08-31-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 358,792
|
|
(012)أثر فقه عظمة الله في الخشوع له-الفصل الثاني: ما يعين المؤمن على استحضار الخشوع.
ويعين المؤمن على استحضار عظمة الله، ليحقق الخشوع من ربه، أمور:
الأمر الأول: الإيمان القوي والعمل الصالح:
معلوم من نصوص القرآن والسنة أن الإيمان الذي أراده الله من المسلم، هو الإيمان اليقيني الذي لا ريب فيه، وهو الذي يوصف صاحبه بأنه صادق فيه، لما يحققه من طاعة الله، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)} {الحجرات}. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}.. [إلى الآية: (11). المؤمنون]
الأمر الثاني: الإكثار من ذكر الله ذكرا يتواطأ عليه القلب واللسان: كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد]
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)} {الأحزاب} وقال سبحانه وتعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)} {الأحزاب}
ولما سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم، رجلٌ كبرت سنه أن يخبره بشيء يسهل عليه التمسك به، ولا ينساه، أجابه بقوله: (لا يَزَالُ لسانُكَ رَطْبا بذِكر الله تعالى) {أخرجه الترمذي (9/256) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حسن غَرِيبٌ مِنَ هَذَا الْوَجْهِ. والحاكم في المستدرك (9/256) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".}
فالمؤمن الصادق القوي الإيمان هو الذي تتحقق في قلبه محبة الله وخشيته التي تغرس الخشوع فيه وتجعله يقدم طاعة الله تعالى ومحابه على محاب نفسه وهواها، ويكثر من وذكر الله المطلق والمقيد، ومن تلاوة القرآن، وتدبره، تدبراً يزيد إيمانه فيلين قلبه ويمتلئ رغبا ورهبا لله، فيكثر من الأعمال الصالحة المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} {الأنفال}
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره. وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ونظير هذه الآية: {وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} {الحج: 34، 35.} وقال: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} {الرعد: 28.} فهذا يرجع إلى كمال المعرفة وثقة القلب. والوجل: الفزع من عذاب الله؛ فلا تناقض. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله: { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ } {الزمر 23.} أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله){ (7/365) دار الكتب العلمية.}
الأمر الثالث: العلم النافع:
الشيطان يلقي وساوسه في قلوب الذين يتولونه من مرضى القلوب وقساتها، فيستجيبون لوسوسته ويتبعون خطواته فيفتنهم بذلك، فتزداد قلوبهم قسوة لا يؤثر فيها ذكر الله وواعظه، والعلم النافع الذي يثبت به يقين الإيمان ويعلم به الحق من الباطل، وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يثبت أهله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويهديهم إلى صراط الله المستقيم ويلين قلوبهم فتخبت لربها سبحانه.
قال تعالى: {...وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(54)} {الحج} وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)} {فاطر}
والمقصود بالعلماء الذين يخشون الله، العاملون بعلمهم الذين يلتزمون بمنهاج الله ولا يشترون بآياته ثمناً قليلاً، كما فعل أهل الكتاب الذين هددهم الله تعالى بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} {البقرة}
قال الغزالي رحمه الله في الإحياء: "وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد فقال عز وجل في علماء الدنيا: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} آل عمران (187).وقال تعالى في علماء الآخرة: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} {آل عمران (199) (1/58) دار الفكر.}
الأمر الرابع: المجاهدة المستمرة للنفس على التأثر بذكر الله:
لا بد للاستقامة على صراط الله المستقيم، من جهاد مستمر للنفس التي يصدها الشيطان عن طاعة الله ويغريها بمعصيته، ويقودها الهوى وشهوات النفس إلى مهالكها. فقد كلف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، البلاغ المبين بوحيه، فلاقى من قومه الصدود والإيذاء، فأرشده تعالى إلى ما يثبته ويسليه، فأمره بالصبر وذكر ربه ليلاً ونهاراً، حتى لا ينصاع لضغوط أعدائه الشديدة عليه ولا يطيعهم في شيء يخالف وظيفته، فقال تعالى له: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)} {الإنسان}
كما أمر أمته بالمجاهدة الكاملة التي يطيقونها، على طاعته، فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ...(78)} {الحج} ووعد سبحانه من قام منهم بهذه المجاهدة بالهداية والتوفيق إلى الطرق التي ترضيه، كما قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} {العنكبوت}
وقد ذكر المفسرون أقوالاً في معنى آية العنكبوت هذه، أشملها ما ذكره القرطبي عن ابن عباس ـما: "وقال عبد الله بن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال" (13/364).
الأمر الخامس: الوعظ المؤثر:
والوعظ هو الكلام الذي تلين به القلوب، مثل خطب الجمعة وغيرها من المواعظ التي تشد السامع وتجعله يقبل إلى الواعظ منتبها لما يسمع ليعقل ما يقوله، وتجعل قلبه يتشرب معاني الموعظة فيلين فعلاً ويطمئن إليها، فيعزم في نفسه إلى العمل بما علم.
ولست أقصد هنا تعليم القارئ بيان أساليب الخطابة والحديث عن الخطباء المؤثرين فلست متخصصاً في الخطابة، وإنما أقصد مجرد الإشارة إلى اهتمام المسلم بما يذكِّره بالله تعالى دائماً، ليمتلئ قلبه بعظمة الله وخشيته والخشوع له، فإذا اهتم بذلك فسيجيد اختيار من يحضر خطبه ومواعظه ومجالسه، ويقطف ثمرة ذلك الحضور.
وأصغ سمعك إلى هذه الآية الكريمة، التي أرشد فيها الله تعالى رسوله إلى قوة التأثير في نفوس فئة من الناس لا تستقيم على منهاج واضح في حياتها، فلا إيمان صادق، ولا كفر صريح، وإنما هو نفاق ملتوٍ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وما أكثرهم في كل زمان، وما أعظم ضررهم على هذه الأمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)} {النساء}
تأمل كيف وصفهم الله تعالى لرسوله، وتأمل خطاب الله تعالى لنبيه في الجملتين الأخيرتين من الآيات: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} لأن إيصال الحق بالقول البليغ يقطع شبههم ويبالغ في إقامة الحجة عليهم فقد يؤثر ذلك في بعضهم فيؤوب إلى الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)} {المائدة} قال ابن كثير رحمه الله في معنى {قُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ...} "{ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }: أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم"..
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} أي: انصحهم سراً بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه، وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا، ويبالغ في وعظه بما يظن حصول المقصود به".
ولقد طلب موسى من الله تعالى أن يرسل معه أخاه هارون، ليبلغ معه فرعون وقومه؛ لأنه أوضح منه بياناً وأكثر فصاحة، والكلام الفصيح أكثر تأثيراً في المخاطبين من غيره: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34)} {القصص} لأنه كان يعلم أن عدوه قد يستغل ضعف فصاحته، ويعيبه به، وقد ذكر الله تعالى عن فرعون قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52)} {الزخرف}
ولا بد مع فصاحة الخطيب أو الواعظ، أن يكون قدوة حسنة للسامعين، يرون فعله مطابقاً لقوله كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} {الأحزاب}.
وقال تعالى عن نبيه شعيب الذي لقبه بعض المفسرين بخطيب الأنبياء، قال عنه وهو يخاطب قومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)} {هود}
وقد كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، عظيم التأثير في أصحابه، يجعل قلوبهم ترتعد خوفاً ووجلاً من ربهم، وعيونهم تدمع من قوة الأسلوب البليغ الذي يخاطبهم به، وسمو المعاني التي تتغلغل في قلوبهم، كما في حديث العرباض بن سارية قال: "وَعَظَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، مَوْعِظَةً بليغةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون، فقُلْنَا: يا رَسولَ اللَّه كَأَنَهَا موْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا... الحديث" {سبق تخريج الحديث وكلام ابن رجب عليه.}
الأمر السادس: مصاحبة الخاشعين:
ومعلوم هو أثر مصاحبة القرين الصالح فيمن يصاحبه، وقرين السوء فيمن يجالسه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)} {الفرقان}
وقال عز من قائل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} {الزخرف}
وروى أبو موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة) {البخاري (2/740) و مسلم (16/152).}
قصة حنظلة ومعناها:
ولقد كان بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكثرة مصاحبتهم له، ولشدَّة تأثرهم بوعظه لهم وخشوعهم لربهم بسبب ذلك، يخافون على أنفسهم من النفاق إذا فقدوا ذلك الخشوع عندما يخرجون من عنده.
وتأمل قصة حنظلة وأبي بكر الصديق في شكواهما ذلك إليه صلى الله عليه وسلم، قال حنظلة: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا فذكر النار، قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر. فذكرت ذلك له. فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة، فقال: (مه) فحدثته بالحديث. فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال: (يا حنظلة! ساعة وساعة. ولو كانت ما تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر، لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق). وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن، يا حنظلة! ساعة وساعة) ثلاث مرات.{مسلم (17/58).}
تفسير أهل الفسق لحديث حنظلة!
نعم! ساعة وساعة، ومن الصعب على الإنسان مهما بلغ إيمانه أن يكون على حالةٍ واحدة من خشية الله والخشوع له في كل أحيانه إلا أن يكون معصوما، كرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن على المؤمن أن يتعاهد نفسه بذكر الله تعالى ويتذكر عظمته، حتى لا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه كما قست قلوب الأمم قبله، فساعة في ذكر الله والخشوع له، وساعة في الترويح عن نفسه بالمباحات، لا في المكروهات والمحرمات. وما هي ساعة حنظلة وأبي بكر التي شكَوَا منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إنها في السعي في الرزق وفي المعاشرة الحسنة للأزواج وفي ملاعبتهن ومضاحكة الأولاد التي تنفعهم، وهي من الأعمال المباحة التي يؤجر عليها، لما فيها من إدخال السرور على الأهل والأبناء، ولاسيما الأطفال!
ولقد صدق إبليس ظنه على حزبه الذين اتبعوا خطواته، وانغمسوا في فجوره وفسقه من كثير من ذراري المسلمين الذين أراد الله لهم الطهر والتزكية، وأرادوا لأنفسهم ولمن أضلوهم من أوليائهم من التدنيس والتدسية، غير ما أراده الله لهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً(27)} {النساء}
هؤلاء الذين يبيتون يجاهرون الله بالمعصية في المراقص والمسارح، وعلى شاشات الفضائيات يختلط فيها رجالهم ونساؤهم عارية أبدان نسائهم من الألبسة الساترة للعورات، فارغة قلوبهم من خشية الله وتقواه، يتعاطون من المنكرات ما يسخط الله ورسوله والمؤمنين، يحملون قول الرسول صلى الله عليه وسلم لحنظلة: (ساعة وساعة) على ساعات فسقهم وفجورهم الذي يجاهرون الله به من معاصيه.
ومن عجب أن يستدلوا على فسقهم بهذا الحديث، ويغير بعضهم معناه، فيقول: "ساعة لربك وساعة لقلبك" إن الله تعالى يقول في كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم، قولا يبلغ به أمته، اليجعلوا ساعات أعمارهم كلها لله تعالى، كما قال عز وجل: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام] وهم يقولون: "ساعة لقبك وساعة لربك!" فبدلاً من تزكية قلوبهم وتطهيرها بطاعة الله وذكره وخشيته والخشوع له، يدنسون تلك القلوب بالأدناس والشهوات المحرمة والأرجاس، فتمضي غالب ساعات أعمارهم للشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوى المردي، في غفلة دائمة عن الله وهجر مستمر لكتابه وذكره، وغالب لهوهم ولعبهم يقضونه في أكثر آناء الليل الذي هو محل العبادة والتفكر في خلق السماوات والأرض لأولي الألباب!
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|