08-31-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 359,116
|
|
(011)أثر فقه عظمة الله في خشيته-عظمته في قدرته، وتسخيره
القدرة الإلهية لا تحدها حدود، ويكفي في معرفة عظمته في هذه الصفة: الإشارة إلى أنه إذا أراد شيئاً معدوماً أوجده بكلمة: "كن" كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} {القرة} وقد امتلأ كتاباه سبحانه المقروء منهما والمفتوح بالدلائل على كمال قدرته الباهرة، وشمولها لكل أكوانه الخفية عنَّا والظاهرة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)} {البقرة} ولا تخفى كثرة ذكر هذه الصفة جداً في القرآن.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لآية البقرة المذكورة: "وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه, وأنه إذا قدَّر أمراً وأراد كونه, فإنما يقول له: {كن} أي: مرة واحدة فيكون, أي: فيوجد, على وفق ما أراد كما قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } {يس}
وقال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } {النحل} وقال تعالى: { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} {القمر}
فما وجد شيء في الكون كله سماواته وأرضه، من يوم فطر الله الخلق، ولا يوجد من شيء من ذلك حالاً ومستقبلاً، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، من صغير وكبير إلا هو داخل تحت قدرته سبحانه.
قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} {الرحمن} وليس المراد باليوم هنا ما نعرفه من طلوع الشمس إلى غروبها، بل المراد به كل وقت فيشمل الساعات والدقائق والثواني وأجزاءها المتناهية في الصغر، فكم يخلق في أصغر جزء من الثانية في العالم العلوي والسفلي كله، وكم يميت وكم من حاجة يقضيها، وكم ينبت من الزرع، وكم ييبس منه، وكم يشبع وكم يجيع، وكم يكسو، وكم يعري، وكم يعز وكم يذل، وكم يغني وكم يفقر، وكم من قوي يضعفه، وكم من ضعيف يقويه، وكم من مريض يشفيه، وكم من صحيح يمرضه ويسقمه، وكم من كربة ينفسها، وكم من مصيبة ينزلها بخلقه، وكم ...وكم... وكم وكم؟ كل ذلك وغيره مما لم يمكن أن يحصيه ويحيط به إلا العليم القدير، إنما يقول له: { كُنْ فَيَكُونُ } لا إله إلا هو.
قال سيد قطب رحمه الله: "وهوـ سبحانه ـ كل يوم هو في شأن. وهذا الوجود الذي لا تُعرف له حدود، كله منوط بقدره، متعلق بمشيئته، وهو قائم بتدبيره. هذا التدبير الذي يتناول الوجود كله جملة، ويتناول كل فرد فيه على حدة؛ ويتناول كل عضو وكل خلية وكل ذرة. ويعطي كل شيء خلقه، كما يعطيه وظيفته، ثم يلحظه وهو يؤدي وظيفته. هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب وكل يابس. يتبع الأسماك في بحارها، والديدان في مساربها، والحشرات في مخابئها. والوحوش في أوكارها، والطيور في أعشاشها. وكل بيضة وكل فرخ. وكل جناح. وكل ريشة. وكل خلية في جسم حي. وصاحب التدبير لا يشغله شأن عن شأن، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف..". انتهى.
ألا ترى أيها العاقل، أن التأمل في آثار اسمه القدير وصفته القدرة، كافيان لنا في الرهبة والخشية والإخبات والخشوع لهذا الرب القدير على كل شيء؟!
عظمته تعالى في تسخيره:
وفي تأمل الإنسان ما سخره الله تعالى له في نفسه وفي الكون من حوله، الأرض التي تقله وما ذرأه فيها وهيأه له من مصالحه الشاملة التي لا حياة له بدونها، منه ما يسهل عليه استعماله، ولا قدرة له على صنعه، كالهواء الذي لو وقفه الله فترة قصيرة من الزمن لما بقي حي على الأرض يتحرك، ومنه ما أتاح الله له الحصول عليه بتعاطي الأسباب منه، كالطعام والغذاء الذي لا بد له فيه من حرثه وصرمه وخزنه والدواء الذي لا بد له فيه من تعلمه وصنعه... وكذلك استنباط الماء من أعماق الأرض التي خزنه الله تعالى فيها، وتصفيته من الشوائب من الأنهار والآبار والركي، ليشرب صافياً نقياً سليماً مما يفسد الأجسام ويجلب الأسقام، والطاقات والمعادن التي أودعها الله في الأرض، كالذهب والفضة والحديد والبترول وغيرها، مما تتقدم بها الأمم الحية الحكيمة في كل مجالات حياتها، وتضمحل وتذوى أي أمة تكسل وتفرط في الاستفادة منه، كما نشاهد ذلك في عصرنا الحاضر.
ويكفي الإنسان رؤية لعظمة الله تعالى في التسخير أن يفكر فيما سخره الله تعالى له من أعضاء وأجهزة في جسمه، ليحيى بها حياة سهلة سعيدة، وصان له منها ما لا قدرة له على صيانته بنفسه، وأمره بوقاية ما يستطيع وقايته، بوسائل هو قادر على استعمالها في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وغير ذلك.
قال سيد قطب رحمه الله وهو يتفيأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ...(20)} {لقمان}: "وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض. فوجود الإنسان ابتداءً نعمة من الله وفضل؛ وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل، وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل؛ ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل؛ وكل نفس يتنفسه، وكل خفقة يخفقها قلبه، وكل منظر تلتقطه عينه، وكل صوت تلتقطه أذنه، وكل خاطر يهجس في ضميره، وكل فكرة يتدبرها عقله... إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله. وقد سخَّر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدي النجوم، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه. وسخر له ما في الأرض. وهذا أظهر وأيسر ملاحظةً وتدبراً. فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض، ومكَّنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز. ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر. ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره؛ ومنه ما لم يعرفه أصلاً من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري. وإنه لمغمور في كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها، ولا يحصي أنماطها. ومع هذا كله فإن فريقاً من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم". انتهى.
فهذا التسخير الرباني وحده كاف للعقلاء وبخاصة المسلمين منهم لتعظيم الله تعالى وقدْرهم له حق قدْره، والرهبة والخشية من حرمانهم منه، ومحبته وشكره على تمكينهم منه والإخبات والخشوع له جل وعلا.
اقرأ هذه الآيات التي أجمل الله فيها شيئاً مما سخره تعالى لخلقه: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} {إبراهيم} وفي تدبرْها والتفكر في عظمة من سخرها، وهل لغيره تعالى من قدرة على هذا التسخير، أو حمايته من خالقه لو أراد سلبه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} {الملك} وفي قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف {من الآية: (32) إلى الآية (43)}.وقصة قارون {من الآية: (76) إلى الآية: (82) من سورة القصص}وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم {من الآية: (17) إلى الآية: (33).} عبرةٌ لمن أراد الاعتبار والإخبات إلى الله.
ولا فرق عند الله في قدرته على حرمان صاحب الجنتين المذكورتين في الكهف، وما عاقب به قارون، وحرمان أصحاب الجنة المذكورة في القلم، وفي حرمان الإنسان مما سخره الله من أعضاء وأجهزة.. قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)} {النحل}
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)} {الأنعام}
فنحن نشاهد كثيراً من البشر يحرمهم الله من أبصارهم وأسماعهم، وأيديهم وأرجلهم، بل وعقولهم، بعد أن يتمتعوا بها برهة من أعمارهم، ولهذا شرع الله على لسان رسوله ‘ لهذه الأمة اللجوء إليه بهذا الدعاء الذي ما كان صلى الله عليه وسلم، يقومُ من مجلسٍ حتى يَدْعُوَ به لأصحابه: (اللَّهمَّ أَمتِعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقُوَّتنا ما أَحيَيتنا، واجعَلُه الوارثَ منا) {رواه النسائي في سننه الكبرى (6/106) دار الفكر، الترمذي (9/379) دار الكتب العلمية، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيْبٌ" واقتدى به من رواه عنه من أصحابه في ذلك.}
ودل القرآن الكريم أن الله تعالى يغير حال من غير ما بنفسه، فيبدل نعمته نقمة إذا كفر تلك النعمة، والعكس صحيح، فهي سنة من سنن الله تعالى في خلقه.. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} {آل عمران} وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} {الرعد}
فهل ترى من يؤمن بمن هذ صنعه في مخلوقاته من التسخير والإعطاء والحرمان، يبقى قلبه أقسى من الصخور والجبال، ولا يخشع لعظمته تعالى؟
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|