في المبالغة في الخلوة

[منتدى اهل الحديث]

بسم الله الرحمن الرحيم



وبعد: فلا يخفى على مسلم فضل الخلوة حال الدعاء وفي بعض العبادات، والأدلة الدالة على مقامها في الدين وفضل عابده أو ذاكره سبحانه خاليا كثيرة مشهورة.


* عن أبي الفيض المصري:(لم أر شيئا أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة..."1"
من أحب الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص)."2"


* لكن المقصود هنا إنما هو إشارة مختصرة"3" إلى مسألة مفرعة عليها؛ وهي مسألة المبالغة في طلب الخلوة والبعد؛ حالا أو مكانا.


* فبعض الناس لايعرف من الخلوة إلا ما يكون بأدنى استتار عن الخلق وعدم رؤيتهم ولو بحجاب تسمع أصوات حديثهم من خلفه، ولاشك أن هذا قدر مجزئ من الخلوة، لكن المراد هنا ما هو أبلغ من ذلك؛ ألا وهو الحرص على زيادة البعد عن الخلق والمشغلات حال الدعاء أو العبادة الفردية بحسب ما يتيسر للمرء.

*فليس الاستتار؛خشية الرياء= مقصد الخلوة الوحيد، بل من مقاصدها أيضا: المبالغة في تخلية النفس قلبا وقالبا من الشواغل، وإظهار شدة خلوص الافتقار إلى الله والفرار إليه وتفريغ النفس له عن كل ما سواه.

* عن الشبلي قال: (المحبة:الفراغ للحبيب)."4"


* والدعاء من مكان بعيد أو الدعاء بمطلوب بعيد[بعيد بحسب نظر الخلق]"5" أمران فيهما عبودية جليلة لله؛ لأن فيهما كمال إقرارا بسعة سمع الله وعظم قدرة الله.


* ورد في الحديث أن الصلاة في(الفلاة) تعدل خمسين صلاة."6"

*وفي بعض ألفاظ أحاديث الباب(بأرض قِيّ)."7"



* وفي حديث أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت:يارسول الله إني أحب الصلاة معك، قال:(قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي).
فأمرت؛ فبني لها مسجد[=مصلى] في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله."8"

-وليس هذا لأجل الاستتار من الرجال ففط، فالاستتار يكفيه ما هو أدنى من ذلك بكثير، وليس هذا الحديث خاصا بالنساء جملة، وإنما نص فيه على المرأة؛ لأن السائلة كانت امرأة، ولأن السؤال كان عن صلاة الفريضة مطلقا، وأما صلاة الفريضة لعذر منفردا أو صلاة النوافل= فالعلة فيه تعم الرجال أيضا. والله أعلم


* قال ابن القيم في"الروضة"ص241[ونحوه في"المدارج"]:
(حدثني تقي الدين ابن شقير قال: خرج شيخ الإسلام ابن تيمية يوما فخرجت خلفه، فلما انتهى إلى الصحراء وانفرد عن الناس بحيث لايراه أحد سمعته يتمثل بقول الشاعر"9":

وأخرج من بين البيوت لعلني ** أحدث عنك القلب بالسر خاليا).


* وقال ابن القيم في"بدائع الفوائد"3/1185[ومثله في"الفوائد]: (الحب غدير في صحراء ليس عليها جادة[=طريق]، فلهذا قل وُرَّادُه، المحب يهرب إلى العزلة والخلوة...كهرب الحوت إلى الماء)، ثم أنشد بيت قيس السالف.



* وصورة مسألتنا باختصار"10" هي أن يحرص المرء في بعض عبادته ودعائه على اختيار أبعد الأماكن في منزله عن الأهل وغيرهم من الخلق-بحسب ما يتيسر-، وأن يحرص على استغلال الخلوات[الآمنة] في السفر"11"، وعند خروجه للنزهة في البراري وغيرها، وأن يكون له أحيانا في بعض دعائه وتضرعه فرار عن الخلق إلى مكان خال للاستغاثة والدعاء، ويكون هذا أمرا عارضا لا راتبا وليس هو من باب ملازمة البراري أو الكهوف ونحوها وليس فيه ترك الجمع أو الجماعات في البلد؛ فإن ملازمة كهذه لاشك أنها من البدع وهي من أعمال بعض الأمم الأخرى التي جاء الإسلام بتشريع خلافها."12"

ولكل طريقته في الخلوة وحيلته في الاختفاء، وكما يقول أبوالحسن الديلمي"13": (المحبة باعثة على الفطنة والحيل).


فانتبذ مرة من الدهر بدعوة ما= مكانا قصيا.

ولا تقل:خلوت وقلبك لم يخل من حب نظر الخلق إليك في خلوتك، ولاتقل: خلوت وقلبك لم يخل من العجب بحالك تلك.

والله أعلم والحمدلله

--------------------------------------
"1" في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب أن الفقيه ابن عقيل قيل له: ماتقول في عزلة الجاهل ؟
قال:خبال ووبال، تضره ولاتنفعه.
فقيل له: وعزلة العالم ؟
قال:(ما لك ولها ؟! معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها).

"2" رواه السلمي في"طبقاته"ص20

"3" وإنما أنا هنا(عاطٍ بغير أنواط).

"4" رواه أبونعيم في الحلية

"5" وتأمل للأول نحو قوله تعالى:{فنادى في الظلمات}، وللثاني نحو قوله تعالى{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه...}. تأملهما جيدا


"6" رواه أبوداود وغيره[ولفظ ابن أبي شيبة في مصنفه وابن منيع في مسنده وابن حبان:(خمسين درجة)]

*وانظر شرحه في نيل الأوطار4/78، عون المعبود2/187، إعلاء السنن4/185.

*والحديث أثبته جماعة من العلماء، والراجح إعلاله. والله أعلم
[راجع:ابن حبان1749،الحاكم1/208،الخلاصة للنووي2/647،الفروع لابن مفلح2/419،نصب الراية2/32،صحيح أبي داود الكبير للألباني3/86.
وراجع:التاريخ الكبير للبخاري8/94،الجرح والتعديل9/76،الكنى للدولابي2/125،رجال ابن ماجه175،السنن والأحكام للضياء المقدسي1/425،مختصر السنن للمذري،تهذيب الكمال7/436،إكمال التهذيب12/179،تهذيب التهذيب6/56،عجالة الإملاء1/468،471،إتحاف المهرة لابن حجر5/310،شرح أبي داود للعيني3/42،بذل المجهود4/151]

* ولكن في الباب[في الصلاة في الفلاة] أيضا حديث سلمان الفارسي رواه عبدالرزاق في مصنفه1/510 وغيره مرفوعا، والصحيح وقفه[وانظر:الزهد لابن المبارك341 والحلية لأبي نعيم1/204]، والموقوف صحيح وله حكم الرفع. والله أعلم

* وفي الباب[نحو لفظ أثر سلمان الفارسي] عن جماعة من السلف كابن عمر[بسند ضعيف]، وسعيد بن المسيب[وهو صحيح عنه] وغيرهما.


"7"والقِيّ: الأرض القفر الخالية. كما في النهاية لابن الأثير وغيره


"8" رواه أحمد في مسنده، وأثبته جماعة من العلماء كابن خزيمة وابن حبان والمنذري وابن حجر والألباني، وله عدة طرق وشواهد.


"9" هذا البيت قيل: هو لقيس ليلى أو قيس لبنى.[قولان]


"10" والقيود هنا مقصودة بدقة. فانتبه


"11" ولعل البعد عن الخلق وآثارهم أو التقلل منهم= هو من حِكم الثناء على دعاء المسافر، كما في أحاديث عدة في صحيح مسلم وفي السنن وغيرها. والله أعلم


"12" ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له ملازمة طويلة في غار حراء، ولكن هذا كان أول البعثة، ثم تغير هذا الأمر بعد أن شرع الله الجمع والجماعات وغيرها من العبادات.


"13" في كتابه:العطف ص130
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك