمرن عليها أو أقرأها أو قرأ بها حين علم أن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قرأ بها أو أقرأ بها فإن لم يجد ولا إخاله يجد فلم الاستنكار والاستعظام إذاً !
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين الباحثين عن الحق بدليله وأن يبرأنا جميعاً من التقليد والتعصب إلا للحجة والبرهان إنه رحيم قريب مجيب.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك

رد مع اقتباس
 
   
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

   
 
 
 
   

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية

الساعة الآن 01:01 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات