الثعابين الطائرة
وعلم الديناميكا الهوائية
هالة رؤوف أحمد
في غابات الدَّغَل كثيرًا ما تُصادفنا العديدُ من الحيوانات التي تمهر في الانزلاق عَبْر سماء هذه الغابات، فالضَّفادع الطائرة مثلاً تطير من خلال بَسْطِ الأغشية الرقيقة التي تربط بين أصابع قدمَيْها وبين قدميها الكبيرتَيْن، كما أن بعض السحالي تتمكَّن أحيانًا من الطيران بأن تَبْسط ضُلوعها المغطَّاة تحت جلدها الذي تكسوه القشور، أمَّا الكائن الغريب الذي يسكن الأشجار في منطقة جنوب شرق آسيا، ويشتهر بقدرته على الطيران لمسافات طويلة، ويُدْعَى "الكولُّوجو" colugo، فإنه يستطيع الطيران لمسافة تربو عن السبعين مترًا بين الأشجار من خلال بسطه لغشائه الجلديِّ الذي يربط أطرافه معًا، أمَّا العجيب في الأمر والذي يعتبره البعض أشبه بالمعجزة؛ فإنَّ بعض الثعابين - دون أن تمتلك أجزاء في جسدها تَصْلح بأيِّ حال لأنْ تكوِّن جُنَيحات مطمورة - تستطيع الانزلاق في الهواء طائرة ولمسافات طويلة أيضًا بِمَهارة توازي مهارة تلك الكائنات!
ففي دراسة شهيرةٍ نشرت في صحيفة The Economist قام أحد العلماء الأمريكيِّين - جيك سوشا - بقيادة فريق عمَلِه لاكتشاف كيف تستطيع بعض الثعابين الطيران، ولإنجاز هذا الهدف قام بإجراء سلسلة اختبار طيرانٍ لأحد أنواع الثَّعابين يُطلَق عليها: "ثعابين شجرة الجنَّة" paradise tree snakes، وهو نوع من الثعابين غير الضارَّة للإنسان، متوسِّط السُّمِّية يعيش في مناطق من قارة آسيا.
أطلق "سوشا" وفريقُ عمله الثعبانَ من أعلى قمة شجرة ارتفاعها 15 مترًا، واستخدموا أربع كاميرات فيديو بتقنية إظهار الصُّورة ثلاثيَّة الأبعاد (3 - D) لرصد المسار والحركة التي ستتبعها الثعابين، وكانت النتيجة أكثر من مُبْهِرة؛ فلم تُثْبِت الثعابين أنَّها قادرة على الطيران بمهارة شديدة فحسب؛ بل إنَّها قامت أثناء طيرانها أيضًا ببعض الحركات الإيروديناميكية aerodynamics المعقَّدة، وعروض الطيران الفنية الجديرة بالمتابعة والمثيرة للاهتمام.
قبل أن يطلق العلماءُ ثعبانَ شجرة الجنة في الهواء؛ قام الثعبان ببسط جسَدِه وإدلائه وشفط تجويفه وإفراغه من الهواء حتَّى تحوَّل لرقاقة مسطَّحة منسابة تشبه حرف "J"، وقد تضاعف عرضه تقريبًا - وهى حركة مشابِهة لتلك التي يقوم بها في الماء عندما يَسْبَح - ثم انزلق بعدها ملتوِيًا وهابطًا بزاوية حادَّة، وبدأ بسرعة في التموُّج من ناحية لأخرى والالتفاف بزاوية تصل إلى 90 مترًا؛ ليغيِّر اتِّجاهه ويتمكَّن من الارتفاع في الهواء لبعض الوقت، قاطعًا بذلك مسافة تقترب من 24 مترًا، وهو طائر بخفة ملحوظة.
ورغم أن مَن خُلِقَ ليزحف فوق الأرض يتعذَّر عليه التحليق في السماء، إلاَّ أن الثعابين الطائرة ظاهرة حقيقيَّة رغم نُدْرتِها، ويتركَّز وجودها في جنوب شرق آسيا والهند، وقد يكون لطيران الثعابين وظيفة بيولوجيَّة، فالثعابين في موسم الجفاف تطير لتحطَّ فوق البرك المائية من شدَّة عطشها، وفي هذه الحالة تطير بسرعة كبيرة وعلى ارتفاع خفيض نسبيًّا، وكلما كان حجمها أصغر تيسَّر لها الطيران لمسافات طويلة أكثر.
وينبع الاهتمام بدراسة حركة الثعابين الطائرة من عدَّة زوايا؛ تتعلَّق إحداها بِمَدى أهمية دراسة العلاقة بين الشكل والوظيفة في الحيوانات، فهذا النَّوع من الثعابين يطير رغم أنَّه لا يملك مقوِّمات الطيران من عظام خفيفة مجوَّفة، وريش، وأجنحة، وأكياس هوائية، وتتعلق واحدة أخرى بِمُحاكاة هذه الثعابين لحركة الطيور أثناء طيرانها رغم افتقادها للمقوِّمات سالفة الذكر، وهو ما يذكرنا بدوره بعِلْم التنكُّر البيئي Mimetic، وفيه يقوم الكائنُ بِمُحاكاة جزء من الطبيعة كنوع من الحماية أو التَّمويه؛ كأنْ تقوم الحرباء بالتنكُّر من خلال تغيير لون جسمِها، فهنا تقوم الثعابين بتسطيح نفسها كشريطٍ عريض وتُخْلِي جوفها من الهواء؛ لتتمكَّن من الانزلاق في الهواء، وهو أمر يشبه لحدٍّ مَا ما يقوم به الطائرُ عند طيرانه عندما يخفي جسمه ويمدُّ رجلَيْه باستقامة، ويبسط جناحيه ليتمكَّن من الانسياب في الهواء بطلاقةٍ، والطيران في السماء يشبه السِّباحة في الماء، فللسَّمَك هو الآخر كيسٌ هوائي يطلق عليه "مثانة السِّباحة"، يحتوي على غازٍ يُماثل ضغط الماء الخارجي، مِمَّا يجعل السمك عالقًا في الماء بلا وزن حتَّى عندما يتوقف عن السباحة، أمَّا زعنفة السَّمك الصدرية الأمامية فتشبه أجنحة الطائر التي تساعده على الطيران، وطرَفُ ذيلها الأعلى يساعدها على الاندفاع لأعلى، وقد رأى عددٌ من العلماء أنَّ انزلاق الثعابين في الجوِّ هو سباحةٌ في الهواء أكثر منه طيرانًا في الجوِّ.
أمَّا الأهمُّ في دراسة حركة الثَّعابين الطائرة فهو علاقتها بعلم الدِّيناميكا الهوائيَّة، وهو فَرْع من الديناميكا يهتمُّ بدراسة الحركة في الهواء، وبالأخصِّ بدراسة القُوَى المؤثِّرة على جسمٍ ما خلال حركته في الهواء؛ ولِهذا العلم تطبيقاتٌ عمليَّة عديدة سِلْمية وعسكرية أيضًا، فبقدر أهَمِّيته عند تصميم المضخَّات والتوربينات الغازيَّة، بقدر أهَمِّيته لدى المهندسين المعماريِّين الذين يستخدمون مفاهيمه الأساسية عند بناء المباني والمنشآت، فتطبيق أساسيَّات علم الدِّيناميكا الهوائيَّة ضروريٌّ عند بناء ناطحات السَّحاب مثلاً؛ لأنَّ بناءها مرهونٌ بِمَدى صمودها وتَحمُّلها لقوة الرِّياح، وهي تلك الأهَمِّية المرتبطة أيضًا بطيران سفن الفضاء خلال الغلاف الأرضي أو عند عبورها مجالات الكواكب الأخرى.
وتعدُّ الطائرة هي التطبيق الأكثر أهَمِّية لعلم الدِّيناميكا الهوائيَّة، والذي يرتكز على قوَّتَيْن أساسيتَيْن هما الرفع والسحب، والرفع هو قوة ديناميكية هوائية يسبِّبها جناح الطائرة (الحركات الالتوائيَّة التي يقوم بها الثعبان ليولِّد خاصية الارتفاع في الهواء) والسحب، وهو قوة ديناميكية هوائية تقاوم الحركة الأمامية للجسم، وكلما كانت هذه القوة أقل كان ذلك أفضل، ويؤثِّر شكل الجسم على مقدار السَّحب؛ لذلك يَبني مصمِّمو الطائرات طائراتهم بحيث تكون قوة السحب أقلَّ ما يمكن من خلال تصميم أجسام ذات خطوط انسيابيَّة (وهي نفس الخطوط الانسيابية لجسم الثعبان عند انزلاقه في الهواء).
وقد بدأ الاهتمام بعلم الديناميكا الهوائية منذ أن تَمَّ استخدام الطائرات في الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، وبالتزامن مع الأبحاث تم في بداية أربعينيَّات القرن الماضي تطويرُ الطائرة النفاثة، وفي أواخر الأربعينيَّات اخترعت الطائرة التي تطير بسرعة تفوق سرعة الصوت باستخدام قوَّة الدفع الصَّاروخية، وفي الخمسينيَّات أصبحَتْ مقدِّمة الطائرات حادَّة كسكِّين، وتَمَّ تطوير الأجنحة ذات الامتداد التراجعي بِهدف تحقيق الانسيابيَّة وخفض قوَّة السَّحب، ومنذ السبعينيَّات تمكَّنَت دول عدَّة من بناء الطائرات الأسرع من الصَّوت، وفي النِّصف الثاني من الثمانينيَّات ظهرت برامج أبحاث الفضاء الخارجي، الَّتِي هدفت لبناء طائرة تُقْلِع من مطار عادي، وتطير بسرعة تفوق سرعة الصوت بِمَرَّات عدَّة، ويمكنها العودة مرَّة أخرى للمدار الأرضي لتهبط في ذات المطار، وبِهذا تكون حركة الثعبان الطائر الرشيقة الخلابة قد أسهمت في إطلاق شرارة علم الديناميكا الهوائية وتطبيقاته الْهامَّة.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك