رحمك الله يا أبا كاتب

[منتدى اهل الحديث]

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله والصلاة والسلام على نبيه الكريم وبعد:
فإن للعلماء في الدِّين منزلة لا تخفى؛ فهم الذين رفعهم الله تعالى فقال: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
ويقول الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - عن العلماء:
هم في الأرض بمنزلة النُّجوم في السماء، بهم يهتَدِي الحيران في الظَّلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الآباء والأمَّهات بنصِّ الكتاب؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، ا. هـ.
وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -:
الناس أحوجُ إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعام والشراب يحتاجُ إليه في اليوم مرَّتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه في كلِّ وقت، ا. هـ.
ولذا كان فَقْدُ العالم مصيبةً في المجتمع؛ قال الحسن رضي الله عنه: موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار.
وقال أيوب: إنِّي أُخبَرُ بموت الرجل من أهل السُّنَّة فكأني أفقد بعض أعضائي.
لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدَ مَالٍ وَلاَ شَاةٌ تَمُوتُ وَلا بَعِيرُ
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ شَخْصٍ يَمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ.
فإني لأعزي نفسي أولاً، والمسلمين ثانياً بفقد عالم من علمائها الأجلاء، إنه شيخنا المحدث العَلم، المدقق، الفذ، الذي لا يكاد يشق له غبار في علم الرجال والعلل والحديث.. الشيخ مفلح بن سليمان الرشيدي ، أبو كاتب ، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له، وجزاه الله عن طلاب العلم والمسلمين خيراً.
وإن القلم ليعجز عن التعبير بذكر مآثره وحصرها في وريقات، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق، وحسبه مني أن أبين ماله من حق علي في ترجمة موجزة له أذكر فيها بعضاً من ما عرفته عنه، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، آمين.
أخلاقه:
لا يكاد العجب ينقطع عنك حينما تجد عالماً حباه الله بسعة الاطلاع في فنون علم الحديث وعلله ورجالاته، ويتنزّل إليك بالحديث فضلاّ عن المجالسة والتودد والعطاء، مثل شيخنا رحمه الله.. لا كما يصنع الآن أدعياء العلم، وأرباب المشالح والمغترون بالدرجات العلمية..
فالعلم الذي لا يزيدك قرباً وتواضعاً من الله و الخلق، هو علم مصلحي لا ينفع صاحبه، ولا يقربه من الله ولا من الناس، ولا حاجة للناس به، لأن المقصد من تَعَلُّم العلم رفع الجهل عن النفس، وتعليم الناس.. وأنَّا يتعلم الناس من رجل ترفع عنهم، ورأى في نفسه مزية عليهم، فلا بركة ترجى له ولا علم يبقى بعده، ولا ذكر يقام له.
نعم لقد كان شيخنا مثالاً يحتذى به في العلم والتواضع والأدب والحياء، الأمر الذي يجعلك تطمع في الاستزادة من علمه دون غضاضة أو حرج، وينشر في روحك النشاط ، ويوقد فيك الهمة والحماس وحب العلم، لا سيما حينما أنظر إليه وهو ملصقاً الكتاب بوجهه يتتبع السطور، فقد كان رحمه الله كفيف إحدى العينين والأخرى لا يكاد يرى بها حتى يلصق الكتاب في وجهه، فو الله لكانت فرحتي بمجالسته والطلب عليه لا توصف، كنز بين يديك لا يَغترف من جوهره إلا من وفقه الله واكرمه به ، ولا ينهل من معينه إلا من هداه الله إليه بتوفيقه سبحانه، إذا رأى منك همة ازداد في عطائه، ولا يفتر حتى تفتر، كنت أدخل عليه في بعض أيامه للدرس ويكون موعوكاً فأستسمحه للغد، فكان يرفض ذهابي ويقول نقرأ ولو يسير، وما إن أبدأ عليه الدرس حتى كأنما نشط من عقال، فكان العلم بلسمه ورقيته في مرضه رحمه الله.
لم يأنف يوماً أن يقول لا أعلم، ويفرح بالفائدة أيما فرح، بل يشعرك برغبته بالمعرفة والاطلاع رغم علمه بالمسألة أحياناً، حتى يظن المغفل من شدة تواضعه أنه لا يعلم، وكان يُربي في نفس طلابه التواضع للعلم تربية عملية لا قولية فقط.
وقد كان - رحمه الله - حليماً مع طلابه، رحيماً، متسامحاً، بشوش الوجه سمح المحيّا، دمث الخلق، لا تكاد تجلس معه حتى تتفكك أساريرك وتزال همومك وينشرح صدرك. رحمه الله رحمة واسعة.
لم يسمح لأحد أن يستأثر بجلساته العلمية لقصاصات الجرائد، أو فضول الحديث، وكان يحث على طلب العلم وعدم انشغال طلابه بما قاله فلان وعلّان، لذلك لم تجد له حظوة إلا عند طلاب العلم الخلص، الحريصون على الفائدة والتحصيل، فهنيئاً لمن أخذ وقيد وأفاد عنه.
لم يكن يوماً حريصاً على الشهرة كما يفعله البعض، ولو طلبها لدخل إليها من أو سع أبوابها، ولكنه العلم الذي يثقل بصاحبه، فالشأن أن تكون مشهوراً في السماء لا في الأرض، والإخلاص والثقة بالله وطلب ما عنده يغني صاحبه أن يطلب ما عند الناس من السمعة والشهرة، وهكذا نحسب شيخنا والله حسيبه، فها هو اليوم يتناقل الناس أخباره، فسبحان من أذاع صيته وأبرق نجمه، بعد موته.
علمه:
كان - رحمه الله- حافظاً لوقته، متوقداً حريصاً على المطالعة، شغوفاً بالكتب وما طبع منها، ومتتبعا لما لم يطبع، إذا أهديته كتاباً فكأنما زففت إليه عروساً، لماحاً دقيقاً واسعاً في فنه ، تثنى عنده الرّكُبُ، وتعقد عنده الدروس، ويأتونه الطلاب من كل حدب وصوب، من داخل المملكة وخارجها، لم يكونوا بتلك الكثرة الكاثرة ، ولكنهم خلص طلاب العلم، فالعبرة ليست بالكثرة (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) كان واسع الحفظ في علم الرجال( علم الحديث)، لا يكاد يغيب عنه معرفة أحوالهم، ينظم المنظومات فيهم، ولا يكاد يختلط في أسمائهم، له منظومة (ريحانة الجليس في نظم الثقات الموصوفين بالتدليس) وله مؤلفات عدة في أجزاء حديثية وبحوث في مسائل متفرقة ،قرأت عليه في الحديث سنن الدارمي، وفي المصلح الباعث الحثيث، وبعض الكتب المتفرقة، وكان من بعض فوائده الدقيقة تعقيبات ونكات على الباعث الحثيث والتي قيدتها عنه في بداية درسي عليه الكتاب في 7/12/1420هـ أرجو من الله أن يلحقه أجرها، فأذكر منها للفائدة:
ما أثبته عنه في تعليقه على الباعث الحثيث للحافظ ابن كثير ، في طور كلام الحافظ عن أصح الأسانيد، حيث قال الحافظ 1/101: " .. وزاد بعضهم : الشافعي عن مالك ؛ إذ هو أجل من روى عنه." اهـ.
قال شيخنا- رحمه الله-: وهذا ليس بصحيح إذ أن الأئمة البخاري ومسلم وداود والترمذي وأحمد، لم يعتمدوا رواية الشافعي عن مالك، وليس أتقنهم وهو من أوسط من روى عن مالك، وهو من خيار تلاميذ مالك ومن أجلهم، وليس اجلهم.
وقال الحافظ 1/104: " وأصح الأسانيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .."
قال شيخنا- رحمه الله- : ليس الأمر كذلك بل هو حسن عند الجمهور، ولا يقال هو أصح الأسانيد.
وقال الحافظ في1/ 121:" أن ما علقه البخاري بصيغة الجزم فصحيح إلى من علقه عنه .."اهـ.
قال شيخنا- رحمه الله- : بل النظر في ذلك كله فإن ما سقط منه راوٍ لا يقبل فيه حديثاً، وحكم المعلق هو حكم المرسل حتى يتبين اتصاله، ولو جزم به البخاري، فكيف نقبل المعلق ونحن أمة خصنا الله بالأسانيد ؟ وقد نوزع – يعني البخاري- فيما أسند إليه فكيف فيما علقه.
وعقب شيخنا بفائدة على قول الحافظ 1/122: " وأما إذا قال البخاري :( قال لنا) .."
قال شيخنا- رحمه الله- : وهو عند البخاري قاله على سبيل المذاكرة ، وبهذا يدفع كلام ابن حزم على عن حديث المعازف، وردوا عليه من وجهين، الأول :أن الحديث موصول من طرق أخرى، والثاني: أن البخاري ليس من اهل التدليس.
وقال الحافظ في تقسيم الحديث الضعيف 1/143 : "... فينقسم حينئذٍ إلى الموضوع، والمقلوب ، والشاذ، والمعلل، والمضطرب، والمرسل، والمنقطع، والمعضل، وغير ذلك." اهـ.
قال شيخنا- رحمه الله-: والصحيح أن المضطرب ، والمرسل، والمنقطع، والمعضل، هذه الأوصاف داخلة تحت الأحاديث المعلة وليست الضعيفة.
وتعقب الشارح 1/156 حاشية (4) في نقله لكلام البيهقي عن الشافعي، "وأنه لم يقبل بمراسيل ابن المسيب حين لم ينضم إليها ما يؤكدها .."
قال شيخنا-رحمه الله-: هذا الكلام مردود، فقد احتج الشافعي على مراسيل ابن المسيب في غير ما باب، واحتج بمرسل الحسن البصري في قول ابن عباس: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) واحتج بما قاله سعيد عن ابن عمر، وما جاء عن ابن عباس موقوفاً.
وذكر شيخنا –ر حمه الله- فائدة في مراسيل الصحابة، وهي:
" إذا ذكر المحدثون مراسيل الصحابة ففيه تفصيل: إذا أرادو من له رواية أو متن ولد في عهد النبي ﷺ فهذا يعد مراسيله مثل كبار التابعين.
أما مراسيل ابن عباس، فجل مراسيله متصلة، ومثل هذا قول التابعي عن رجل من أصحاب النبي ﷺ فالجهالة بالصحابي لا تضر وهذا يعد متصلاً.
وتعقب الخليلي في 1/171 في تعريف الحديث الشاذ: "..أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيُتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به ، ويرد ما شذًّ به غير الثقة"اهـ.
قال شيخنا- رحمه الله-: هذا مردود بل الذي عليه جهابذة الحفاظ هو تعريف الشافعي، فلو أخذنا به لضاع علينا حديث ( إنما الأعمال بالنيات).
وتعقب الشارح في نقله عن النووي في الحاشية (1) 1/192: .. "ولا يصح التمثيل بحديث ملك؛ لأنه ليس منفرداً، بل وافقه في هذا زيادة عن تافع .."
قال شيخنا -رحمه الله-: بل يصح؛ لأن المخالفين لمالك ليس إلا مثل مالك، بل وأقوى منه وهما عبد الله ابن عمر، ونافع – أظنه ذكر الأخير- وهو جهبذ، ولو لم يكن معهما مالك لم تقبل أصلاً.
وتعقب الشارح في 194/1 حاشية (1) على قوله ما ملخصه: " قبول زيادة رواة العدل الثقة على غيره من العدول، فهي مقبولة سواءً تعلق بها حكم شرعي أم لا ، أو غيرت الحكم الثابت أم لا، أو اوجبت نقض أحكام تثبت .. وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين"
قال شيخنا- رحمه الله-: أما الفقهاء فنعم- يعني في قبول زيادة العدل الثقة- وأما المحدثين فلا؛ لأنهم لا يقبلونها إلا بشروطهم، أما انفراده بالحديث فهو عدل وخبر العدل مقبول، وأما انفراده بزيادة تغير الحكم ومخالفة لسائر الرواة في هذا الحكم، فهو شاذ مالم يتابع، وهذا هو مذهب المحدثين .
من فوائد شيخنا -رحمه الله- في التوثيق قوله:" إذا اجتمع يحي وعبد الرحمن على ترك رجل فلا يكاد يندمل جرحه، وإذا اختلفا فلك أن تجتهد في الأمر"
هذا بعضٌ من نكاته على الكتاب نشرتها راجاً من الله أن يجعلها من العلم الذي يُنتفع به، وأن يكتب أجرها له.
وإني أهيب بإخواني طلاب العلم، أن يسارعوا في إفادة الناس، بما تلقاه من الشيخ من علم أو فوائد، فوالله إنه أعظم البر له وهو في أمس الحاجة لحسنة يتقرب بها إلى الله في قبره.
كتبه
أبو صهيب محمد المعيقلي.


ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك