شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   الموسوعة الضخمة مواضيع اسلامية هامة جداااااااااااااااااااااااا (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=294)
-   -   دراسة : المقاصد الشرعية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطالع سور القرآن (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=445712)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 05-24-2023 10:35 AM

دراسة : المقاصد الشرعية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطالع سور القرآن
 
دراسة : المقاصد الشرعية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطالع سور القرآن

عبد المعين محمد الطلفاح



ملخص البحث

عني علماء التفسير منذ القديم ببيان مقاصد سور القرآن وموضوعاته عامة، جاءت هذه الدراسة لتعنى ببيان مقصد القرآن في عدم ترتيب الأحداث مطلع بعض السور فقط، وكان ذلك من خلال الإجابة على الإشكالية الآتية: ما المقاصد القرآنية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطلع سورة الأنفال والحشر والممتحنة؟
وقد سلك الباحث خلال ذلك المنهج الاستقرائي التحليلي، وتوصل إلى جملة من النتائج كان من أبرزها: أن المقصد القرآني في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الأنفال هو تزكية النفوس وتربيتها، وتهذيبيها من شوائب الجاهلية، وأن المقصد القرآني في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الحشر التأكيدُ على خطورة نقض العهود والتلاعب بها، وأن المقصد القرآني في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الممتحنة هو التأكيد على مقصد شرعي يتعلق بعقيدة المسلم، وهو تحقيق الولاء والبراء، وأوصى الباحث مراكز الدراسات القرآنية بالعمل على إخراج موسوعة قرآنية تعنى بذكر المقاصد القرآنية في عدم مراعاة ترتيب الأحداث في سور القرآن عمومًا.
المقدمة

الحمد لله رب العالمين، أرسل رُسلَه بالحق مبشرين ومنذرين، وأيدهم بآيات ومعجزات جعلها دليلَ صدقهم، فاختلف الناس فيها، فكفر أكثرهم ظلمًا وعلوًا، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد الذي أرسله ربه في الأميين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، أما بعد؛
فإن الله سبحانه إذ جعل القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية، وجعل شريعة نبيّه محمد ﷺ الشريعة الخالدة، الناسخة لما قبلها من الشرائع؛ فإنه قد حفظ ذلك الكتاب من التحريف الذي أصاب الكتب قبله، وقيَّض لشريعة نبيّه ﷺ من يحفظها، ويظهر للناس في كل زمان ومكان ما تضمنته من مقاصد وغايات تحقيق لهم المصالح، وتدرأ عنهم المفاسد، وقد تنوعت تلك المقاصد بين مقاصد كليّة وجزئيّة، وعامة وخاصة، انبرى علماؤنا الفحول لبيان ذلك وتفصيله، وكان مما بيَّنوه ما تضمنه كتاب الله سبحانه وتعالى خاصة من حكم ومقاصد، سهَّلت على القارئين له فهمه وتدبره.
وجاءت هذه الدراسة لتخطو خطوة أخرى في بيان شيء من تلك المقاصد القرآنية، ولكن من جانب آخر، ربما لم يُخصَّ بالدراسة والبحث من قبل، وقد وسمها صاحبها بـ: (المقاصد الشرعية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطالع سور القرآن “الأنفال والحشر والممتحنة نموذجًا”) راجيًا من الله سبحانه التوفيق والسداد، داعيًا إيَّاه أن يرزقني الإخلاص، ويمنَّ عليَّ بالتوفيق والقَبول.
إشكالية البحث

ما يزال موضوع عدم مراعاة الأحداث في ترتيب كثير من سور القرآن محل سؤال واهتمام الباحثين، وما يزال هذا الموضوع بحاجة لدراسة وجهود كبيرة لبيان المقاصد والغايات في عدم ترتيب تلك الأحداث ترتيبًا زمنيًا. تأتي هذه الدراسة فتتناول بالدراسة والتحليل عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الأنفال والحشر والممتحنة وبيان المقاصد الشرعية وراء ذلك.
أهداف البحث

يريد الباحث من وراء بحثه تحقيق جملة من الأهداف من أبرزها ما يأتي:
تطبيق المنهجية العلمية التي وضعها علماء المقاصد أمثال ابن عاشور وغيره في استخراج المقاصد الشرعية في بعض سور القرآن.
الكشف عن المقاصد الشرعية من وراء عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الأنفال والحشر والممتحنة.
لفت أنظار الباحثين في علوم القرآن الكريم إلى مراعاة مثل هذه المقاصد في سور القرآن كله.
أهمية البحث

تأتي أهمية هذا البحث من خلال ما يأتي:
أنه يقدم إجابة علمية على أسئلة المتأملين في القرآن الكريم في عدم ترتيب الأحداث مطلع بعض سوره وفق تسلسل أحداثها.
في أنه يعتبر خطوة في طريق الكتابة في مثل هذا الموضوع المقاصدي في القرآن الكريم.
منهجية البحث

سلك الباحث المنهج الاستقرائي التحليلي للوصول إلى معرفة المقصد في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع السور التي اختارها، حيث وقف على أقوال العلماء في أسباب نزول تلك السور، ثم درس تلك الأقوال، وقارن بينها حتى وصل إلى معرفة المقاصد في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلعها، واستدلَّ على تلك المقاصد بعدد من الآيات والأحاديث والأحداث، ثم وصف تلك المقاصد وصفًا محددًا.
الدراسات السابقة

تعددت الكتابة فيما يتعلق بمقاصد القرآن، وأعظم تلك الكتابات التفاسيرُ التي اعتنى أصحابها بذكر مقاصد السور، والتي تسمى: (التفاسير المقاصدية).
فمن تفاسير المتقدمين: تفسير الإمام الرازي (ت: 606 هـ) المسمى: (مفاتيح الغيب)، والذي طبع الطبعة الثالثة في بيروت، دار إحياء التراث العربي،1420، وتفسير الإمام البقاعي (ت: 885 هـ) المسمى: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) الذي طبعته دار الكتاب الإسلامي، في القاهرة.
ومن تفاسير المتأخرين: (تفسير القرآن الحكيم المعروف بـ تفسير المنار) لمحمد رشيد رضا (ت: 1354 هـ)، والذي طبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، عام:1990. وتفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب (ت: 1386 هـ)، الذي طبعته الطبعة الأولى دار الشروق في القاهرة، عام: 1972، وتفسير ابن عاشور (ت: 1393 هـ) المسمى: (التحرير والتنوير)، الذي طبعته الدار التونسية للنشر، في القيروان، عام: 1984.
ومع تنوع الكتابة في مقاصد القرآن الكريم؛ فإن الباحث لم يعثر -في حدود بحثه- على من كتب في المقاصد الشرعية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطلع بعض السور خاصة، إلا أن الباحث قد وقف على بعض الدراسات المعاصرة التي قد تكون قاربت موضوع دراسته، ومن تلك الدراسات:
كتاب بعنوان: علاقة المطالع بالمقاصد في القرآن الكريم دراسة بلاغية نظرية تطبيقية، إبراهيم صلاح الهدهد (القاهرة: مكتبة وهبة للطباعة والنشر، ط 1، 2019) يتناول المؤلف الحديث عن مطالع سور القرآن وعلاقتها بالمقاصد من وجهة بلاغية، دون الحديث عن مقاصد عدم ترتيب الأحداث في مطالع السور الذي تعنى به هذه الدراسة.
بحث بعنوان: أسلوب التقديم والتأخير في القرآن الكريم، دراسة بلاغية في سورتي هود وطه، محمد الصالح بوضياف، مجلة المقري للدراسات اللغوية النظرية والتطبيقية (جامعة محمد بوضياف، الجزائر) م3، ع6، 2020، إلا أن الدراسة تناولت التقديم والتأخير من ناحية بلاغية كما هو واضح في عنوانها، الشيء الذي يجعلها مختلفة عن دراستي التي تعنى ببيان المقاصد الشرعية وليس البلاغية.
مقال بعنوان: المطالع والمقاطع وأثرها في الكشف عن مقاصد السور، سعيد بوعصاب (جريدة المحجة، المغرب) ع/490، 2018، وهو مقال مقتضب يشير فيه الباحث إلى أن ثمت مقاصد لمطالع السورة عمومًا؛ إلا أنه لم يذكر خلال ذلك إلى أن ثمت مقاصد شرعية في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع بعض السورة.
ويأمل الباحث أن تكون دراسته هذه بداية للكتابة في بيان المقاصد الشرعية في عدم ترتيب الأحداث في سور أخرى من سور القرآن، أو في كل سور القرآن الكريم.
تمهيد

إنَّ مما لا يخفى على العاقل فضلاً عن المسلم أن الله تعالى لم يخلق الخلق ويرسل الرسل ويشرع الشرائع لهوًا وعبثًا، وكيف يكون ذلك وهو القائل سبحانه: :{ أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ } [المؤمنون: 115] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] بل إنه سبحانه ما أوجد شيئًا من ذلك إلا لحكم وغايات ومقاصد عرفها من عرفها، وجهلها من جهله، وهذا الذي يتوافق مع أسمائه الحسنى: { إنه هو العليم الحكيم } (يوسف : 100)، ولذا كانت تلك المقاصد والغايات حاضرة في أذهان أصحاب رسول الله ﷺ، في كل أحوالهم وشؤون حياتهم، في حلهم وترحالهم، وفي سلمهم وحربهم، وفي أقضيتهم وفتاواهم، وقد ذكر ابن عطية (ت: 542 ه) أن ابن عباس رضي الله عنه أفتى السائل: أن ليس لقاتل المؤمن توبة، ولـمَّا سُئل عن ذلك من أصحابه قال: “إني رأيته مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا؛ فسددت الطريق عليه”([1])، وكذا كانت المقاصد حاضرة في أذهان أصحاب رسول الله ﷺ كلهم.
ثم لـمَّا بدأت علوم الشريعة بأقسامها كلها تأخذ طريقها للجمع والتدوين؛ كان علم المقاصد حاضرًا بينها، شأنه شأن أي علم منها، ألَّف فيه السلف كما ألَّفوا في غيره، وكان من أوائل من كتب عن مقاصد الشريعة: أبو بكر القفال الكبير المعروف بالشاشي (ت: 365 هـ)، في كتابه: (محاسن الشريعة)، ثم كتاب: (مقاصد الصلاة) للحكيم الترمذي (ت: 320 هـ) وغيرها.
بعد ذلك أخذ علم المقاصد يأخذ طريقه شيئًا فشيئًا إلى كتب أصول الفقه، إلى أن أصبح عند بعض الأصوليين جزءًا من كتبهم، وكان من أوائل من تكلم عن مقاصد الشريعة في كتب أصول الفقه: إمام الحرمين الجويني (ت: 478 هـ) في كتابه: (البرهان في أصول الفقه)، ودرج بعده كثير من الأصوليين على ذلك؛ فذكر الغزالي (ت: 505 هـ) المقاصد في كتبه: (المستصفى، وشفاء الغليل، والكبائر)، ثم ذكرها الإمام فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ) في كتابه: (المحصول)، ثم جاء الإمام الآمدي (ت:631 هـ) فذكرها في كتابه: (الأحكام)، والعز بن عبد السلام (ت: 660 هـ) في كتابه: (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)، وكتابه: (القواعد الصغرى)، أو (الفوائد في اختصار المقاصد)، وذكرها الإمام القرافي (ت: 684 هـ) في كتابه: (الفروق)، والإمام الطوفي (ت: 716 هـ) في كتابه: (التعيين في شرح الأربعين)، وهذا بالإضافة إلى التفاسير التي عنيت بإبراز المقاصد القرآن التي سبق ذكرها في الدراسات السابقة، كتفسير الإمام الرازي (ت: 606 هـ) المسمى: (مفاتيح الغيب)، وتفسير الإمام البقاعي (ت: 885 هـ) وغيرها كثير.
ثم جاء بعدهم الإمام الشاطبي (ت: 790 هـ) الذي يعدُّ المؤسس الحقيقي لهذا العلم، وقد شهره حتى عرف به، وجعل لها كيانًا مستقلًّا، حتى أصبح كتابه: (الموافقات في أصول الشريعة) العمدةَ في مقاصد الشريعة، وظهر في العصر الحديث الطاهر بن عاشور (ت:1393هـ)، فطوَّر هذا العلم وخدمه، حتى لم يعد يذكر علم المقاصد إلا ويذكر معه الطاهر بن عاشور، وقد ألف في ذلك كتابًا مستقلًا سمَّاه: (مقاصد الشريعة الإسلامية)، وقد أعمل هذا العلم في تفسيره للقرآن: (التحرير والتنوير)، وفي غيره من مؤلفاته أيضًا.
المقاصد لغة واصطلاحا

المقاصد لغة: جمع مقصد، وهو مصدر ميمي، مأخوذ من مادة: قصد، وله عدة معانٍ منها: العزم، والتوجه، واستقامة الطريق، والعدل، والاعتدال([2]).
المقاصد اصطلاحًا: عرف ابن عاشور المقاصد الشرعية بأنها: “المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة”([3])، وعرفها أستاذنا الشيخ علي محيي الدين القَره داغي: “بأنها المعاني والحكم والغايات التي أرادها الله في التشريع، والخلق، والتكوين”([4]).
ولـمَّا كانت هذه الدراسة تندرج تحت التفسير المقاصدي للقرآن الكريم؛ فقد خلص الأستاذ وصفي عاشور إلى تعريف التفسير المقاصدي بأنه: “لون من ألون التفسير، يبحث في الكشف عن المعاني والغايات التي يدور حولها القرآن الكريم كليًا أو جزئيًا، مع بيان كيفية الإفادة منها في تحقيق مصلحة العباد”([5]).
المبحث الأول: ترتيب القرآن الكريم ومقاصده.
المطلب الأول: أدلة ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره.
المطلب الأول: أدلة ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره

قسم الباحث هذا المطلب إلى فرعين هما:
الفرع الأول: أدلة ترتيب آيات القرآن

دلَّت نصوص كثيرة، وأجمع أهل العلم قديماً وحديثاً، على أن ترتيب آيات سور القرآن الكريم على النحو الذي هي عليه في مصاحفنا اليوم ترتيبٌ توقيفي، تلقاه رسول ﷺ من جبريل عن الله ﷻ بهذا الترتيب، وليس هو من اجتهاد أحد من الصحابة ولا التابعين. روى تلك النصوص جمع من المحدثين، ونقل الإجماع على ذلك عددٌ من أهل العلم، منهم الزركشي (ت: 794 ه) وأبو جعفر (ت: 708 ه) وغيرهم([6])، ومن النصوص التي دلت على ذلك: قولُ ابن الزبير رضي الله عنه، قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في البقرة: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } [البقرة: 234] إلى قوله: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة: 240] قد نسختها الأخرى فلم تكتبها؟ قال: «تدعها يا ابن أخي، لا أغير شيئًا منه من مكانه»([7]).
ومن ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ما راجعت رسول الله ﷺ في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري فقال”: «يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟»([8]).
كما يدل على ذلك أيضًا قول عثمان رضي الله عنه لابن عباس لما سأله ابن عباس رضي الله عنه: “ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال”؟ فقال عثمان رضي الله عنه: “كان رسول الله ﷺ مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: «ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا نزلت عليه الآية فيقول: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»”([9])، وغيرها كثير من النصوص التي دلَّت على أن ترتيب آي السور ترتيبٌ توقيفي.
قال أبو جعفر: “ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه ﷺ وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين”([10])، وقال الباقلاني: “والذي نذهب إليه في ذلك القولُ بأن جميع القرآن الذي أنزله الله ﷻ وأمرنا بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ويرفع تلاوته بعد نزوله؛ هو هذا الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان رضي الله عنه، وأنّه لم يُنْقَصْ منه شيء، ولا زِيدَ فيه، وأن بيان الرسول ﷺ كان بجميعه بيانًا شائعًا ذائعًا، وواقعًا على طريقة واحدة ووجه تقوم به الحجة، وينقطع العذر، وأن الخَلفَ نقله عن السلف على هذه السبيل، وأنه قد نُسخ منه بعض ما كانت تلاوته مفروضة، وأن ترتيبه ونظمه ثابتٌ على ما نظمه الله سبحانه، ورتبه عليه رسوله ﷺ من آي السور، لم يقدّم من ذلك مؤخرًا، ولا أخّر منه مقدمًا، وأن الأمة ضبطت على النبي ﷺ ترتيبَ آي كل سورة ومواضعها، وعَرَفَت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القرآن وذات التلاوة”([11]).
وقال البغوي (ت: 510 هـ): “كان رسول الله ﷺ يلقن أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبريل صلوات الله عليه إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا، في السور التي يذكر فيها كذا”([12]).
وقال ابن عاشور في ذلك: “ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور، ولا أثر عنهم إنكار، أو اختلاف فيما جمع من القرآن؛ فكان موافقًا لما حفظته حوافظهم”([13]).
الفرع الثاني: أدلة ترتيب سورة القرآن

إذا كان أهل العلم قد أجمعوا على أن ترتيب آي القرآن توقيفيٌّ من الله ﷻ ورسوله ﷺ؛ فإنهم قد اختلفوا في ترتيب سوره، بين قائل إنه توقيفي أيضًا كترتيب الآيات، وهو مذهب جمهور أهل العلم([14])، ومن قائل إنه توفيقيٌّ من اجتهاد الصحابة، وقد كان لكل فريق من الفريقين أدلته على ما ذهب إليه، فمن قال إن ترتيب سور القرآن ترتيب توقيفيٌّ استدلَّ بأدلة منها قوله ﷺ: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل»([15]) قال أبو جعفر: فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي ﷺ([16])، كما استدلوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه “بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء؛ إنهنّ من العتاق الأول، وهنّ من تلادي”([17])، فقد ذكرها ابن مسعود نسقًا كما استقر ترتيبها في المصحف.
ومما استدلَّ به أصحاب هذا الرأي لرأيهم أيضاً: أن المناسبات بين السور لا تقل عن النظم، ووجه ارتباط الآيات بعضها ببعض في السورة الواحدة، قال الزركشي: “لترتيب وضع السور في الحواميم، وثانيها: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى، وأول البقرة، وثالثها: للوزن في اللفظ، كآخر «تبّت» وأول الإخلاص، ورابعها: لمشابهة جملة السورة مثل: {والضحى} و{ألم نشرح}”([18]).
واستدلَّ الفريق الآخر -ومنهم الإمام مالك([19])– على قولهم بأن ترتيب السور توفيقيٌّ كان من اجتهاد الصحابة؛ بأنَّ مصحف عليٍّ رضي الله عنه كان مرتبًا حسب نزول السور، فأوله اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، وهكذا، وكذا كان ترتيب مصحف ابن مسعود رضي الله عنه، فقد كان مختلفًا في ترتيبه عن الترتيب الأخير الذي جمعه أبو بكر رضي الله عنه ([20]) .
وللعلماء تفصيلات كثيرة في ذلك وتقسيمات، يرجع إليها في مظانها([21]).
ويرجح الباحث رأي جمهور العلماء القائل بأن ترتيب سور القرآن ترتيب توقيفي شأن ترتيب آياته؛ لما دلت عليه كثير من الأدلة الصحيحة مما ذكره ومما لم يذكره، ولـمَّا لم تكن هذه الدراسة مخصَّصة لتفصيل هذا الأمر؛ اقتصر الباحث على ما ذكر سابقًا، وأحال إلى بعض المراجع لمن أراد التوسع.
المطلب الثاني: طرق إثبات مقاصد الشريعة الإسلامية

لم يؤلف علماء السلف في طرق إثبات المقاصد الشرعية واستخراجها كما فعل المتأخرون، ويعتبر الإمام الشاطبي أول من فصَّل في ذلك نظريًا، فبعد أن تكلم عن مقاصد الشريعة بشيء من التفصيل والتحليل؛ جعل لطرق استخراجها مبحثًا خاصًا، بدأه بالحديث عن علاقة مقاصد الشريعة بالنصوص، وبيَّن مواقف المذاهب من مقاصد الشريعة، حيث وقف على مذهب من اكتفى بظواهر النصوص ولم ينظر للعلل والغايات منها، وهم الظاهرية، ووقف على من أهمل ظواهر النصوص وقال إن لها ظواهر وبواطن، ووقف على تلك البواطن فقط، وهم الباطنية، ثم وقف -رحمه الله- على المنهج الوسط في ذلك الذي يحافظ على النص ومعانيه في منهج توافقي لا يسمح لأحد الجانبين أن يطغى على الآخر، وبعد ذلك ذكر أربعة مسالك لاستخراج مقاصد الشريعة([22]).
ولـمَّا كانت دراسة الشاطبي لذلك أشبه بالدراسة المؤسِّسة لاستخراج مقاصد الشريعة؛ وضع مَن جاء بعده من العلماء بعضَ الملاحظات على ما ذكره، ومن ذلك قولهم: “إن دراسته جاءت مجملة غير محيطة إحاطة كاملة بالموضوع، فهي مع إمكان اعتمادها أساسًا لدراسة هذا الموضوع؛ تبقى في حاجة إلى تفصيل وتمحيص وزيادة، وهو ما سعى إليه محمد الطاهر بن عاشور وآخرون بعد ذلك”([23]).
وقد ذكر علماء المقاصد بعد الشاطبي أيضًا الطرق التي يتم بها الكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية أو إثباتها، واختلفوا في ترتيب تلك الطرق، وذلك حسب نظرة كلٍّ منهم إلى أهمية ما قدَّم، ولـمَّا كان ابن عاشور رائدَ هذا العلم في هذا العصر، وهو الذي طوَّر هذا الصرح العظيم بعد أن وقف على كتب من سبقه في ذلك، ولا سيما الشاطبي منهم؛ آثر الباحث أن يذكر الطرق التي ذكرها ابن عاشور، التي يتوصل بها إلى إثبات مقاصد الشريعة، أو استخراجها، وهي كالآتي:
أولاً: الاستقراء وهو أعظمها، ويعني به استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين:
استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآيلُ إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة، ليحصل من ذلك يقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع، مثاله: استخراج مقصد إبطال الغرر في المعاوضات بعد تتبع الأخبار التي ورد النهي فيها عن الغرر.
استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع.
ثانياً: الاستخلاص المباشر لمقاصد الشارع من ظواهر النصوص القرآنية الواضحة الدلالة، إلى درجة يضعف فيها احتمال كون المراد منها غير ظاهرها، وأعلى المقاصد التي تستنبط من هذا الطريق التي تؤخذ من نصوص تجتمع فيها قطعية الثبوت، مع قوة الظهور، إلى درجة تقترب من اليقين.
ثالثاً: الاستخلاص المباشر من السنة المتواترة ، وهو على قسمين:
من السنة التي حصل تواترها المعنوي من مشاهدة عموم الصحابة عملًا من أعمال النبي ﷺ فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين، وهو الطريق الذي تثبت منه المعلومات من الدين بالضرورة.
تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله ﷺ بحيث يستخلص من مجموعها مقصدًا شرعيًا([24]).
المطلب الثالث: أهم مقاصد القرآن الكريم

لـمَّا كانت هذه الدراسة مخصصة لذكر المقاصد التي تتعلق ببعض السور القرآنية؛ آثر الباحث أن يذكر مقاصد القرآن خاصة، وذلك بعد أن عرَّف بطرق الكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية عامة، ولا شكَّ أنَّ القرآن الكريم قد أُنزل لمقاصد أساسية، وأغراض جامعة، بينها الله للناس، ووجههم إليها، وحثهم على إقامتها ورعايتها، ولهذا نجد العناية بهذه الأغراض والمقاصد تتكرر في عامة سور القرآن وأجزائه وآياته. كذلك فإن للقرآن استعمالاته المطردة، وعرفه الخاص في الألفاظ والأساليب، ولذا فإن مراعاة هذه الاستعمالات هي المدخل لفهم القرآن فهمًا سليمًا، وتسديد المفسّر حتى لا ينجر إلى معانٍ بعيدة عن مقاصد القرآن الكريم.
يُراد بمقاصد القرآن: “المعاني الملحوظة في جميع القرآن ومعظم أحكامه”([25])، ويمكن التعرف على مقاصد القرآن الكريم من خلال مسلكين هما:
المسلك الأول: ما جاء التنصيص عليه في القرآن نفسه من وظائف وأوصاف وتعليلات لهذا الكتاب الكريم، وما أنزل لأجله، وما يتحقق بتلاوته واتباعه من فوائد وآثار.
المسلك الثاني: استقراء مضامينه وأحكامه التفصيلية، واستنباط العناصر المشتركة الجامعة لما يركز عليه ويدعو إليه([26]).
وقد عني العلماء بذكر مقاصد القرآن وأغراضه الأصلية، وبذلوا وسعهم في استقصائها واستقرائها، والتأكيد على أهمية العناية بها واستحضارها في الفهم عن الله ومعرفة مراده، فقد بين الشاطبي أن من أسباب الانحراف في التفسير والفهم عدمَ الالتفات إلى مقاصد القرآن فقال: “قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد:24]، فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن، فلم يحصل منهم تدبر”([27]).
وأكّد ابن عاشور على أهمية استحضار مقاصد القرآن عند النظر في نصوصه فقال: ” فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين، وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابًا بينًا، وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌۭ لِّيَدَّبَّرُوٓا۟ ءَايَـٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ } [ص: 29] أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها”([28]).
واعتبر -رحمه الله- أن مقاصد القرآن يجب أن تكون هدف المفسر، ومحور اهتمامه في تفسيره، فقال: “فغرض المفسِّر هو بيان ما يصل إليه، أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه، بأتم بيان يحتمله المعنى، ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلًا وتفريعًا … فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله”([29]).
وعلى هذا الأساس انتقد الشيخ رشيد رضا (ت: 1345 هـ) إغراق بعض المفسرين تفاسيرهم باستقصاء الروايات والآثار ذات الصلة القريبة والبعيدة بتفسير الآية، مما يشغل ويصرف عن المقاصد الكلية، والأغراض الأساسية للقرآن؛ فقال –رحمه الله-: “أكثر ما روي في التفسير المأثور، أو كثيره حجاب على القرآن، وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول، فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات، التي لا قيمة لها سندًا ولا موضوعًا… فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة في وصفه، وما أنزل لأجله من الإنذار والتبشير والهداية والإصلاح”([30]).
وممن اعتنى باستقراء مقاصد القرآن وحصرها: الغزالي(ت: 505 هـ) ([31])، والعز بن عبد السلام (ت: 660 هـ)([32])، والبقاعي(ت: 885 هـ) ([33])، وعقد الشيخ رشيد رضا فصلًا في تفسيره لبيان مقاصد القرآن، وذلك عند تفسيره أول سورة يونس([34])، وخصص الطاهر بن عاشور المقدمة الرابعة من مقدمات تفسيره لبيان مقاصد القرآن([35]) ، وقد بلغت المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها -حسب استقراء ابن عاشور- ثمانية مقاصد هي:
إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح.
تهذيب الأخلاق.
التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة.
سياسة الأمة وصلاحها وحفظ نظامها.
القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم، وللتحذير من مساويهم.
التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار.
المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير.
الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول ﷺ ([36]).
المبحث الثاني : المقاصد الشرعية في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع بعض السور

المطلب الأول: المقصد الشرعي في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الأنفال

يتبع





المصدر...


الساعة الآن 03:39 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM