ما أحوجنا إلى مثل هذه الوصايا الغالية
الشيخ عبدالظاهر أبي السمح
قال أبو نعيم في الحلية (ج 3 ص 246): كتب أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج إلى الزهري:
عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، ورحمنا وإياك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها: أصبحت شيخًا كبيرًا، قد أثقلتك نعم الله عليك؛ بما أصحَّ من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمك من حجج الله تعالى بما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك، الغرض الأقصى؛ ابتلى في ذلك شكرك، وأبدى فيه فضله عليك، وقد قال: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
انظر أيَّ رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل؟ فسألك عن نعمه عليك، كيف رعيتها؟ وعن حججه عليك، كيف قضيتها؟ ولا تحسبن الله راضيًا منك بالتغرير، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات، ليس كذلك.
أخذ على العلماء في كتابه؛ إذ قال تعالى: ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون ﴾ [آل عمران: 187]؛ إنك تقول: إنك جدل، ماهر عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم، إدلالاً منك بفهمك، واغترارًا منك برأيك؛ فأين تذهب عن قول الله عز وجل: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 109]؟
اعلم: أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت: أن أَنِسْتَ بالظالم، وسهلت له طريق الغيَّ بدنوك حين أدنيتَ، وأجابتِك حين دعيتَ، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدًا مع الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يردُّ على أحد حقًّا، ولا تركَ باطلاً حين أدناك؛ وأجبتَ مَن أراد التدليسَ بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطبًا تدور رحى باطلهم عليك، وجسرًا يعبرون بك إلى بلائهم، وسلمًا إلى ضلالهم، وداعيًا إلى غيِّهم، سالكًا سبيلَهم، يدخلون بك الشك على العلماء؛ ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم فلم تبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لهم، إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جانب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في كثير ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرًا وكبيرًا؟ وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس بخيلاً؟ وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرًا؟ وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبًا؟ ما لك لا تنتبه من نعستك وتستقيل من عثرتك؟ فتقول: والله ما قمت لله مقامًا واحدًا أحيي له فيه دينًا، ولا أميت له فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحملك كتابه؛ واستودعك علمه، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله فيهم: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 169]، إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه؟ طوبى لمن كان مع الدنيا على وجَل، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن تردنه على ظهرك، ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبِه غيره، احذر فقد أتيت؛ وتخلص فقد دهيت، إنك تعامل من لا يجهل؛ والذي يحفظ عليك لا يغفل، تجهز فقد دنا منك سفر، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن إني أردت توبيخَك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما غرب عنك من حلمك، وذكرت قوله تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55].
أغفلت ذكر مَن مضى من أسنانك وأقرانك؛ وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر: هل ابتلوا بمثل ما ابتليتَ به؟ أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه ادَّخر لك خيرًا منعوه، أو علمك شيئًا جهلوه؟ بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة وكلفهم بك: أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن أحللتَ أحلوا، وإن حرمتَ حرموا، وليس ذلك عندك، ولكنهم إكثارهم عليك، ورغبتهم فيما بين يديك ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرياسة، وطلب الدنيا منك ومنهم، أما ترى ما أنت فيه من الجهل والعزة؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك؛ وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.
واعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تعالى على يدي أوليائه لأوليائه، الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا؛ وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة، فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله فيهم: ﴿ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
وجاه يجريه الله على يدي أعدائه لأوليائه، ومقة يقذفُها الله في قلوبهم لهم فيعظمهم الناس بتعظيم أولئك لهم ويرغب الناس فيما في أيديهم لرغبة أولئك فيما فيهم: ﴿ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون ﴾ [المجادلة: 19].
وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستورًا عليه في دينه، مقتورًا عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه، وظهور جلده، وكمال شهوته؛ ففنى في ذلك دهره، حتى إذا كبر سنه، ورقَّ عظمه، وضعفت قوته وانقطعت شهوته ولذته، فتحت عليه الدنيا شر فتوح؛ فلزمته تبعتها، وعلقته فتنتها وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها، فسبحان الله! ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر، فهلا إذا عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في كتابه إلى سعد، حين خاف مثل الذي وقعت فيه عند ما فتح الله على سعد:
أما بعد؛ فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا.
فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا، مع كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك؛ فمن يلوم الحدث في سنه، والجاهل في علمه، والمأفون في رأيه، المدخول في عقله؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
على من المعول؟ وعند من المستعتب؟ نحتسب عند الله مصيبتنا؛ ونشكو إليه بثنا وما نرى منك، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ا هـ.
يقول أبو السمح عفا الله عنه: ما أروعها موعظة، وما أبلغها نصيحة؛ وما أجدرنا وأحرانا أن نأخذ أنفسنا بها، وأن نحلها من قلوبنا في السويداء، ونتخذ منها دستورًا نحفظه، ونبراسًا نهتدي به.
نعم؛ فلقد كانت هذه الوصية من أبي حازم رضي الله عنه للإمام الجليل محمد بن شهاب الزهري رضي الله عنه، استدعاها من أبي حازم اتصال ابن شهاب بخلفاء العباسيين في أول أمرهم؛ رغبة النصيحة لهم وحرصًا على تقويم معوجهم جهدَ طاقته وقدر استطاعته؛ فكان هذا الاتصال الشريف الكريم اللائق بالإمام ابن شهاب سبب توجيه أبي حازم إليه بهذه الوصية، فنحن في عصرنا أشد حاجة إليها وإلى مثلها وقد غلبت الفتنة على كثير؛ وأخذت الدنيا بجاهها ورياستها وزهرتها ومتاعها من ديننا وعلمنا الشيء الكثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، والله المستعان، والعافية منه؛ والهداية بيده! فاجعلنا ربنا من المهتدين ولا تجعلنا فتنة للظالمين.
توفي أبو حازم في سنة خمس وثلاثين ومائة.
ولعلي أُوفَّق لإتحاف مجلة: (الهدي النبوي) بأمثال هذه الوصايا والنصائح عن ساداتنا السالفين؛ ففيها كل الخير للمتقين.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك