رسول الله .. القيم والمنهج
جابر قميحة
سُئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "كان خُلقه القرآن؛ يرضى برضاه، ويسخط بسخطه"[1].
ولم تبالغ السيدة عائشة ولم تُسرِف في القول؛ لأن القرآن لم يذكر أية قيمة من القِيَم الأخلاقية إلا وكان لها مكانتُها في شخصية الرسول - عليه الصلاة والسلام -؛ في أقواله وأفعاله.
ووصَفه ابن أبي هالة بقوله: "كان دائم البِشْر، سَهْل الخُلق، ليِّن الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحاش، ولا عيَّاب ولا مدَّاح"[2].
وحينما سأله عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه عن سنَّته، قال: "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل دِيني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذِكر الله أنيسي، والثِّقة كَنزي، والحُزن رفيقي، والعِلم سلاحي، والصَّبر ردائي، والرِّضاء غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حِرفتي، واليقين قوَّتي، والصِّدق شفيعي، والطاعة حسْبي، والجهاد خُلُقي، وقرة عيني في الصلاة"[3].
المعرفة، العقل، الحب، الشوق، ذِكر الله، الثقة: قائمة من القِيَم الأخلاقية الإنسانية العظيمة، صنَعت النسيجَ النفسي لهذه الشخصية العظيمة، وكلُّ صفةٍ منها يمكن ردُّها إلى أصلها القرآني، بل إن القرآن قد ألح على كل واحدة منها بعشرات من الآيات، ومن هنا نستطيع أن ندركَ مدى صِدق السيدة عائشة حين قالت: "كان خُلُقه القرآن".
لقد عصَمه الله من مفاتن الجاهلية من صِغره، وكان في شبابه وقبل أن يبعثه الله نبيًّا ورسولاً موضعَ ثقة المجتمع الجاهلي؛ فهو عندهم "الأمين"، وهو الصادق الذي لا يعرف الكذبَ، بشهادة أبي سفيان أمام قيصرِ الروم، ولم يكن أبو سفيان قد أسلَم آنذاك.
ومن عجبٍ أن قريشًا التي جمعت عصبة شرٍّ؛ من كل قبيلة فتًى لضرب محمد ضربةَ رجل واحد؛ حتى يتفرَّق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو هاشم ولا بنو عبدالمطلب أن يثأَروا لدمِه - قريش هذه لم تكن تستأمِنُ على ودائعها إلا محمدًا - عليه السلام -، ومن ثم خلَّف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا وراءه في مكة؛ ليؤديَ الودائع لأصحابها، وهاجَر هو وصاحبُه أبو بكر.
إنها الأمانة التي لا تفرِّق في المعاملة بين المسلم والكافر، وكان هو أولَ الآخذين أنفسهم بقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[النساء: 58].
وفي أرض الجهامة والعبوس والقسوة: قسوة الطبيعة، وقسوة الأرض، وقسوة الحياة، وقسوة قلوب كالحجارة بل أشد قسوة: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[البقرة: 74].
في هذه الأرض ظهَر محمد رحمةً مهداة، فأحبَّ أصحابَه، وأحبه أصحابه حبًّا لم يحبوه آباءهم وأبناءَهم وإخوانهم، وبالرحمة استطاع أن يكبَح جامح النفوس، وأن يلين جامد القلوب، وتحقَّق فيه قوله - تعالى -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
نعم، لانفضُّوا من حولك، ولكنك كنت "الرحمة المهداة" التي جمعت حولَها قلوبَ القساة الأفظاظ، فإذا هي ألينُ من الماء، وأنقى من صفحة السماء، إنه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[الفتح: 29].
ورحمتُه جمعت حوله مَن حُرموا الرحمة، واستُضعِفوا في الأرض، هؤلاء الذين أمَره ربُّه أن يصبِر نفسَه معهم، مع هؤلاء الذين يَدْعون ربهم بالغَداة والعَشيِّ يريدون وجهه، فأحبَّهم وأحبُّوه، ووعَدهم الله: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)[النور: 55].
ومرَّت الأعوام، وكما وعَد محمد، تملَّك بدويٌّ فقيرٌ سِوارَيْ كِسرى، وأذَّن مستضعَفٌ آخرُ من قمة الإيوان، ودكَّ المستضعَفون الحفاةُ مُلك قيصرَ، وامتدت للإسلام إمبراطوريةٌ لا تغِيبُ عنها الشمسُ.
ولم تكُنْ رحمةُ محمد تقف عند حد؛ فهي متسعةُ الأرجاء، ممتدة المناحي؛ نقل القاضي عِيَاض عن بعضِ العلماء قوله: "ومن فضل محمد أن اللهَ أعطاه اسمينِ مِن أسمائه، فقال: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]"[4].
وكان رحيمًا بالأطفال، محبًّا لهم؛ قال أبو هريرةَ: "قبَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بن علي وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشَرةً من الولد، ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ))"[5].
ويُروَى أنه -عليه الصلاة والسلام- صلَّى بأُمامةَ ابنةِ ابنته زينبَ يحملُها على عاتقه، فإذا سجَد وضَعها، وإذا قام حمَلها[6].
وكان رحيمًا حتى مع المخطئين، وقد أشَرْنا في السابق إلى موقفِه من ماعِزٍ، وموقفه من الغامديَّة، فإذا ما كان الخطأ ناتجًا عن جهلٍ بقواعد الدِّين، أو قواعد التعامل والعلاقات الاجتماعية - لَمْ يَقْسُ على المخطئ، بل أخَذه بالرأفة، وَوَجَّه نظَرَه في هوادة؛ فحينما رأى المسلمون أعرابيًّا يبُول في المسجد، حاوَلوا أن يمنَعوه ويُؤذوه، فأمَرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتركوه ولا يقطَعوا عليه بوله؛ لأن ذلك يحزنه ويؤذيه، ثم يدعو بدَلْوٍ من ماء يُصَبُّ على مكان التبوُّل، ويُرشِدُ الأعرابيَّ في رأفة وهوادة إلى ما يجِبُ عليه عمَلُه في مثل هذه الحال[7].
__________________________
[1] انظر: الشفا 1/207.
[2] السابق 1/246.
[3] السابق 1/289، في قوله - عليه السلام -: ((والعجز فَخْري)) يقصد بالعجز: إظهارَ الضعف أمام الله، والخشوع له، والاحتياج الدائم إليه، وليس العجزُ هنا بمعنى التواكل والتكاسل، وتحقير همة النفس أمام المخلوقين، يؤيِّدُ ذلك ما رُوي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يوم المسجد فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت صلاة؟))، قال: همومٌ لزِمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلِّمُك كلامًا، إذا قلتَه أذهَب الله همك، وقضى عنك دَينكَ؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قُلْ إذا أصبحتَ وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذُ بك من الهمِّ والحَزَن، وأعوذ بك من العجزِ والكسل، وأعوذ بك من غَلَبةِ الدَّين وقَهْر الرِّجال))[أخرجه أبو داود].
[4] الشفا 1/251.
[5] البخاري 8/9 (كتاب الأدب).
[6] الشفا 1/259.
[7] انظر البخاري 8/14 (كتاب الأدب).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك