أثر الإيمان في مواجهة الأمراض الخطيرة
حسنية تدركيت
الأمراض الخطيرة، تلك الوحوش الهلاميَّة المخيفة التي تتربَّص بجسم الإنسان، وتتحيَّن الفرص كي تبدأَ هجومها الفتاَّك عبر أنسجة الجِسم الدقيقة، حيث يقِف الطبُّ الحديث عاجزًا أمام العديد منها، والتي اشتهرتْ بسمعتها القاتِلة عبرَ أنحاء المعمورة، إنها مِحْنة المريض والطبيب والأهل، وما أشدَّها من مصيبة، وما أعظمها من محنة!
ففي خضَمِّ هذه الحرْب الصامتة يجد الطبيب نفْسه أمام خيارين؛ إما أن يُعلِن عن حقيقة ما يُعانيه المريض، أو يلوذ بالصمْت إلى حين.
وتَزداد حيرتُه حينما يحاصِره المريض بنظراته المتسائلة أمامَ الكمِّ الهائل مِن العقاقير والمهدِّئات، والتوجيهات الخاصَّة جدًّا جدًّا، والإلحاح على زيارة المستشفى في مواعيد محدَّدة ومضبوطة.
وللأفكار الخاطِئة المتداولة حول الأمراض الخطيرة دورٌ كبيرٌ في تضخُّم الضغوط النفسيَّة والاجتماعيَّة عندَ المرضَى وعائلاتهم، مما يضاعف مسؤوليةَ الطبيب تُجاه المريض، ويفاقِم من تردُّده وحيرته في الاختيار بيْن الإفصاح أو الكتمان، ويرجع اتِّخاذ القرار الحاسِم إلى حالة المريض النفسيَّة والعقليَّة، ومدَى استعداده لتلقِّي الخبر، وقد يضطرُّ الطبيب أحيانًا ليشرح للمريض كلَّ تفاصيل مرضه، وخاصَّة إذا كان لا يعي خُطورة مرضه؛ خوفًا عليه مِن التفريط في رعاية نفْسه بإهمال التعليمات الصارِمة وانتظام تناول الدواء.
أمَّا معاناة الأهل فتبدأ عندما يُصاب أحدُ أفراد العائلة بمرَض عُضال؛ كالسرطان أو الفشَل الكُلوي المزمِن، أو الإيدز، أو داء فيروس الكبد الوبائي، فأوَّل العقبات التي تعترض طريقَهم نحو العلاج الأثمانُ الباهظة والمكلِّفة جدًّا للعقاقير الدوائية، فضلاً عن الحالة الصحيَّة الخطيرة للمريض، والشك في أنَّه قد لا يتماثل للشفاء، فيقعون فريسةً للخوف والقلق والحَيْرة من المصير الذي ينتظره، بل ويقفون عاجزين أمامَ تساؤلاته عن طبيعةِ حالته الصحيَّة، حيث تجتاحهم عواصف من التردُّد كلَّما طرَق المريض الموضوع بسؤال، أو أعْرب عن شكه في حقيقةِ مرضه، وخوفه المتواصِل مِن أن يكون مصابًا بأحد الأمراض الخطيرة، ويبقى السؤال معلقًا، متى نُخبر المريضَ بحقيقة ما يُعانيه؟ ومتى نختار الصمت؟
وفي أغلبِ الأحوال تظلُّ حُقُوق المرضى محفوظةً بأن يكونَ لديهم معلوماتٌ كافية عن المرض الذي يعانون منه، فهم المعنيُّون أولاً وأخيرًا بما ينتظرهم من مراحلِ علاج قدْ تمتدُّ إلى سنوات، هذا بالرغم مِن أنَّنا نجد كثيرًا منهم يصابون بحالة اكتئاب حادَّة بمجرَّد أن يعرِفوا حالتهم الصحيَّة، وربما نوبة انهيار عصبي، وهذا راجعٌ لما ترسَّخ لديهم مِن ذكريات قاسية عن مرْضى مرُّوا بنفس المرحلة، وماتوا بسبب نفْس المرض، إلا أنَّه تبقى دومًا حاجتهم الماسَّة أن يكونوا على بصيرة مِن أمرهم وهم بعدُ في أول الطريق.
والأكثر عرضةً لليأس والإحباط هم غالبًا الطبقة المثقَّفة؛ حيث بإمكانهم أن يتعرَّفوا على التفاصيل الدقيقة لانتشار المرَض ومدَى ضراوته بتتبُّع التحاليل وصور الأشعة بأنفسهم، والعقاقير ومسكنات الألم، فيضعون المخالطين لهم في مأزق مِن تساؤلاتهم المتكرِّرة عن تحسُّن حالتهم أو تدهورها؛ إذ يجد الجميعُ أنفسهم مكرهين على قول الحقيقة وإنْ كانت مؤلمة!
وباستطاعة المرضى أصحاب الشهادات العليا أن يحولوا هذه المِحْنة إلى منحة يَستفيد منها المجتمع بالتوعية والنُّصح والإرشاد، وهكذا ينشغلون عن همومِهم بما سيعود بالنفْع الجليل عليهم وعلى الآخرين.
ولكي نخفِّف من حدَّة هذه المشاعر المؤلمة لدَى المرضى، لا بدَّ مِن أن نمنحهم مِن الرعاية الطبية والمادية والاجتماعيَّة والنفسيَّة كثيرًا منها، فنُحيطهم بالاهتمام الصادق والحب الكبير والحنان البالغ، مع جرعات إيمانيَّة قويَّة تكون لهم درعًا يهوِّنُ عليهم حرَّ ما يجدون من معاناة، فمن المهم أن تكونَ معنوياتهم مرتفعةً قدْرَ الإمكان، ونفسيتهم مستقرَّة، وأن نبعد عنهم كل ما مِن شأنه أن يُكدِّر عليهم صفوَ حياتهم ورِحلتهم العلاجيَّة، ولنا في رسولِ الله أُسوةٌ حسَنة ونبراسٌ يُرشِدنا إلى الكثير مِن آداب زيارة ورعاية المريض.
ونستشهد بهذا الحديث الشريف: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُكرِهوا مرضاكم على الطعام والشراب؛ فإنَّ الله يطعمهم ويسقيهم))؛ صحيح الجامع (7439).
وألاَّ ننسى أن نذكِّرهم بالله دومًا، وبقيمة الصبر والاحتساب، فقدْ جاء في الحديث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمِنة؛ في جسِده، أو في ماله، أو في ولده، حتى يلقَى الله سبحانه وما عليه خطيئة))؛ رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ اللَّه تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضِي فله الرِّضا، ومَن سخط فله السخط))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنه. وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وكلما كانت هناك جهودٌ مكثَّفة وشاملة، كان مِن الممكن أن نتلافى الكثيرَ من المشاكل الصحية، مِن فقدان التوازُن النفسي والجسمي عندَ مرضَى السرطان والفشل الكُلوي وفيروس الكبد الوبائي، حيث إنَّ الحالة الوجدانية والنفسية والمعنوية المرتفعة للمرضى تساعِد بشكل كبير في سُرعة الشفاء بنسبة عالية جدًّا، كما أنَّ الطب - والحمد لله - قد تقدَّم كثيرًا في القضاء على الأمراض الخطيرة وهي في بداية انتشارها، والفحص المبكر يُسهِم بشكلٍ مذهِل في سرعة الشفاء - بإذن الله تعالى.
وممَّا يَزيد في معاناة الأهالي أن يتأرجحوا بين أن يخبروا المريض، أو أن يظلّ الخبر سرًّا غامضًا يجثم بثقله على صدورهم، ويزداد الألَمُ كلما تطوَّر المرضُ، فيتطرَّق السؤال الموجع إلى أذهانهم متى نُخبِر المريض بحالته الصحية؟ ومتى نلزم الصمت؟
• يقول الدكتور ناصر حبارات:
"هذا موضوعٌ شائك وحسَّاس جدًّا، ويجب أن نتناوله بحذر، خاصَّة أنه يمس الجانبَ النفسي للمريض، وهو الجانب المهم جدًّا؛ بحيث يمثِّل أكثر مِن ثمانين بالمائة من أساسيات العلاج، فكلَّما كانت الحالةُ النفسية ممتازةً كانت الاستجابة للعلاج أسرعَ وأحسن.
والمرضى أنواعٌ؛ منهم الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والعاقِل والذي لا يعي ما يحدث حوله.
وعلينا أن نتأكَّد من أنَّ إخبار المريض لن يأتيَ بنتائجَ عكسية، ولن يعرقل مسيرة العلاج، وبما أنَّ المريض ممن يعتمد عليه في مسألة العلاج، فإنَّه مِن الأفضل إخبارُه، ويتم ذلك بطريقة علمية ومبسطة تجعله يسعَى إلى العلاج، وتقوِّي فيه الإرادة والمثابرة والمصابرة، حتى الشفاء - إن شاء الله تعالى.
• وباستطاعة الأهل أن يُخبروا المريض الناضِج نفسيًّا وعقليًّا وفكريًّا بمرضه وحالته الصحية، مما يساعد في تجاوبه مع العلاج وامتثاله لأوامرِ الطبيب، وبهذا يتلافى خطرَ المماطلة في تناول الأدوية في وقتها المحدَّد، ويهتم أكثرَ بصحته.
أما إنْ كان هذا الأمر سيجعله يتدهور صحيًّا ونفسيًّا، ويُدخله في صِراعات مع ذاته والاستهانة بفاعلية العقاقير والعِلاج، فضرورة المحافظة على سلامته تقتضي عدمَ إخباره.
فهناك مرضى ساءتْ حالاتهم بمجرَّد أن عرَفوا أنَّهم مصابون بمرَض السرطان، ومنهم مَن رفض أن يُعالج؛ بدعوى أنه لا فائدةَ تُرجى من العلاج؛ إذ النهاية الحتميَّة هي الموت، فلماذا عليه أن يتجرَّع كأس المنيَّة في كل لحظة قبل الأوان؟! ومنهم مَن ازدادت قدرته على المقاومة، وتقبُّله للمرَض جعَلَه يتابع الدواء باستمرار.
وبصورة عامَّة: هل نخبر المريض أم لا؟ هذا راجع لحالته النفسيَّة والعقليَّة، والإيمانيَّة والعمريَّة، فغالبًا ما نجد أنَّ كبار السن يستسلمون بشكل شِبه تام لأوامرِ الطبيب بمجرَّد أن يخبرهم بأنَّ هناك مرضًا يستدعي اليقظةَ والحرص أكثر، والتزام الحذَر وتناول الدواء في وقته، أمَّا الشباب وصغار السن فيُصابون بالهَلَع والخوف الشديد بمجرَّد سماعهم للخبر.
وهذا راجعٌ لأمور عدَّة، نذكر منها: سُمعة المرض العالمية، فقدِ اشتهرت الأمراض الخطيرة بأدويتها الباهِظة الثمن، التي تأخذ من المريض الكثيرَ من الجهد والعافية والجمال، فالشكل يتغيَّر والجهد يضعف، والعافية تختفي إلى حين، وشبح الموت يطلُّ مع كل فجر جديد.
أمَّا الأطفال الصِّغار فلهم فلسفةٌ أخرى بها يفهمون الحياةَ؛ إذ لا شيءَ يوقف نشاطَهم وحركتَهم المستمرة إلا المرَض الشديد، فتجدهم وهم في قِمَّة المعاناة يبتسمون ويَمْرَحون ما دام هناك مُسكِّنٌ للألَم، فيعبث المرَض في أبدانهم البضة الصغيرة ما شاء له أن يعبث، فلن يسلبَهم نقاءَ وبراءةَ سريرتهم، وجمال وروعة قدرتهم على التأقلم.
جرِّب أن تقدِّم لطفل مصاب بمرض مزمن قطعةَ شيكولاتة، وكن متأكدًا أنه سيشكرك بابتسامة وإن بدَتْ لك متعبة، فهي صادقة ونابعة مِن أعماق قلبه.
ويعود هذا الانسجامُ مع المرض إلى حقيقة أنَّهم لا يدركون المخاطرَ المحدقة بهم، فلا يستسلمون أبدًا إلا في المراحل الأخيرة للمرَض.
ومِن الأشياء التي تدعو للتأمُّل هي أحوال المرضَى المختلفة باختلاف درجاتِ صلتهم بالله - سبحانه وتعالى - فالمريضُ المتدين يستعين بالله دومًا ويحتمي بحماه، ويشعر بأنَّ الله مع الصابرين، وأنَّه في معية الله سبحانه، ويحقِّق المعاني الجليلة في الآية الكريمة؛ ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، ويَقتدي بأهل الصبر والعزائم، ويتأمَّل في سير الصابرين وما لاقوه مِن ألوان البلاء والشدائد، وبخاصَّة أنبياء الله ورسله - عليهم السلام - وأنَّ قضاءه نافذ لا محالة، وأنَّ ما أصاب الإنسان لم يكن ليُخطئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه؛ قال -تعالى-: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، كل هذه المعاني العظيمة كفيلةٌ بأن تجعلَ المرء يستسلم لقدَر الله بسكينة ورِضا يُضعِف مخاوفه وهواجسه، ويسكت وساوسَ الشيطان.
مِن الحالات التي تركت أثرًا عميقًا بداخلي حكاية السيِّدة فاطمة، وهي تخطو بخُطوات حثيثة نحوَ الستين مِن عمرها، بعد أن أنهَكَها المرَض وهدَّ قواها: حيث سألتها عمَّا ينتابها من مشاعرَ عندما عرفت مؤخرًا أنها مصابة بداء فيروس الكبد الوبائي، فقالت - وابتسامة شاحِبة قد ارتسمت على محياها:
حزَّ في نفسي أن أُعاني من مرَض عضال كل هذه المدة وأنا لا أعرِف، الكل أَخْفى عني الخبر ولم يخبرني الطبيبُ إلا بعد أن أدرك أنَّه فشِل في معركته مع المرض، كانتْ ملامحها تحكي آلامًا لا حصرَ لها، إلا أنها كانتْ تُكابر وتتجمل بالصبر.
صمتتْ للحظات التقطت فيها أنفاسها المتعبة، ثم عادتْ تقول:
• الحمد لله، أوقِن أنَّ الأعمار بيد الله تعالى، ولن يُؤخِّر الله نفسًا إذا جاء أجلُها، ولكنني أحبُّ دومًا أن أكون على عِلم بالأمور التي تهمُّني، ختمتْ حديثها بكلمات موجزة:
• قدَّر الله وما شاء فعَل، والحمد لله أولاً وأخيرًا.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك