شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   الحياة الطيبة في الكسب الحــلال (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=256307)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 03-17-2016 12:39 AM

الحياة الطيبة في الكسب الحــلال
 
الحياة الطيبة في الكسب الحــلال
حسن السبيكي



الخطبة الأولى
يقول الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة 168).
لله الحمد على فضله العظيم وقد ارتضى لنا الإسلام دينا، وأكرمنا فيه بأنوار الفطرة والعقل والوحي، ليخرجنا من ظلمات الجهل والجهالة والضلال، الى أنوار الهداية والرشاد. وتكرم في شرعه الحكيم بما يفتح الآذان الصم، والقلوب الغلف، والأعين العمي، على دعوة الحق التي ليست الا في هذا الدين. وضمن للأمة الإسلامية بين الاوامر الشرعية والنواهي، معالم الاستقامة على الحق والعدل وأسس الحياة الطيبة في الدنيا الفانية، والفوز بالرضا والرضوان في الآخرة الأبدية.

ومن أجل تحقيق الحياة الطيبة التي تليق بكرامة الأمة الإسلامية، وتزكيتها وتطهيرها ظاهراً وباطناً من الرجس والخبائث، فقد فصلت شريعة الله كل شيء من أمور الحلال والحرام، ووضعت القواعد والضوابط وبينت الحدود، وليس ذلك مجرد أحكام وكفى، بل يترتب عليها الثواب أو العقاب، إذ جعل الله - تعالى -الحلال طريق مرضاته ومسلك طاعته، وأساس الحياة الطيبة التي تليق بالمؤمنين وبكرامة الانسان عموما. وكان طريق الحرام مؤديا الى سخط الله - تعالى -، وهو مسلك الحياة الخبيثة التي لا ترضي الا الشيطان. وهل يستوي الخبيث والطيب؟ والله - تعالى -يقول: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة 100).
فربنا - سبحانه - طيب لا يقبل الا طيبا، ويحب للمؤمنين الحياة الطيبة في كل شيء من أحوالهم: لتكون القلوب طيبة بطيب المشاعر والنوايا، وتكون العقول طيبة بطيب الافكار وسديد النظر، وتكون الجوارح طيبة بطيب الأقوال والأفعال على أساس من مكارم الاخلاق وجميل الطاعات والقربات وفعل الخيرات.
وكما لا يستوي الخبيث والطيب في كل شيء إطلاقا، فانه لا تستوي الحياة الخبيثة القائمة على الحرام كسبا وإنفاقا، والحياة الطيبة القائمة على الحلال في الكسب والتدبير، فلا عبرة بكثرة الخبيث،؛ لأنه لا تتأسس عليه الا الحياة الخبيثة مهما كثر وأغرى. وهذه حقيقة لا يفقهها الا أولو الألباب من المؤمنين الذين يختارون ما اختاره الله لهم ويلزمون حدوده، وهم المتقون الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، وعاشوا على الطيبات طيبيـن. يصدق عليهم قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: (( إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ ‏كَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِد)) (رواه احمد).
إن أكثر الناس يجهلون عواقب الكسب الحرام وهي وخيمة، عاجلة وآجلة، على الفرد والمجتمع والأمة، هم يعانون منها، وما احوال الاضطرابات والازمات والكوارث والصراعات ومآسي الاجرام والأمراض المزمنة وانتشار المناكر، إلا من آثار المكاسب المحرمة ودوافعها التي سادت وانتشرت واستهان الناس بها. بل أصبحت مجالات للعمل والمتاجرة والاستثمار وميادين للترويح والترفيه، وأصبحت موارد الحرام من بين مواد الاشهارات الاستهلاكية وفي القروض الربوية وأشكال القمار والميسر الظاهرة والخفية، ومختلف المسابقات التنافسية غير المشروعة. وذلك بما تخفي من أساليب الغش والتدليس واستدراج الغافلين والطامعين للوقوع في الحرام من أجل كسب أو اقتناء بضاعة أو نيل جائزة مغرية بالقمار.
هذا إلى جانب المتاجرة في الخمور والمخدرات والسجائر، والاستثمار في أوكار الفواحش وغيرها كثير. وقد بلغت حالنا، ولا شك، العهد الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)) (البخاري).
ولقد التبست المحرمات على الناس وتموهت بأسماء مغرية ماكرة تخفي حِرمتها: فالربا فوائد، والخمر مشروبات روحية، والرشوة حلاوة، والمسكرات منشطات، والزنا حرية جنسية، والقمار مسابقات وحظوظ.. وهكذا أضحت حياتنا العصرية ملغومة بدواعي السقوط في الحرام كسبا وإنفاقا واستهلاكا. وترتب على ذلك بالألفة والاعتياد، أن أصبح كثيرون على أحوال من الاستهتار والمجاهرة والتحدي، لا يبالون ولا يتحرجون، وقد يتباهون في ذلك، دون وازع من دين ولا ضمير، بل إن بعضهم يفترون على الله فيجعلون الحرام حلالا، أو الحلال حراماً غير مبالين بقوله - تعالى -: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس59). وقوله - تعالى -: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل 116).
إن العيش على المكاسب المحرمة من أي مصدر، أو في أي مجال، ومن أي طريق كان، ليس له ما يسوغه لأهله سوى الجهل بالدين، او الاستهتار بالحدود الشرعية، وبالعواقب السيئة في الدين والدنيا والآخرة، فماذا يكون حال ومآل من يقيم عيشه على ذلك، فإذا هو يلوث بالحرام حياته كلها! وذلك يعني تأسيس الأسرة بالحرام، وتأثيت البيت بالحرام، وتنشئة الأبناء واعالتهم وتعليمهم بالحرام، فماذا يتنظر من شجرة تُستنبت في أرض خبيثة بغذاء خبيث، إلا ان تكون الثمار خبيثة، ثم يكون قد جنى على نفسه وأهله من حيث لا يدري! فأين العقلاء؟، كذلك يقتحم كثير من الناس المكاسب المحرمة مستهينين، أو مترخصين بالأعذار الواهية، ثم يشتكون من آثارها السيئة مستنكرين: (ومنْ يَتعدَّ حُدودَ اللهِ فَقد ظَلمَ نَفسَه)، فالحياة الملوثة بخبائث الحرام، لا يمكن أن تكون طيبة، ولا يهنأ أصحابها بالاستقرار النفسي والاجتماعي، طبقاً للقاعدة الإلهية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه 124.
إن لنا في النبي الكريم أسوة حسنة في كل خير، ثم في صحابته الاخيار، وقد كانوا على بالغ التقوى والورع في اتقاء الحرام، ولو كان في حبة تمـر أو لقمة طعام، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة؛ فألقيها)) (رواه الشيخان). وهذا ابو بكر الصديق -رضي الله عنه- يأتيه غلام له بطعام فيتناول منه لقمة، ثم يسأله من أين؟ فلما ارتاب من مصدر الطعام قَالَ: "إِنْ كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي" ثم أخذ يعالجها بشدة حَتَّى رَمَى بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ، قَالَ: " لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إِلا مَعَ نَفْسِي لأَخْرَجْتُهَا، فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ))، وهذا سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له؛ ليكون مستجاب الدعوة، فأجابه النبي الحكيم اجابة تربوية بالتزام الكسب الحلال: ((يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما)) (رواه الطبراني بسند ضعيف).
فالمسلم العاقل هو من يحاسب نفسه في دنياه قبل حساب يوم القيامة، حيث يقف بين يدي الله وقفة المساءلة المصيرية، كما أخير الصادق الأمين: ((لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عنْ أربع ٍ عنْ عُمُرِهِ فيما أفناهُ، وعنْ جسدِه فيما أبْلاهُ، وعنْ مالهِ مِنْ أيْنَ اكتسبه وفيما أنْفَقَهُ، وعنْ عِلمِهِ ماذا عَمِلَ بهِ)) (الترمذي). وهل يغني يومئذ متاع الدنيا الذي اكتنزه صاحبه واستمتع به إذا كان سبباً للحرمان من الجنة واستحقاق النار؟، وهل يليق بالمسلم ان يجهل او يتجاهل ما أخبر الله به وحذر في القرآن من مثل حال الكافرين الذين أضاعوا نعيم الآخرة بمتاع الدنيا الفانية: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) (الاحقاف 20). ذلك أنهم عاشوا دنياهم يأكلون ويتمتعون لا يبالون: (والذين كَفروا يَتمَتّعونَ ويأكُلونَ كَما تأكلُ الانعامُ والنّارُ مَثوىً لهُم).
فاتقوا الله يا أهل الإيمان واحذروا الحرام كسباً وإنفاقاً وتداولاً، وتحروا سبل الحلال، تسلموا من ويلات الحرام وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة، واحذروا الإغراءات والدسائس ومكر الماكرين، فلا تتبعوا في المحرمات خطوات الشيطان بتهوين شيء منها مهما قلّ، فإن معظم النار من مستصغر الشرر، وتيقظوا واستنيروا بكتاب الله وسنة رسوله على خشية لله ورجاء، واستعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين. واذكروا حديث النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ، حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ)) (الترمذي).
اللهم اغننا بحلالك عن الحرام ما ظهر منه وما بطن، واحينا الحياة الطيبة التي ترضيك وترضى بها عنا.
الخطبــة الثانيــة:
روى الامام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إن الله - تعالى -طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وإن الله - تعالى -أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعَث أغبَر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك)) رواه مسلم.
جدير بكل مسلم يعلم ما بينه وبين ربه، وما ينتظره ليوم القيامة، أن يتقي الله ويتحرى الكسب الحلال، وإلا فماذا تنفع أعماله التعبدية كلها وأعمال البر والقربات، إذا تأسست حياته كسباً وإنفاقا على الحرام؟ فانظروا الى معاني الحديث النبوي كيف يأمر بالتزام العيش على الطيبات والعمل الصالح، وكيف يصور خيبة الداعي الذي توفرت له شروط الاستجابة بحاله: ((يطيل السفر أشعث أغبر)) لكنه حُرم الاستجابة بكسبه الحرام: ((مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
فيا أيها المؤمنون احذروا أن يفتنكم بريق الحرام، مهما كانت الدواعي والدوافع والاغراءات، فإنه خبيث لا تحمد عواقبه، وما جعل الله فيه خيراً ولا نفعاً ولا شفاءً، بل كيف يرضى العاقل أن يحيا على الحرام، منتهكا حرمات الله - تعالى -، ثم يقبل عليه بالعبادات والدعاء والقربات! ولقد نهى الإسلام عن الكسب الحرام وشدد فيه الوعيد؛ لأنه شؤم وبلاء على صاحبه، فبسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، وتمنع إجابة الدعاء، لا يقبل الله - تعالى -منه عملاً، فلا هو على البر يؤجر، ولا على النفع يشكر، بل إن وبال الكسب الحرام يكون على الأمة كلها، فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق من سرقة وغصب ورشوة وربا وغش واحتكار وتطفيف للكيل والميزان وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل وشيوع الفواحش، والواقع شاهد على ذلك فيما يعاني واقع المسلمين.
فيا أخي المسلم، أطب مكسبك تكن مقبول العمل عند الله، وأطب مكسبك تكن مستجاب الدعوة، وأطب مكسبك تعش حياة طيبة ترضي الله وترضيك ويرضى بها عنك، ومنطلق كل ذلك هو التزام شرع الله منضبطاً بالأوامر والنواهي، متحلياً في مساعي كسبك وعيشك بالصدق والإخلاص والأمانة والإحسان والنزاهة والتعفف والورع.
وإياك ثم إياك أن تمد يدك إلى ما ليس لك بحق، فإن النبي الأمين قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله، قال: وإن كان قضيبا من أراك)) (رواه مسلم).
واعلم أن من دلائل التوفيق وأمارات السعادة والفلاح أن يكف المرء عما حرم الله من المكاسب الخبيثة والمحرمات المعلومة، وأن يتورع عما فيه شبهة، حرصاً على سلامة دينه وصيانة عرضه.. (واتّقوا يوماً تُرجَعونَ فيهِ إلى اللهِ ثمّ تُوفّى كلُّ نفسٍ ما كَسَبتْ وهُم لا يُظلَمونَ).
جعلنا الله جميعاً ممن ( يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب).






المصدر...


الساعة الآن 07:49 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM