القول الطيب
أحمد بن سواد
حث الإسلام على مكارم الأخلاق وأثاب عليها، وفضَّل المتصف بها على غيره، ومن هذه الأخلاق الحميدة التي أمرنا بها: مخاطبة الناس بالقول الطيب؛ وذلك لما له من الأثر الطيب النافع في فكر وسلوك ونفسية المتحدث والسامع؛ حتى عده بعض أهل العلم شطر الإسلام، فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما الإسلام؟ قال: ((طيب الكلام، وإطعام الطعام))[1].
وقد تستعمل الغلظة والشدة للتأديب أو الزجر، أو لردع المنتهك لحدود الله، أو غيرها من الأسباب التي تقتضي ذلك، وهذا يرجع للمصلحة والمفسدة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73].
لكن الأصل في مخاطبة الناس أن تكون بالقول الحسن، في أمور الدين والدنيا، قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، فهذا يشمل كل البشر؛ مؤمنهم وكافرهم، بَرَّهم وفاجرهم، ولو كان مخالفًا لنا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46]؛ يعني: بالقول الجميل، ودعوتهم إلى الله عز وجل بالحجج والآيات[2]، فهو يتأكد في الدعوة إلى الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]، ومن احتاج للمناظرة، فبرفقٍ ولين وحسن خطاب[3].
فمخاطبة الناس بأجمل الكلمات، وألطف العبارات، وأحسن الجُمل، هي سمة المؤمنين الذين قال تعالى عنهم: ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الحج: 24]، فهو يصدر من نفس طيبة زكية، قال تعالى: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ [النور: 26]، قال ابن عباس رضي الله عنه: "والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلام"[4].
لذا كان هذا الخلق من أعمال البر التي تدل على كريم الخصال، وسمو الخلق الرفيع، قال صلى الله عليه وسلم: ((البر حسن الخلق))[5]، قال ابن بطال رحمه الله: "طيب الكلام من جليل عمل البر"[6]، وعدَّد الماوردي رحمه الله أنواع البر، وذكر منها القول، ثم قال: "القول هو طيب الكلام، وحسن البِشر والتودد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق ورقة الطبع، ويجب أن يكون محدودًا؛ كالسخاء، فإنه من أسرف فيه كان مَلَقًا مذمومًا، وإن توسط واقتصد فيه كان معروفًا وبرًّا محمودًا".
وذكر أهل العلم أنه من حسن الخلق طيب الكلام، قال الماوردي رحمه الله: "معنى حسن الخلق أن يكون المسلم سهل العريكة، لين الجانب، طلق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة"[7].
قال ابن القيم رحمه الله: "فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه، واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر".
فمن عوَّد نفسه على القول الطيب، جادت نفسه بكل خير؛ لأنه صدقة منه تزكو بها نفسه وتطهر، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل كلمة طيبة صدقة))[8]، قال ابن بطال رحمه الله: "وجه كون الكلمة الطيبة صدقة: أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يُعطاه ويذهب ما في قلبه، كذلك الكلام الطيب، فاشتبها من هذه الحيثية"[9].
فكم من إنسان في الماضي أو في الحاضر تغيرت حياته بكلمة طيبة نحو الأفضل والأكمل، بل صار بعضهم قدوات مؤثرين في مجتمعاتهم، وسطَّر التاريخ تراجمهم، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طِيَرة، ويعجبني الفأل))، قالوا: وما الفأل؟ قال: ((كلمة طيبة))[10]، فالمؤمن يُعرض عن لغو الحديث، وعن كل كلمة أثرها سيئ، فلا يتحدث إلا بما ينفع به نفسه أو الآخرين؛ لأن هذا من خصال الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت))[11]، قال النووي رحمه الله: "ينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم، وإلا أمسَك"[12].
ومن كانت بينه وبين أحدٍ شحناء، فبالكلمة الطيبة تزول العداوة، ويحل محلها المحبة والإخاء، قال تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوُّهم، كأنه وليٌّ حميم"[13].
ولو عمل الناس بهذا الخلق، لقُضي على كثير من مشاكلهم، وساد بينهم الصداقة والسلام؛ لأن الشيطان يسعى للإفساد بين الناس وإيقاع العداوة بينهم، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، قال السعدي رحمه الله:"وهذا أمر بكل كلام حسن لطيف مع الخلق، على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، والقول الحسن داعٍ لكل خلق جميل وعمل صالح، فإن مَن ملك لسانه ملك جميع أمره"[14].
وبالقول الطيب تنال محبة الخلق ورضوان الخالق جل جلاله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة))[15].
فإذا كان القول الطيب بأسلوب لين، زاده ذلك بهاءً وجمالاً، وكان أرجى في قبول الخطاب؛ لأن تأثير الأسلوب أبلغ في النفس من تأثير الكلمة ذاتها، قال تعالى: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]، قال ابن كثير رحمه الله: "إن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ وأنجع، لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة"[16].
فإذا كان هذا في مخاطبة فرعون، وهو من أفجر البشر، فكيف بمَن دونه في الفسق والفجور؟! بل كيف بمخاطبة المؤمنين الموحدين؟!
فالكلمة الطيبة تنفع صاحبها في الدنيا، وترفع من شأنه، وفي الآخرة تقيه من النار، قال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))[17]، وتدخله الجنة بإذن الكريم المنان، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابَعَ الصيام، وصلى بالليل والناس نيام))[18].
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
[1] رواه أحمد.
[2] انظر تفسير الطبري.
[3] انظر تفسير ابن كثير.
[4] تفسير الطبري.
[5] الأدب المفرد.
[6] موسوعة نضرة النعيم (8/ 3291).
[7] موسوعة نضرة النعيم (8 /3291).
[8] الأدب المفرد.
[9] موسوعة نضرة النعيم (8/ 3291).
[10] رواه البخاري.
[11] رواه البخاري.
[12] موسوعة نضرة النعيم (8/ 3291).
[13] تفسير الطبري.
[14] تفسير السعدي (باختصار).
[15] رواه البخاري.
[16] تفسير ابن كثير (باختصار).
[17] رواه البخاري.
[18] رواه أحمد.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك