الإسلام والدعوة إلى الوحدة والمساواة
راغب السرجاني
الدعوة نحو الوحدة وجمع الشمل:
تزايد عدد المسلمين، والقاعدة الأصيلة التي تحكم الاختيار هي: خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، ولم تكن تحكمهم أي قاعدة من القواعد التي اخترعها الناس للتفرقة بين الناس؛ لأن القواعد التي اخترعها الناس قواعد ظالمة، والله - تعالى - عادل، وعدله مطلق لا ظلم فيه، ولا تكون المفاضلة بين الناس إلا بأمور يستطيعون تغييرها ولذلك يقول الله - تعالى -: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
والتقوى شيء مكتسب تستطيع أن تتحول من غير تقي إلى تقي، وكذلك الأخلاق الحسنة، فالأخلاق الحسنة شيء مكتسب، وإن كان لها جذور فطرية، أحياناً يكون الإنسان مجبول على الصدق، مجبول على الكرم؛ لكنها في النهاية شيء مكتسب، تستطيع إذا أردت أن تتحول من كاذب إلى صادق، من خائن إلى وفيّ، من جبان إلى شجاع.
كذلك الكفاءة: تستطيع أن تكتسب مهارة ما أو حرفة ما، فتفضل بها غيرك، ومن الأشياء الخطيرة في الإسلام أن يوسد الأمر لغير أهله، لمن تنقصه الكفاءة، لذلك ففي هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الدعوة لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينتقي الناس بقواعد لا دخل لهم فيها، فلا تجوز التفرقة على أشياء لا دخل لهم فيها؛ فعلى سبيل المثال: لم يكن هناك فرق بين الأحرار والعبيد.
الدعوة نحو السواسية:
الكل أولاد آدم - تعالى -، الكل سواسية، بل قد يسبق العبد الحر في مجال الأخلاق والتقوى والكفاءة، ولذلك وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته إلى العبيد كما وجهها إلى السادة، وهذا شيء مستغرب جدّاً في البيئة المكية القديمة وهو مستغرب إلى الآن.
تخيل دعوة تدعو الوزير للجلوس إلى جوار الغفير، بل قد يقدم الغفير على الوزير إذا كان أعلم وأكفأ وأقدر على إدارة الأمور، لم يعط قانون ولا دستور للإنسان حقه مثلما فعل الإسلام.
ها نحن نرى في الأوائل الذين أسلموا تباينات عجيبة، فكما رأينا من الأشراف أبا بكر الصديق، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وسعد بن زيد وغيرهم وهؤلاء من أشراف مكة؛ رأينا كذلك العبيد والموالي أمثال بلال، وعامر بن فهيرة، وزيد بن حارثة وغيرهم، وليس هذا إلا في دين الإسلام.
لم يكن هناك فرق بين الغني والفقير:
فالمال لا يصلح للمفاضلة بين الناس، والله - تعالى - يرزق من يشاء بغير حساب، فالأوائل الذين أسلموا كان فيهم الأغنياء واسعو الثراء كالصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وكان منهم الفقراء شديدو الفقر مثل عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسميّة بنت خياط وخباب بن الأرت.
ولكن هناك معلومة مهمة تأتي على عكس ما يتكلم به الكثيرون، فمعظم الدارسين للسيرة يعتقدون أن غالبية المسلمين كانوا من الفقراء البسطاء، ولكن بالتحليل الدقيق لكل شخصية من المسلمين الأربعين الأوائل؛ نجد أن الفقراء كانوا ثلاثة عشر، بينما كان الأغنياء سبعة وعشرين.
إذن لم تكن ثورة من الفقراء على الأغنياء كما يصور بعض الاشتراكيين من المسلمين ليأخذوا سنداً شرعيّاً لاشتراكيتهم، الوضع كان على خلاف ذلك تماماً، الأغنياء سعوا إلى هذا الدين الرائع مضحين بثرواتهم، ومُعرّضين أنفسهم للفقر الشديد، وليس أبلغ من الأمثلة الإسلامية الرائعة كأبي بكر الصديق الذي كان من أغنى الأغنياء، ثم أصبح لا يمتلك شيئاً بعد إسلامه، ومصعب بن عمير الذي كان من أغنى شباب مكة فأصبح من أشدها فقراً وضنكاً وحاجة، لم تكن ثورة على الأغنياء، ولم يكن هناك أدنى فرق بين الغني والفقير.
لم يكن هناك فرق بين العرب وغير العرب:
وما ذنبي أني ولدت في مصر، أو باكستان، أو الهند، المهم التقوى والأخلاق والكفاءة.
دعوة الإسلام ليست دعوة قومية، حتى في هذه البيئة التي تفتخر جدّاً بعربيتها، فقد ضمت هذه الدعوة بلالاً الحبشي، وصهيباً الرومي، وستضم مستقبلاً سلمان الفارسي، وسيدخل بعد ذلك كل العرقيات من فرس ورومان وسلاجقة وأتراك وأكراد وغيرهم، لا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَلا عَجَمِيٍّ إِلا بِالتَّقْوَى.
لم يكن هناك فرق بين الرجل والمرأة:
وهنا وقفة في غاية الأهمية، فإلى الذين يتكلمون عن الإسلام، وظلمه للمرأة؛ عليهم مراجعة التاريخ وقوانين الإسلام مرة أخرى.
تخيل الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في حياة أهل مكة، تخيل مدى التحول الرهيب الذي أحدثه الإسلام في أهل مكة، تخيل كيف نقل الإسلام في يوم وليلة أهل مكة من رجال يستحقرون النساء، ويستقلون شأنهم، ويهمشون أدوارهم، ولا يعطونهم شيئاً من الميراث، بل يرث الرجل زوجة أبيه إذا مات، ومن رجال يئدون بناتهم، ويحزنون لولادتهم، تخيل التحول من هذه الحال إلى الوضع الجديد الذي تُدْعى فيه نساء مكة إلى الإسلام كما يُدعى الرجال حتى يصبح ربع الرعيل الأول من النساء.
تخيل أن في هذه المرحلة الحرجة من الدعوة، وفي ظل هذا التكتم الشامل والسرية التامة يعظم الرسول - صلى الله عليه وسلم - جدّاً من قيمة النساء، ومن قيمة عقولهن، ويثق في إدراكهن لخطورة الموقف، ويعلم عن يقين احتياج الدعوة لهن ليقفن عوناً لأزواجهن المسلمين، وليربين أبناءهن على الإسلام، وليقمن الدعوة في أوساط النساء، وليتحركن بالدين كما يتحرك الرجال.
كل هذا الانقلاب والتحول في يوم وليلة.
الفارق بين حياة الجاهلية بقوانينها الظالمة، وأحكامها الجائرة، وبين العدل المطلق الذي جاء به الإسلام كان مجرد لحظات.
نزل الأمر الإلهي (قُمْ فَأَنْذِرْ)[المدَّثر: 2]، فقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينذر الرجال والنساء؛ قام ليحكم الأرض بقانون السماء، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ)).
كذلك لم يكن هناك فرق بين قبيلة وأخرى:
وهذا أيضاً مستغرب جدّاً في هذا المجتمع القبلي الذي طالما دارت فيه الحروب بين القبائل على أتفه الأسباب، فبعد الإسلام إذا بالرجال من القبائل المختلفة يجتمعون معاً، ويضع بعضهم يده في يد الآخر، ويؤلف الله بين قلوبهم حتى يحاربوا غيرهم، وإن كانوا من نفس قبائلهم، وحتى يصبح الأنصاري أقرب إلى قلب مصعب بن عمير من أخيه الذي هو من أمه وأبيه.
رأينا في الرعيل الأول مسلمين من بني هاشم وآخرين من بني مخزوم على العداوة المشهور بينهما، رأينا مسلمين من كل بطون قريش، من بني تيم، وبني سهم، وبني أسد، وبني الحارث.
الدعوة الإسلامية كانت إعلاناً لحقوق الإنسان أعظم ألف مرة من الإعلان الذي جاء بعد ذلك بثلاثة عشر قرناً من الزمان.
كان هذا إعلاناً من رب العالمين أن الناس سواسية كأسنان المشط، بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإعلان، وأنهى حياته في خطبة الوداع بنفس الإعلان.
كل هذا العدد، وكل هذا العمل، وكل هذه الدعوة في سرية تامة، واستمرت هذه السرية لمعظم الأفراد حتى بعد الإعلان النبوي الذي سيحدث بعد ثلاث سنوات من البعثة عندما يقف فوق جبل الصفا.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً كل الحرص على الحفاظ على كل واحد من أفراد جماعته المؤمنة سواء كان عبداً أو كان حرّاً، سواء كان قرشيّاً أو غير قرشي، وسواء كان من قدماء الصحابة أو حديثي الإسلام.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك