باب الهدي والأضحية
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: ((ووقت الذبح بعد صلاة العيد إلى آخر يومين بعده، فإن فات وقتُ الذبح قضى واجبه، وفعل به كالأداء، وسقط التطوُّع؛ لفوات وقته))[1].
قال في ((الإفصاح)): ((واختلفوا في الوقت الذي تجزئ فيه الأضحية:
فقال أبو حنيفة[2] ومالك[3] وأحمد[4]: يوم النحر ويومان بعده.
وقال الشافعي[5]: ثلاثة أيام بعده إلى آخر انقضاء التكبير من اليوم الرابع))[6].
((واختلفوا في أول وقت الأضحية:
فقال أبو حنيفة[7]: لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل القرى فيجوز لهم بعد طلوع الفجر.
وقال مالك[8]: وقته بعد الصلاة والخطبة وذبح الإمام.
وقال الشافعي[9]: وقت الذبح: إذا مضى[10] من الوقت مقدار ما يصلي فيه ركعتين وخطبتين بعدها.
وقال أحمد[11]: يجوز ذلك بعد صلاة الإمام وإن لم يكن الإمام ذبح بعد. ولم يفرِّق بين أهل القرى والأمصار، بل قال: إن أهل القرى يتوخَّى أهلُها مقدارَ وقت صلاة الإمام وخطبته إن لم يصل عندهم صلاة العيد، وإن كانت تُصلَّى فبعدها.
واتفقوا على أنه يجوز ذبح الأضحية ليلاً في وقتها المشروع لها، كما يجوز في نهاره[12]، إلا مالكًا[13] فإنه قال: لا يجوز ذبحها ليلاً.
وعن أحمد[14] رواية مثله.
وأبو حنيفة[15] يكرهه مع جوازه))[16].
((واتفقوا على أنه إذا خرج وقت الأضحية - على اختلافهم فيه - فقد فات وقتُها، وأنها إن تطوع بها متطوِّع لم تصح إلا أن تكون منذورة، فيجب عليه ذلك، وإن خرج الوقت[17]))[18].
وقال ابن رشد: ((يتعلَّق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح.
أما الوقت: فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع: في ابتدائه، وفي انتهائه، وفي الليالي المتخللة له.
فأما في ابتدائه: فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز[19] لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم)[20]. وأمر بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة، وقوله: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلِّي ثم ننحر)[21]. إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى.
واختلفوا في من ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة:
فذهب مالك[22] إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام.
[وقال أبو حنيفة[23] والثوري: يجوز الذبح بعد الصلاة، وقبل ذبح الإمام][24].
وسبب اختلافهم: اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه جاء في بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يُعيد الذبح[25]، وفي بعضها: أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يُعيد. خرَّج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم[26]. فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح، ومن جعل ذلك موطنًا واحدًا قال: إنما يُعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط.
وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بُردة بن نِيار، وذلك أن في بعض رواياته: أنه ذبح قبل الصلاة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعيد الذبح، وفي بعضها: أنه ذبح قبل ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بالإعادة، وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الآخر: ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أَولى، وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون المؤثِّر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة، كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره: أن من ذبح قبل الصلاة فليُعدْ[27]، وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه صلى الله عليه وسلم يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ؛ لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن فرضه التبيين. ونصُّ حديث أنس هذا: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: (من كان ذبح قبل الصلاة فليُعدْ).
واختلفوا من هذا الباب في فرعٍ مسكوت عنه وهو: متى يذبح من ليس له إمام من أهل القُرى؟
فقال مالك[28]: يتحرّون ذبح أقرب الأئمة إليهم.
وقال الشافعي[29]: يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون.
وقال أبو حنيفة[30]: من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه.
وقال قوم: بعد طلوع الشمس.
وكذلك اختلف أصحاب مالك[31] في فرعٍ آخر وهو:
إذا لم يذبح الإمام في المُصلَّى:
فقال قوم: يتحرَّى ذبحه بعد انصرافه.
وقال قوم: ليس يجب ذلك.
وأما آخر زمان الذبح:
فإن مالكًا[32] قال: آخره اليوم الثالث من أيام النحر، وذلك مغيب الشمس. فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النَّحْر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة[33] وأحمد[34] وجماعة.
وقال الشافعي[35] والأوزاعي: الأضحى أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
ورُوي عن جماعة أنهم قالوا: الأضحى يوم واحد، وهو يوم النَّحْر خاصة.
وقد قيل: الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة. وهو شاذ لا دليل عليه.
وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف، وسبب اختلافهم شيئان:
أحدهما: اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى: ï´؟ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ï´¾ [الحج: 28].
فقيل: يوم النحر ويومان بعده. وهو المشهور.
وقيل: العشر الأول من ذي الحجة.
والسبب الثاني: معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جُبير بن مُطعِم، وذلك أنه ورد فيه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل فجاج مكة مَنْحَر، وكل أيام التشريق ذبح)[36].
فمن قال في الأيام المعلومات: إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية، ورجَّح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال: لا نحر إلا في هذه الأيام.
ومن رأى الجمعَ بين الحديث والآية وقال: لا معارضة بينهما، إذ الحديث اقتضى حكمًا زائدًا على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح، والحديث المقصود منه ذلك، قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذا كان باتفاق من أيام التشريق. ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، وأنها ثلاثة بعد يوم النحر إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق[37]. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين.
وأما من قال: يوم النحر فقط فبناء على أن (المعلومات) هي العشر الأول، قال: وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر، وهي محل الذبح المنصوص عليها، فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط.
وأما اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر:
فذهب مالك[38] في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر.
وذهب الشافعي[39] وجماعة إلى جواز ذلك.
وسبب اختلافهم: الاشتراك الذي في اسم اليوم وذلك أن مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى: ï´؟ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ï´¾ [هود: 65] ومرة يُطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى: ï´؟ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ï´¾ [الحاقة: 7].
فمَن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى: ï´؟ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ï´¾ [الحج: 28] قال: يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام.
ومن قال: (ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية) قال: لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل. والنظر هل اسم (اليوم) أظهر في أحدهما من الثاني، ويُشبه أن يقال: إنه أظهر في النهار منه في الليل.
لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط؛ لم يُمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب، وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم، وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى إنهم قالوا: ما قال به أحدٌ من المتكلِّمين إلا الدقَّاق فقط، إلا أن يقول قائل: إن الأصل هو الحظر في الذبح، وقد ثبت جوازُه بالنهار فعلى من جوَّزه بالليل الدليل))[40].
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك