أهمية دراسة ألفاظ الجنة في القرآن الكريم

[منتدى فرسان الحق]

أهمية دراسة ألفاظ الجنة في القرآن الكريم











أحمد محمود السيد محمد







مقدمة:


الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا سواها شغلاً، وسهّل طرقها فسلكوا السبيل الموصل إليها ذللاً، خلقها لهم قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يُوجدهم، وحفّها بالمكاره؛ وأخرجهم إلى دار الامتحان ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلاً، وأودعها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وجلاها لهم حتى عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من رؤية البصر، وبشّرهم بما أعد لهم فيها على لسان رسوله خير البشر، وكمّل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً.





وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى به طرف عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين، بعثه للإيمان مناديًا، وإلى دار السلام داعيًا، وللخليقة هاديًا، ولكتابه تاليًا، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنة النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى طريق الجحيم﴿ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده والمؤمنون عليه، كما وحد الله وعبده، وعرفنا به ودعا إليه.





وتنبع أهمية دراسة ألفاظ الجنة في القرآن الكريم من ثلاثة وجوه:


الوجه الأول: المكانة السامية للجنة في العقيدة الإسلامية، وأثر هذه المكانة في حياة المسلمين، وفي تصوراتهم الإيمانية التي تتمثل في النقاط التالية:

1. الجزاء العظيم الذي أعدَّه الله سبحانه لأوليائه:


الجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعدَّه الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يُعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم يُحير العقل ويذهله؛ لأن تصور عظمة ذلك النعيم يَعجز العقل عن إدراكه واستيعابه.





كما جاء في قوله تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شِئتم ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].





وتظهر عظمة النعيم بمقارنته بمتاع الدنيا، فإن متاع الدنيا بجانب نعيم الآخرة تافه حقير، لا يُساوي شيئًا. ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها).





ولذا كان دخول الجنة والنجاة من النار في حكم الله وتقديره هو الفلاح العظيم والفوز الكبير والنجاة العُظمى قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].





وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: 13][1].






2. الرُكن الخامس من أركان عقيدة المؤمن: (الإيمان باليوم الآخر).


جاء في كتاب شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية: "أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السُنَّة والجماعة، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره"[2].





فالركن الأول في عقيدة المؤمن الإيمان بالله وحده لا شريك له، والركن الثاني الإيمان بالملائكة، والركن الثالث الإيمان بالكتب المنزلة، والركن الرابع الإيمان بالرسل والأنبياء، والركن الخامس الإيمان باليوم الآخر؛ وفيه المعاد والبعث والجزاء؛ حيث الميزان والحساب والصراط، ثم جزاء الجنة وجزاء النار، فبعد وزن الأعمال والفراغ منها وبيان السعيد من الشقي في الجملة يضطر الناس إلى المرور على الصراط، وهو جسر دقيق منصوب على ظهر جهنم، وهي عقبة كأداء في طريق الذاهبين إلى دار السلام، وممر خطير للغاية يشهد لخطورته أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على جنباته والناس يمرون وهو يدعو: (رب سلم سلم).





ويكون مرور الناس بحسب أعمالهم في الدنيا، فمنهم مَنْ يَمر بسرعة مدهشة حتى لكأنه البرق الخاطف، منهم مَنْ يمر دون ذلك إلى أن ينجو مَنْ ينجو، ولو حبوًا على يديه وركبتيه، ويهلك مَنْ هلك بسقوطه في جهنم دار الشقاء والهوان والبوار والخسران.





بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط بسلام وأمان من الوقوع في النار؛ يُوقفون على قنطرة بين الجنة والنار لتهذيبهم باقتصاص بعضهم من بعض، ثم بعد ذلك يُؤذن لهم بدخول الجنة فيدخلون[3]، فكل واحدة من الجنة والنار حق بالكتاب والسنة والإجماع، وكل ما هو كذلك فالإيمان به واجب، والمراد من الجنة دار الثواب ومن النار دار العقاب (هما) مصير الخلق[4].



3. الآخرة شطر عقيدة الإسلام، والجنة شطر الآخرة:


الآخرة شطر عقيدة الإسلام كدين شامل، وهو الشطر المعروف بالإيمان؛ إذ إن عناصر الإيمان تدور كلها حول الآخرة، فالملائكة والكتب والرسل إنما كانت لليوم الآخر، وللوصل بين الحياة الدنيا المنظورة وبين الآخرة غير المنظورة على صورة من اليقين تضع غير المنظورة في مرتبة المنظورة، الأمر الذي كان يُؤصله الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه وأخيلتهم، كما قال حنظلة الأسدي رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لنا الجنة والنار وكأننا نراهما رأي العين[5].



4. القيمة العالية بين الدُّور الثلاثة:


خلق الله سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع من الدور: دار اختبار وابتلاء وهي الدنيا، ودارين للجزاء هما الجنة والنار؛ حيث جعل سبحانه الطيب بحذافيره في الجنة، والخبيث بحذافيره في النار، فجعل الدور ثلاثة: دارًا أُخلصت للطيبين وهي حرام على غير الطيبين، وقد جمعت كل طيب، وهي الجنة. ودارًا أُخلصت للخبيث والخبائث، وخلط بينهما وهي هذه الدار، ولهذا وقع الابتلاء والمحنة ولمَّا كان المُشرِك خبيث العنصر، خبيث الذات لم تُطهِر النار خبثه بل لو خرج منها لعاد خبيثًا كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فكذلك حَرَّم الله تعالى على المشرك الجنة.. ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرئًا من الخبائث، وكانت النار حرامًا عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فسبحان مَنْ بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فِطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين لا إله إلا هو[6].



5. الحافِز على استقرار الشريعة:


تأصيل الجنة في قلوب المسلمين وتأصيل هذه الحياة في العقل والقلب والخيال حافز رئيس على استقرار الشريعة بصفة عملية سلوكية على وجه الأرض، أما الفصل بينهما فهو الحافز على الصراع الدائر بين الناس حول زينة الحياة الدنيا حتى عَبَدَ الناس أهواءهم واستبدت بهم الزينة وحدث تفريغ كامل للقلب من مشاعر الإحساس بالمسئولية في يوم قريب[7].



6. سُمو الجنة وقربها من عرش الرحمن:


في ذكر سمو الجنة وارتفاع مكانتها يقول الإمام السفاريني: "واعلم أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها عرش الرحمن" كما قال الله جل شأنه في محكم القرآن: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: 13 - 15]. وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة وسُميت بذلك لأنه ينتهي إليه ما ينزل من عند الله فيقبض منها وما يصعد إليه فيقبض منها بسبب هذا الامتزاج والاختلاط، وذلك بموجب الحكمة الإلهية، فإذا كان يوم معاد الخليقة مَيَّز الله الخبيث من الطيب وأهله في دار على حِدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأمر إلى دارين فقط: الجنة وهي دار الطيبين، والنار وهي دار الخبيثين، وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم.. والمقصود أن الله سبحانه وتعالى جعل للسعادة والشقاوة عنوانًا يُعرفان به، فالسعيد الطيب لا يليق به إلا طيب، ولا يأتي إلا طيبًا، ولا يصدر منه إلا طيب، ولا يُلابس إلا طيبًا، والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث ولا يأتي إلا خبيثًا، ولا يصدر منه إلا الخبيث، يتفجر من قلبه الخُبث على لسانه وجوارحه، والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه.





وقد يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عليه كان من أهلها، فإن أراد الله به خيرًا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوُافيه يوم القيامة مطهرًا.. فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار، فيطهره منها بما يُوفقه له من التوبة النصوح والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويُمسك عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة، ومادة طيبة وحكمته تعالى تأبى أن يُجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طُهرة له وتصفية وسبكًا.





حتى إذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صَلُحَ حينئذٍ لجواره ومُساكنة الطيبين من عباده، ومدة إقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سُرعة زوال تلك الخبائث منهم وبُطئها، فأسرعهم زوالاً وتطهيرًا أسرعهم خروجًا، وأبطؤهم أبطؤهم خروجًا، جزاءًا وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد[8].





وقال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22].





قال ابن نجيح عن مجاهد هو الجنة، وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: "الجنة في السماء السابعة، ويجعلها الله تعالى حيث شاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة"، وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" وهذا يدل على أن الجنة في غاية العلو والارتفاع. قال في حادي الأرواح: قال شيخنا أبو الحجاج المربي الحافظ والصواب رواية من رواه فوقه بضم القاف على أنه اسم الظرف أي وسقفه عرش الرحمن، فإن قيل فالجنة جميعها تحت العرش سقفها، فإن الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش أكبر منه، فالجواب لما كان العرش أقرب إلى الفردوس مما دونه من الجنان بحيث لا جنة فوقه دون العرش كان سقفًا له دون ما تحته من الجنان لِعِظَم سعة الجنة وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئًا فشيئًا درجة فوق درجة كما يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتق؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها[9].





الوجه الثاني: بيان ما في المفردات القرآنية المعبرة عن الجنة من النظم المعجز، والحالة الشعورية التي تقشعر منها جلود الذين آمنوا، والتي نجد أثرها في تلك الفروق النفسية (الدلالية) المرتبطة بوشائج من وجوه الإعجاز كمقام الآية، ودقة السبك، وعذوبة اللفظ.





الوجه الثالث: إن مفردات ألفاظ الجنة وإن تشابهت في صيغها، وتشابهت في مواقعها بالآيات، إلا أنها تحمل في كل مرة دلالة جديدة مغايرة ومختلفة ومضافة إلى دلالتها المركزية (المعجمية).





فأهمية البحث في المعاني الدقيقة تكمن في ردّ ما يثيره عدد من الباحثين من تعميم القول بالترادف ليشمل القرآن الكريم، وينسحب على ألفاظ الجنة؛ إذ يتبادر إلى الذهن معنى القصدية في اختيار الألفاظ المتحقق يقينًا في الكتاب العزيز، وكيف لا يكون كذلك وهو تنزيل ﴿ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ كما في سورة النمل آية 6"، ففي الترادف تعارض مع معنى القصد المتأتى من ألفاظ القرآن؛ إذ الترادف يجعل الألفاظ تتبادل المواضع، دون أيما تميز وهذا لا يتفق وسمة التعبير التي يراعى فيها الظلال والإيحاءات المختبئة في طي الألفاظ، -وتحديدًا في ألفاظ الجنة- ولا يجلوها إلا البحث في المعاني الدقيقة لمعاني الألفاظ.






[1] د. عمر سليمان الأشقر، العقيدة في ضوء الكتاب والسنة، (اليوم الآخر) رقم (3) (الجنة والنار)، دار النفائس، عمان، الأردن، ط4، سنة 1411هـ، 1991م، ص 117،118.




[2] محمد خليل هراس، شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، دار الاعتصام للنشر والتوزيع، القاهرة، بدون تاريخ.




[3] الجزائري، (أبو بكر جابر الجزائري)، عقيدة المؤمن، مكتبة الإيمان بالمنصورة، بدون تاريخ، ص 281، 282.




[4] د. مصفى حلمي، الموجز في العقيدة الإسلامية (مختصر عقيدة الإمام السفاريني)، دار الدعوة، الإسكندرية، ط1، سنة 1420هـ، 1999م، ص 156




[5] عبدالقادر أحمد عطا، الطريق إلى الجنة (مختصر حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، سنة 1986م، ص 3، 4




[6] أبو ذر القلموني، وحدة الدور الثلاثة من تفسير ابن كثير، دار الدعوة الإسلامية، القاهرة، بدون تاريخ، ص 8، 9.




[7] عبدالقادر أحمد عطا، الطريق إلى الجنة، ص 4.




[8] د. مصطفى حلمي، الموجز في العقيدة الإسلامية، ص 163، 164.




[9] المرجع السابق.

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك