في الحج والعمرة
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: ((وإن أعجزه كبر، أو مرض لا يُرجى برؤه، أو ثقل لا يقدر معه على ركوب إلا بمشقَّة شديدة، لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه فورًا من حيث وَجَبا، أي: من بلده. ويجزئ عنه، وإن عوفي بعد الإحرام...)) إلى قوله: ((وإن مات من لزماه أخرجا من تَرِكته، وإن ضاق ماله حج به من حيث بلغ، وإن مات في الطريق حج عنه من حيث مات)) [1].
قال في ((الإفصاح)): ((واختلفوا في المعضوب وهو ذو الزمانة الذي لا يستمسِكُ على الراحلة إذا قدر على مال يحج به عن نفسه، هل يلزمه الحج أم لا؟
فقال أبو حنيفة[2] ومالك[3]: لا يلزمه.
وقال الشافعي[4] وأحمد[5]: يلزمه أن يستنيب من يحج عنه))[6].
((واختلفوا في الحج، هل يسقط بالموت؟
فقال أبو حنيفة[7] ومالك[8]: يسقط، ولا يلزم الورثة أن يحجوا عنه؛ إلا أن يوصي بذلك.
وقال الشافعي[9] وأحمد[10]: لا يسقط بالموت، ويلزم الحج عنه من صُلب ماله، سواءٌ أوصى به أو لم يُوصِ.
ثم اختلفوا من أين يحج عن الميت؟
فقال أحمد[11]: يحج عنه من دويرة أهله.
وقال الشافعي[12]: يجزئ من الميقات.
وقال أبو حنيفة[13] ومالك[14]: لا يحج عنه إلا أن يوصي بذلك كما قدَّمنا، فإن أوصى به فمن أين يحج عنه؟
فقال مالك[15]: من حيث أوصى.
وقال أبو حنيفة[16]: من دويرة أهله))[17].
وقال ابن رشد:
((وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة:
فعند مالك[18] وأبي حنيفة[19]: أنه لا تلزم النيابة إذا استطيعت مع العجز عن المباشرة.
وعند الشافعي[20]: أنها تلزم، فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه أن يحج عنه غيره بماله، وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب - وهو الذي لا يثبت على الراحلة - وكذلك عنده[21] الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يُخرِجوا من ماله بما يُحَج به عنه.
وسبب الخلاف في هذا: معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ باتفاق[22]، ولا يزكِّي أحدٌ عن أحدٍ، وأما الأثر المعارض لهذا: فحديث ابن عباس المشهور - خرَّجه الشيخان - وفيه: أن امرأة من خَثْعم قالت: يا رسول الله، فريضة الله في الحج على عبادة أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: (نعم). وذلك في حجَّة الوداع[23]. فهذا في الحي.
وأما في الميت فحديث ابن عباس أيضًا خرَّجه البخاري قال: جاءت امرأةٌ من جُهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، إن أمي نذرت الحجَّ فماتت أفأحجُّ عنها؟ قال: (حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان عليها دَيْن أكنت قاضيته؟ دَيْن الله أحقُّ بالقضاء)[24].
ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوُّعًا، وإنما الخلاف في وقوعه فرضًا))[25].
وقال الشيخ ابن سعدي:
((سؤال: من الذي يجب عليه الحج؟ وما الحكمة فيه؟
الجواب - وبالله التوفيق -: اتفق المسلمون على ما ثبت في الكتاب والسنة من وجوب الحج، وأنه أحد أركان الإسلام ومبانيه التي لا يتم إلا بها[26].
وعلى ما ورد في فضله وشرفه وكثرة ثوابه عند الله، وهذا معلومٌ بالضرورة من دين الإسلام، وقد فرضه العليم الحكيم الحميد في جميع ما شرعه وخَلَقه واختص هذا البيت الحرام وأضافه إلى نفسه، وجعل فيه وفي عرصاته والمشاعر التابعة له من الحكم والأسرار ولطائف المعارف ما يضيق علم العبد عن معرفته.
وحسبك أنه جعله قيامًا للناس، به تقوم أحوالهم، ويقوم دينهم ودنياهم، فلولا وجود بيته في الأرض وعمارته بالحج والعمرة وأنواع التعبُّدات لآذن هذا العالم بالخراب، ولهذا من أمارة الساعة واقترابها هدمه بعد عمارته، وتركه بعد زيارته؛ لأن الحج مبنيٌّ على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها، فمن حين يدخل فيه الإنسان يقول: (لبيكَ اللهُمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). ولا يزال هذا الذِّكر وتوابعه حتى يفرغ، ولهذا قال جابر رضي الله عنه: فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد[27]؛ لأن قول المُلبِّي: (لبيكَ اللهُمَّ لبيكَ) التزام لعبودية ربِّه، وتكريرٌ لهذا الالتزام بطمأنينة نفس وانشراح صدر، ثم إثبات جميع المحامد وأنواع الثناء والملك العظيم لله تعالى ونفي الشريك عنه في ألوهيته وربوبيته وحمده وملكه، هذا حقيقة التوحيد، وهو حقيقة المحبة؛ لأنه استزادة المحب لأحبابه وإيفادهم إليه ليحظوا بالوصول إلى بيته ويتمتعوا بالتنوع في عبوديته والذل له، والانكسار بين يديه، وسؤالهم جميع مطالبهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية في تلك المشاعر العظام والمواقف الكرام، ليجزل لهم من قراه وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وليحط عنهم خطاياهم ويرجعهم كما ولدتهم أمهاتهم، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
ولتحقق محبتهم لربهم بإنفاق نفائس أموالهم وبذل مهجهم بالوصول إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.
فأفضل ما أنفقت فيه الأموال وأعظمه عائدة وأكثره فوائد إنفاقها في الوصول إلى المحبوب وإلى ما يحبه المحبوب ومع هذا فقد وعدهم بإخلاف النفقة والبركة في الرزق قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: 39].
وأعظم ما دخل في هذا الوعد من الكريم الصادق إنفاقهما في هذا الطريق، وأفضل ما ابتذل به العبد قوته؛ واستفرغ له عمل بدنه هذه الأعمال التي هي حقيقة الأعمار، فحقيقة عمر العبد ما قضاه في طاعة سيده وكل عمل وتعب ومشقَّة ليست بهذا السبيل فهي على العبد، لا للعبد.
ثم ما في ذلك من تذكر حال العابدين وأصفيائه من الأنبياء والمرسلين قال تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125].
والصحيح أنه مفرَد مضاف، ويشمل جميع مقاماته في الحج من الطواف والسعي والوقوف بالمشاعر والهدي وأصناف متعبدات الحج. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن من مواطن الحج ومشاعره: (لتأخذوا عني مناسككم)[28] فهو تذكير لحال الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وتذكير لحال سيد المرسلين وإمامهم، وهذا أفضل وأكمل أنواع التذكيرات للعظماء تذكيرًا بأحوالهم الجليلة ومآثرهم الجميلة، والمتذكر لذلك ذاكرًا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)[29].
ففي هذا من الإيمان بالله ورسله الكرام، وذكر مناقبهم وفضائلهم ما يزاد به المؤمن إيمانًا والعارف إيقانًا، ويحثه على الاقتداء بسيرهم الفاضلة وصفاتهم الكاملة.
ثم ما في اجتماع المسلمين في تلك المشاعر، واتفاقهم على عبادة واحدة ومقصود واحد ووقوف بعضهم من بعض، واتصال أهل المشارق بالمغارب في بقعة واحدة لعبادة واحدة ما يحقق الوحدة الإسلامية والأخوّة الإيمانية ويربط أقصاهم بأدناهم، ويعلمون أن الدين شاملهم، وأن مصالحه مصالحهم، وإن تناءت بهم الديار وتباعدت منهم الأقطار.
فهذا إشارة يسيرة إلى بعض الحكم والأسرار المتعلقة بهذه العبادة العظيمة فلله الحمد والثناء حيث أنعم بها عليهم وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينًا.
وهذه الحكم من أقوى البراهين والأدلة على سعة رحمة الله وعموم بِرِّهِ، وأن الدين الحق الذي لا دين سواه هو الدين المشتمل على مثل هذه الأمور، والله تعالى أعلم.
وأما من يجب عليه فهو المكلف المستطيع السبيل القادر ببدنه وماله هذا هو الشرط الخاص في الحج، ولهذا اقتصر الله على ذكره في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
ويدخل في الاستطاعة: أمن الطريق والبلد، وسعة الوقت، ووجود مَحْرَم للمرأة؛ لأنه من باب الاستطاعة الشرعية، فمن عجز عنه ببدنه وماله لم يكن عليه شيء، ومن عَجَزَ عنه ببدنه، وقدر عليه بماله كالكبير الذي لا يستطيع الثبوت على الراحلة، والمريض المأيوس من عافيته، أناب عنه من يحج عنه، وإن كان قادرًا ببدنه وليس له مال والمسافة قريبة وجب عليه؛ لأنه متحقق استطاعته، وإن كانت المسافة بعيدة ففي وجوبه عليه قولان[30]، المذهب منهما عدم وجوبه والله أعلم))[31].
وقال البخاري: ((باب: المحرِم يموت بعَرَفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج))[32].
قال الحافظ: ((يعني لم يُنقل، وذكر فيه حديث ابن عباس في الرجل المحرم الذي وقع عن بعيره بعرفة فمات[33])[34].
وقال الحافظ في باب الكفن في ثوبين: ((واستدل بالحديث على ترك النيابة في الحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا أن يكمل عن هذا المحرم أفعال الحج، وفيه نظرٌ لا يخفى.
وقال ابن بطَّال[35]: وفيه أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رُجِي له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل))[36].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة.
وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: (نعم حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء)[37])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة) يعني: أن حديث الباب يستدل به على الحكمين، وفيه على الحكم الثاني نظر، لأن لفظ الحديث: أن امرأة سألت عن نذر كان على أبيها فكان حق الترجمة أن يقول: والمرأة تحج عن الرجل، وأجاب ابن بطَّال[38] بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء وهو قوله: (اقضوا الله). قال: ولا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى رواية شعبة، عن أبي بشر في هذا الحديث فإنه قال فيها: أتى رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحجَّ... الحديث. وفيه: (فاقضِ الله فهو أحقُّ بالقضاء)[39] أخرجه المصنِّف في كتاب النذور...
إلى أن قال: واستدل به على صحَّة نذر الحج ممن لم يحج فإذا حجَّ أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور[40]، وعليه الحج عن النذر.
وقيل[41]: يُجزئ عن النذر ثم يحج حجة الإسلام.
وقيل: يجزئ عنهما.
وفيه: إجزاء الحج عن الميت، وفيه اختلاف. فروى سعيد بن منصور وغيره، عن ابن عمر بإسناد صحيح: (لا يحج أحدٌ عن أحدٍ)[42]. ونحوه عن مالك[43] والليث.
وعن مالك أيضًا[44]: إن أوصى بذلك فليحج عنه، وإلا فلا.
وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه، وفيه: أن من مات وعليه حجٌّ وجب على وليِّه أن يجهز مَن يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس ماله[45]، فكذلك ما شبه به في القضاء.
ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذِمَّته من كفَّارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك))[46].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.
وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحجَّ عنه؟ قال: (نعم)[47])).
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك