إذا غاب الخاسرون فلن يفوز أحد!
نقد جدلية التلازم بين الفوز والخسارة
هشام محمد سعيد قربان
أعترف بوقوعي في حبائل الطمع مراتٍ عدة في حياتي؛ فلقد شاركت في مسابقات عديدة، وكان يحدوني أمل الفوز بجوائزَ وصيتٍ وسمعة، وقد يقولُ قائل معلقًا: "لا حرج في فعلك، ولستَ وحدك، والكثير يفعله، بل أغلب الناس في حضارات عدة يفعلونه"، وقد يبالغ آخرُ قائلاً: "هذا أمر فُطرت النفوس عليه؛ أي: العُجْب بالذات، وحب الظهور، والتنافس"، ولا مفرَّ لي من إخباركم بأنني فزتُ مرات قليلة ومعدودة، وخسرت كثيرًا جدًّا! وأصارحكم بشعور وتساؤل وترقُّب غريب أحسه في داخلي، ومغص ينتابني كثيرًا قُبيل موعد الإعلان عن الفائزين، ويلازمني بعده لزمنٍ طويل! أنكرته زمنًا، وهربتُ منه، عزَوته للحسد والغيرة، وكراهيتي للخسارة، أو ما يَصطلح عليه البعض بضعف "روحي الرياضيَّة"، لكنه لا يغيب طويلاً ويعاودني، ويلحُّ علي ويقلقني، وهذه المرة عزمت على مواجهته وتحديه ودَحض حجته، وكما تتوقعون - يا أعزائي القراء - فأنا لم أتب بعدُ توبة نصوحًا، وما زلت أحب الفوز، ولا أرضى عنه بديلاً.
حفل بهيج، ولقاء مَهيب، تحفه الأضواء اللامعة، وتشرفه النجوم الساطعة، أمراء ووزراء، وعلماء ووجهاء، وأعلام وعرفاء، عدسات وأقلام، واحتفاء من وسائل الإعلام المختلفة، يذكر عريف الحفل بإجلالٍ أسماء الفائزين الثمانية بالترتيب، ويدعو كلاًّ منهم لاعتلاء منصة التشريف، ومصافحة راعي الحفل، الشريف الأفخم، والعلَم الأكرم، وتسلم جوائزهم السَّنية، وتبرق أضواء المصوِّرين، ويحيِّي الحضورُ الفائزين بالوقوف والتصفيق، ورفع الأعلام والصور، والتباريك والزغاريد.
يقاطعني أحد القراء في عجل: "هذا حفل مبهج ومفرح ومؤنِس، ولا نرى فيه ما يستدعي ذلك التساؤل المحير والمغص الغريب الذي استهلَلت حديثك به؛ فما الصلة بينهما؟!".
أسأله قبل الإجابة عن استفساره: "هل شاركتَ في هذه المسابقة؟"، فيجيبني وقد نَفِدَ صبره: "لا، لكن ما علاقة سؤالي بمشاركتي أو عدمها؟".
أجيب قارئي العَجِل وغيرَه: "بأنني أختلف عنه؛ فأنا من المشاركين في هذه المسابقة، وهنالك مئات بل الآلاف غيري، وأنا وإياهم لم نفز في هذه المسابقة"، والأمر الذي يحيرني ويؤلمني إغفال القائمين على المسابقة وبَخْسهم لجهد المشاركين الذين لم يحظَوا بالفوز، فلا يتجاوز ذِكرُهم لهولاء المَنسيِّين - مثلي - كُلَيماتٍ معدودةً عَجِلة، وديباجة جوفاء مكرَّرة وممجوجة، لا أثر فيها لشعور أو إحساس: "نشكر جميع المشاركين، ونتمنى لهم حظًّا أوفرَ في الدورات القادمة"، وسرعان ما يبتلع هذه الكليماتِ اليتيمةَ طُوفانُ الاحتفاء بالفائزين وذِكْر محاسنهم ومآثرهم، وتبجيلهم والثناء عليهم، والتحدث عن إبداعهم، وبيان لمساتهم الجميلة، وتضخيم عطائهم، والمبالغة في وصف أعمالهم، وأحس ويحس هؤلاء المنسيون بنوع من الغَبن والتجاهل؛ "ألم نبذل جهدًا كبيرًا في مشاركاتنا التي لم تَفُز؟ ألا يعلمون بمقدار تعبنا وسهرنا في إعداد ما قدمنا؟".
يقاطعني قارئٌ آخر: "هذه طبيعة المسابقات في كل مكان وزمان، فلا بد من فوز أفراد وخسارة الباقين مهما كان عددهم، ولا ظلم من قبل منظِّمي المسابقة؛ فلقد أعلموا الجميع - في أول الأمر - بشروط المسابقة، وعدد الفائزين، ومقدار الجوائز".
أجيبه قائلاً: "كلامك صحيح، ولكن في النفس أشياء تمور؛ عدم الرضا، والشعور بالبَخس والتجاهل".
"أنت حَسود، ومن فمك أدينُك؛ فقد عزوتَ فيما تَقدَّم مشاعرك هذه للحسد والغيرة"! تعليقٌ مباغت من قارئ جريء لم أتوقعه، ولعله مُحِق، ولكن ذلك الشعور ما زال يقاوم، ولعل في ثناياه بعضَ حقٍّ مطل.
كلام متسائل ومحير، فيه بعض نفحات من الحقيقة، ينبثق من أعماقي، يغلبني، ولا أقوى على درئه وكتمه: "انظر للأمر من جهتنا؛ فلولا الخاسرون لم يوجد فائزون أصلاً، ولو أننا - أي: الخاسرين - لم نشارك في المسابقة، فلا يُتصوَّر أن يفوز الفائز وحدَه مهما عَظُم وتميز، ولسمعتهم يمددون ويَزيدون أجَلَ قبول المشاركات، ويحثون عليها، ويكثفون الدعاية للمسابقة في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية".
ويتدفق سيل المصارحة وتساؤلاته:
"أيُعقل أن يحصر هدف مسابقةٍ ما في جُحر البحث عن الفائز الفرد والاحتفاء به وحده، وتجاهل الآخرين تمامًا؟!".
"هل تَفي كُليمات تلك الديباجة الموجزة الممجوجة حقوقَ مئات المشاركين الذين لم يفوزوا؟".
"ألم يقترب أحدُ المشاركين من غير الفائزين من نطاق الفوز؟".
" ألا يوجد في المشاركات المقدَّمة إشراقات واعِدة تستحق الذِّكر والإشادة والتشجيع؟".
"لم لا تخصَّص جوائزُ إضافية لأمثال هؤلاء؟".
"لم لا يَحتفون بمن قارب الفوز أو من لديه بذرة إبداع واعد، أو شرارة أصيلة تحتاج عناية لتنمو؟".
"أيتعسر تخصيصُ نصف الحفل لأمثال هؤلاء، وإبراز صورهم، وعرض مختارات من أعمالهم؟".
"إن احتفاء المسابقة بأفراد فائزين، ونسيانَ مئات من المشاركين، وبَخس عشرات من المتميزين - أمرٌ لا تستسيغه العقول السليمة، وخصوصًا عقول أولئك الذين لم يفوزوا مثلي".
يتدخل قارئ متأمل قائلاً كلامًا وجيهًا: "أرى أنك حدتَ بعض الشيء عن موضوعك الأصلي، وكان من الأولى أن تختار عنوانًا أكثرَ مناسبةً لمقالك، وأقترح عناوينَ أخرى مثل: لمَ لا يَفوز الجميع؟ مسابقات بلا خاسرين، مسابقات تحتفي بإبداع كل المشاركين، إعادة النظر في مفهوم الفوز والخسارة، مسابقات لا تبخس حقوق المشاركين، الخسارة النسبية نوعٌ من الفوز، تحليل ونقد سيكولوجية الفوز والخسارة، لماذا نؤسس مسابقاتنا على الاحتفاء بالأفراد وبخس المئات؟ ما الخلفية التاريخية للمسابقات، وما أصول نزعة الاحتفاء بالفائز؟".
يذكِّرني كلامه بعدد من البحوث الإدارية والنفسية الرائدة التي تتحدَّى صحة فرضيَّات التنافس ودوافع التميز الشائعة في مدارسنا وشركاتنا ومجتمعاتنا، ولا يتسع المقام لبسط الحديث عنها؛ فهذا مبحث مستقل بذاته، ولكنني أشير في عجَل إلى بعض ما يحضرني منها؛ تتمَّة للحديث، وأعرضها للمثال لا للحصر.
يَذكر العالم ألفي كوهن (Alfie Cohn, 1986, 1992) بعضَ نتائج مراجعته المطوَّلة للأبحاث المتعلقة بالتنافسية في المدارس والشركات في مؤلَّفه المعنوَن: بـ"مقاضاة التنافس": (No Contest: the Case Against Competition) "أن التنافس والنجاح ليسا مترادفين... إن التميز في الأداء وهزيمة الآخرين عملان مختلفان... إن العطاء المتميز لا يحتاج في ظهوره للتنافس، بل هو في الحقيقة محتاج لتغييب التنافس وإقصائه تمامًا لكي يَظهر بجلاء"، ويضيف قائلاً: "إن ما يدفع المرء على العمل والعطاء المتميز شيءٌ آخر بعيد جدًّا ومغاير تمامًا للتنافسية"، إن أهم دافع في منظوره هو مدى إيمان المرء بقدراته، ووضوح تصوره وتوقعاته من نفسه، ويشبِّهها كوهن ويشير إليها بالنبوءة أو الحلم الذاتي المتحقق (Self - Fulfilling Prophecies).
كما يذكر الباحثان روبرت ساتون وجيفري فيفر من جامعة ستانفورد، (Jeffrey Pfeffer & Robert I. Sutton, 1999) في بحث بعنوان: مخاطر التنافس (The Perils of Competition) - تعليقاتٍ ثمينةً حول مخاطر التنافس في الشركات، ويحوي بحثهما نقولاً مختارة من بحوث رائدة في هذا المجال، ولقد صدَّرا هذا البحثَ بتعليق جميل يستحق التأمل: "عندما يتنافس العاملون في منشأة ما للحصول على الجزرة (صورة رمزية في العالم الغربي يُشار بها للعطاء المحفز والمخصص للمتميزين فقط)، فلن يفوز بها إلا عدد قليل جدًّا، وهذه خسارة للجميع، وهذا يعني خَسارة المنشأة بأكملها".
وقسَّم الباحثان هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث فرعية:
1 - مفاهيم مغلوطة عن التنافس.
2 - ما سبب مبالغة المنشآت في التركيز على التنافس؟
3 - متى وكيف يكون التنافس سائغًا؟
ولعلي أختم مقالي بمقتطفات من المبحث الفرعي الثالث للبحث السابق؛ حيث يستشهد الباحثان بتجاربَ إدارية ناجحة لشركات صحَّحت مفهوم التنافسية، وذكَرا ثلاثة شواهد: Southwest Airlines, AES Corporation, and the Men’s Wearhouse "، فمثلاً تعتمد شركة الطيران أساليبَ غير تنافسية تحث على المساعدة والمشاركة، كما تتبع أسلوب المكافآت العامة للعاملين، وتمليكهم أسهُمًا ملكية في الشركة بدلاً من تقييم الأداء الفردي التقليدي، أما شركة ملابس الرجال فتُعيد تأطير مفهوم التنافسية بحيث يكون التنافس بين فِرَق البيع ليس الأفراد، وغيَّرَت عمولة المبيعات من مكافأة الجهد الفردي إلى مكافأة جهد الفريق، فيحصل كل العاملين في الفريق الأعلى بيعًا على ذات الزيادة التشجيعية في المخصصات المالية، ويطوى قيد العاملين الذين يتَّسم عملهم بالأنانية أو البعد عن فريقهم، ويَستوي في هذا من كانت مَبيعاتهم الفردية عالية جدًّا أو منخفضة جدًّا".
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك