مفهوم السعادة
حسين عمرمحفوظ
إن السعادة كلمة خفيفة على اللسان، حبيبة إلى قلب كل إنسان، وما من إنسان إلا وهو يسعى إلى السعادة وتحقيقها في حياته، فأكثر الناس يظن أن السعادة في المال والثراء الفاحش، ومنهم من يتصور أن السعادة في أن يكون له بيت فاخر وسيارة فارهة، ومنهم من يعتقد أن السعادة في المال والأولاد، ويعتقد البعض أن السعادة في أن تكون له وجاهة في المجتمع، أو يتبوأ أعلى المناسب القيادية في البلد، ومنطق بعض الناس أن السعادة تكون في السلطة والملك، ومن الناس من يقول أن السعادة في أن يتزوج امرأة حسناء ويظفر بذات الحسب والنسب والمال والجمال وذات الدلال، وللناس فيما يعشقون مذاهب وقليل من الناس هم الذين عرفوا حقيقة السعادة في الدنيا فعلموا أن السعادة إنما تكون بالاستقامة على دين الله قال - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15-16] وقال - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا * لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) [الإسراء18-22] وقال - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى: 20] فالسعيد هو من سعد في الدارين والمؤمن لما كان مستقيماً على طاعة الله ورسوله فله السعادة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا أنعم الله عليه بأن وفقه الى السير على طريقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير صراط المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى، فهو كما أنه مع أولياء الله فسيحشر معهم، فإن المرء مع من أحب كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي قال: « المرء مع من أحب» (1).
فيا أيها المسلمون! إن للسعادة مقومات، ومن أهمها وحدانية الله - سبحانه وتعالى - وطاعته وإتباع رسوله وذلك بالعمل بسنته القولية والعملية والابتعاد عن الإحداث في الدين ولذلك نجد أن أسعد الناس هم الموحدون لله الذابون عن سنة رسول الله، فالصالحون من عباد الله ولو كانوا في شظف من العيش تجدهم من أسعد الناس وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجادلونا عليه بالسيوف، وقال الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله - تعالى -ومعرفته وذكره أو نحو هذا. وقال آخر: إن لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب(2).
ويحكي ابن القيم - رحمه الله - عن شيخ الإسلام فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري إني رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة. وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا وكان يقول في سجوده وهو محبوس: ألهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ما شاء الله وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه - تعالى -والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر اليه وقال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله عذاب وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه(3)، فهذه هي السعادة الحقيقة لا ينالها إلا من تذوقها ولا يتذوقها إلا من انشراح صدره للإسلام واطمأنت قلبه بالإيمان.
إن السعيد من سعد بطاعة الله، والشقي من شقي بمعصيته لله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 103-108] فالسعداء هم أولياء الله المتقون الذين يعيشون في ظلال الكتاب والسنة تطمئن قلوبهم بذكر الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرعد: 28-29] وأما الأشقياء فإنهم معرضون عن الله وعن دينه وشرعه، مكذبون برسله وباليوم الآخر، ناقضون العهد وميثاقه، فسوف يعيشون عيشة ضنكاً كما قال - تعالى -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه: 124-126] ويوم القيامة يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فلا يكون بينها وبين رؤوسهم الا مقدار ميل فيبلغ بهم الرشح إلى أنصاف آذانهم، في ذلك اليوم الذي يفر فيه المرء من آخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم يسعد فيه السعداء سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، ويشقى الأشقياء شقاءً ما بعدها شقاء، في ذلك اليوم يعطى الناس صحائفهم ولا يدرون ما الله فاعل بهم (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 19-24] هذا هو حال السعداء في ذلك اليوم الذي تنشر فيه صحائف الأعمال وتهتك فيه السرائر وأما الأشقياء فما هو حالهم اسمعوا الى قول الله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) لماذا كل هذا العذاب عليه يا رب (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) [الحاقة: 25-37].
فهنيئاً للسعداء الفائزين في الدارين، وبئس الأشقياء الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة واستحبوا العاجلة على الحياة الباقية الدائمة، فيا أيها المسلمون اعملوا لآخرتكم قبل مماتكم وخذوا من دنياكم ما ينفعكم يوم الدين يوم الحسرة والندامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88-89].
فإذا أردتم السعادة فإنها في طاعة الله وفي الاستقامة على منهج الله في التمسك بسنة رسول الله في الموالاة في الله وفي العبادات لأجل الله، السعادة تكون في تحقيق التوحيد والمتابعة قولاً وعملاً وظاهراً وباطناً، فمن تحقق فيه ذلك فهو السعيد في الدنيا، وهو الذي سيسعد في الآخرة، وأما من عصى الله ورسوله وكذب بآياته وعادى أولياءه ووالى أعداءه وأشرك مع الله غيره ولم يتبع رسوله فهو من الأشقياء في الدنيا والآخرة وسيصلى ناراً حامية ويسقى من عين آنية، نعوذ بالله من النار ومن حال الأشقياء ونسأله الجنة وأن يحشرنا مع السعداء آمين.
-----------
1 متفق عليه.
2 انظر الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن قيم الجوزية ص 671 ضمن مجموعة الحديث.
3 المصدر السابق بعد/ 670 671.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك