شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   فإني أجيب دعوة الداع (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=254789)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 03-14-2016 05:03 AM

فإني أجيب دعوة الداع
 
فإني أجيب دعوة الداع


الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع





﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ






خطبة




إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.



أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون حق تقاته، واعلموا أن الله جل وعلا ذو المن العظيم، أنه سبحانه يمن على عباده ويمنحهم من أنواع النعم ما لا يُعد ولا يُحصى، وإن من أعظم النِّعم التي يمن الله جل وعلا بها على عباده أن يهيِّئ لهم سبل الخيرات، وأن يبلغهم الطرق الموصلة إلى رضوانه وجنته، ولا ريب أيها الإخوة الكرام أن شهر رمضان بما فيه من أنواع الخيرات والبركات، وما يُهيئ الله فيه من السُّبل الموصلة إلى جنته ورضوانه - نعمةٌ عظيمة، ومنحةٌ جليلة، إنما يُبادر إليها من وفقه الله إلى الخير؛ ذلك أن الأجور في هذا الشهر العظيم أجورٌ مضاعفة، وفرص الخير كثيرةٌ متوالية، ولكم أن تتأملوا في حال اثنين من الصحابة رضوان الله عليهم، كانا رفيقين في أمورهما ومبادراتهما في الخير، وفي جهادهما في سبيل الله، وقد قدر الله على أحدهما أن يكون ممن يحضر القتال في سبيل الله، وأن يكون ممن مات في خوض هذه المعركة، جهادًا في سبيل الله جل وعلا، ثم إن صاحبه بقي من بعده عامًا كاملاً، ثم توفي من بعده، فرُئِي الاثنان في المنام، ورئي الذي توفي آخرًا ولم يُتوفَّ مقاتلاً في سبيل الله، رئي أنه أعلى منزلةً من صاحبه الذي جاهد في سبيل الله، ومن المستقر في نفوس المسلمين أن الجهادَ ذِروة سنام الإسلام، وأن من رزقه الله فيه الشهادة، فقد بلغ مبلغًا عظيمًا، وفاز فوزًا كبيرًا، لكنهم استغربوا من هذا المنام، ورؤية هذا الذي لم يُقتل في سبيل الله أعلى منزلةً وأرفع درجة، فعرَضوا هذه الرؤيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّها ثم أزال دهشتهم وقال: ((ألم يَعِشْ بعده عامًا كاملاً، فصام رمضان، وصلى كذا وكذا صلاة، فممَّ تعجبون؟!))، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ جيد.



فدل ذلك أيها الإخوة على أن بلوغ شهر رمضان منحةٌ عظمى، وفرصةٌ كبرى، لاحظوا أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّل سبب ارتفاع درجة هذا الذي توفي من بعد، قال: ((ألم يصُمْ بعده رمضان، وصلى كذا وكذا صلاةً)).



إن بلوغ شهر رمضان فرصةٌ عظيمة لأن يحجز الإنسان مكانه في الجنة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل: ((من أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله))، قال عليه الصلاة والسلام: ((آمين)).



لأن الذي ينظر في فضائل هذا الشهر العظيم وبركاته يوقن أنه بفضل الله لا ينسلخ هذا الشهر إلا وقد حجز المؤمن مكانه في الجنة، فإذا فاته هذا الفضلُ العظيم دل على التفريط وعلى التهاون ممن بلغ هذا الشهر فلم يُعظِّمه حق تعظيمه، ولا ريب أن الفرص العظيمة في هذا الشهر الكريم كثيرة، وأتوقف عند ملمحٍ نبَّه إليه أئمةُ التفسير رحمهم الله.



فإن الله جل وعلا لما بيَّن أصول أحكام الصيام في بدءِ قوله جل وعلا في سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]، ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184]، ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، ثم قال الله جل وعلا: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 186، 187] الآياتِ.



لقد نبَّه العلماءُ إلى أن مجيءَ هذه الآية في غضون آيات الصيام مما يُحفِّز المسلم على أن يستثمر أوقات هذا الشهر بالدعاء، دعاء الله جل وعلا، دعاء المسألة، ودعاء العبادة بالذِّكر وغيره، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].



وتأمَّلوا أيها الإخوة لطف الله جل وعلا، وتأملوا رأفتَه ورحمته: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي ﴾، خطابٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إن سألك عبادي، والمُراد بالعباد هنا: المسلمون المؤمنون؛ فهم أحق بهذه العبوديةِ الخاصة التي فيها من إحسان الله وتربيته لعباده ودلالتِهم على الخير وتهيئة سُبُل الرشد لهم ما لا يكون لغيرهم، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾، ولعله كما ذكر علماء التفسير في سبب نزول هذه الآية، وقد ذُكرت مناسباتٌ متعددة، أن الصحابة رضي الله عنهم، وهم الذين عرَفوا ربهم بما بيَّن لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، سألوا عن هذه المسألة، فجاء الجواب، ويوضح هذا ما ثبَت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاةٍ، فجعلنا لا نصعَد شرَفًا ولا نعلو شرَفًا ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدَنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس، اربَعوا على أنفسكم))، يا أيها الناس، ارفُقوا بأنفسكم من رفع أصواتكم رفعًا قويًّا، ((يا أيها الناس، اربَعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عنق راحلتِه)).



وهذا يوضح معنى قوله جل وعلا: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾.

هل كما جاء في بعض الروايات أيضًا: ((أقريبٌ ربنا فنناجيَه؟ أم بعيدٌ فنناديَه؟))، فكان الجواب: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]، ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾ [المجادلة: 7]؛ فالله جل وعلا له الإحاطةُ الكاملة بكل عباده؛ فهو معهم سبحانه، يعلم سرهم ونجواهم، فهو محيطٌ بهم جل وعلا، لا تخفى عليه خافية؛ فهو سبحانه قد استوى على عرشه، مطلعٌ على ما يكون من عباده، عالمٌ بكل ما يكون، عالمٌ بالسر والنجوى؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾.



ويوضح هذا ما ثبت في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يقول: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني)).



فلا يمكن أن يفوت ولا يخفى من حال العبد على ربه شيء، لكن الله سبحانه يُحب من عباده أن يلهجوا بدعائه وذِكره وندائه، وبسؤاله سبحانه وتعالى، والتضرع له، ويوضح هذا أيضًا ما رواه الإمام أحمد في المسند [عن أبي هريرة] أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه))، وهذا كقوله جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وكما قال سبحانه لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].



قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله: المراد من هذا أنه تعالى لا يخيِّب دعاء داعٍ، ولا يشغَله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء، وفي هذا ترغيبٌ عظيم في أن يُكثر الإنسانُ من دعائه ربَّه جل وعلا، وأن يُكثر ولا يستعظم أنه يُكثر من دعاء ربه؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء، ولأن الله يحب من عباده أن يدعوه؛ جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فيما رواه الإمام أحمد في مسنده - أنه عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن الله تعالى ليستحيي من عبده أن يمدَّ يديه إليه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين))، إننا نتعامل مع ربٍّ كريم، إن الله جل وعلا يُضاعف العطاء، وبخاصةٍ في مثل هذه المناسبات.



أيها الإخوة الكرام، إن الدعاء كريمٌ عند الله جل وعلا، وما استجلب الخيرات منه سبحانه بمثل كثرة دعائه، وبمثل التضرع بين يديه، وتنويع الدعوات التي فيها الخضوع والذُّلُّ له جل وعلا، وبخاصةٍ إذا هيأ الإنسان أسبابَ إجابة الدعاء، إذا تهيأ الإنسان لأسباب إجابة الدعاء، ومن أعظمها ما يقوم في القلب من تعظيم الله، والإخلاص له سبحانه، واليقين بأنه يجيب الدعاء؛ لأن مشكلةَ كثيرٍ منا - أيها الإخوة في الله - أنه إذا دعا ربه، فإنه يكون مترددًا هل يجيبه ربه أو لا يجيبه؟ ويستبعد على ربه أن يُحقق دعاءه، ومن الناس من يدعو المرة والمرتين والثلاث والأربع، ويدعو يومًا أو يومين، شهرًا أو شهرين، ثم يستبطئ إجابة الدعاء، ويستحسر ويدَعُ دعاءه؛ ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما من مسلمٍ يدعو الله عز وجل بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يُعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)).



فعظُم هذا الأمر عند الصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا أن أي دعاء يكون على هذه الأحوال الثلاث؛ إما أن يُجاب، أو يُصرف عنهم من السوء مثله، أو يُدخر إلى يوم القيامة؛ فالدعاء سهلٌ لا يعوق عنه عائق، لا تسلُّط مُتسلط، ولا جبروت متجبر، ولا أحد يستطيع أن يمنع العبدَ من دعائه ربه جل وعلا، قال الصحابة: لما رأوا هذا الخير العظيم، قالوا: يا رسول الله، إذن نُكثر، إذا كانت كل دعوة إجابتها بإحدى هذه الأمور، إذن نُكثر، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الله أكثر))، فالله أكثر لا يتعاظمه شيء، ولا ينقص من عطائه على عباده شيء، كما جاء في الحديث القدسي في صحيح مسلم أن الله يقول: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم اجتمعوا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيت كل أحدٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيَط إذا أُدخل البحر)).



هل لو أن إنسانًا جلس على طرف المحيط فأدخل فيه إبرةً ونال ما نالته من ماء، هل يمكن لعاقلٍ أن يقول: إنه نقص أو أكثر فيه، وهذا لتقريب عظيم ملكوت الله جل وعلا، وإلا فالله جل وعلا ملكوتُه أعظم وأعظم، والمؤمن ينبغي أن يُعظم الدعاء والرغبة فيما عند الله جل وعلا، وألا يستحسر؛ قال عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإمام البخاريُّ ومسلمٌ والإمام مالك - أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يُستجاب لأحدكم ما لم يعجَلْ، يقول: دعوتُ وقد دعوتُ فلم يستجَبْ لي))، جاء في رواية: ((فيستحسر حينئذٍ ويدَعُ الدعاء)).



فالمؤمن يحسن ظنه بربه، وأنه إنما عجل له إجابة الدعاء؛ لأن الخير في ذلك، أو أنه صرف عنه إجابة الدعاء؛ لأن الخير له في ذلك، أو أن الله أراد به الخير فجعله مدَّخَرًا له في الآخرة؛ فالمؤمن يُحسن ظنه بربه جل وعلا، ولا يستحسر أبدًا، بل هو مبادرٌ بالدعاء في كل أحايينه.



وهو ينتهز الفُرص التي جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على إجابة الدعاء، من مثل ما يكون بين الأذان والإقامة، وكونه في السجود، وفي غير ذلك من الأحوال التي دل عليها هديُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال: ((تعرَّفْ على الله في الرخاءِ، يعرِفْك في الشدة)).



فمَن أكثر من الدعاء والذِّكر في حال الرخاء، فإنه إذا نزلت به شِدة عُرف دعاؤه، وعُرف صوته في الملأ الأعلى بين الملائك.



جاء في الأثر أن يونسَ عليه السلام لما ذهب مُغاضِبًا وركب البحر وكانت عليه القرعة فأُسقط فأُنزل من السفينة، فنادى من عمق البحر، ومن جوف الحوت الذي التقمه: أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.



قالت الملائكة: صوتٌ معروف من مكانٍ غير معروف، غير معروفٍ عندهم، لكن الله محيطٌ بكل شيء، فمن حافظ على الدعاء واستكثر منه لم تتخلف إجابته، وضاعف الله عطاءه، وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكني أحمل همَّ الدعاء".



بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.



الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، إن هذه الآية لَتفتحُ أبواب الرجاء وعظيمَ الأمل في أن يكون للإنسان من الخير والرشد بدعائه لربٍّ كريم ربٍّ قادرٍ سميعٍ مجيب، ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾، وقد قال الله جل وعلا آمرًا بدعائه: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].



فالله جل وعلا يأمر بدعائه، ويُحب هذا من عبده، ويُضاعف له فيه الثواب والعطاء، ويسخَطُ عمن لا يدعوه؛ لأنه متكبِّرٌ مُعرِضٌ عن المنعم المتفضل، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].



وفي قوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾، يعني أن الله يعطيه، ﴿أُجِيبُ﴾ يعني يعطي ويثيب، وفي الآية الأخرى: ﴿ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾؛ أستجب لكم يعني أن الله تعالى يمنح ويُعطي، فليستجيبوا لي يعني بطاعته سبحانه، والاستقامة على ما أمر به، ولا ريب - كما تقدم - أن مجيءَ هذه الآية في غضون آيات أحكام الصيام يحث العبد على أن يتحين الفُرص في دعاء الله جل وعلا، وبخاصةٍ ما دام مُلتبِّسًا بالطاعة؛ فإن المؤمن إذا كان مُتلبِّسًا بالطاعة قائمًا بها كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ ولذلك جاء في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه يستجيب دعاء الصائم؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((للصائم عند إفطاره دعوةٌ مستجابة)) للصائم عند فطره دعوةٌ مستجابة؛ ولذلك كان من حال بعضِ السلف رحمهم الله - كما كان يفعل راوي هذا الحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما - أنه إذا حل وقت الإفطار جمع أولاده ودعا أهله ثم دعا الله جل وعلا، وهذا تحيُّنٌ لهذه الفرصة؛ فإن الإنسان إذا توجَّه إلى ربه بنفسه وبأهله وذُرِّيته وفي لحظات تمام العبادة، فإن الله جل وعلا يُهيئ له من الإجابة ما لا يكونُ في غيره، ودلت بعض الأحاديث أيضًا أن فترة إجابة الدعاء بالنسبة للصائم هي في كل يومه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن للصائم عند فطره دعوةً ما تُرد))، وجاء في حديثٍ آخر: ((أن ثلاثةً لا تُرد دعوتهم، وذكر منهم الصائم حتى يُفطر))، وفي لفظٍ: ((حين يُفطر))، وكل ذلك يدل على أن وقت الصيام كله - وبخاصةٍ عند وقت الفطر - محلٌّ لإجابة الدعاء.



أيها الإخوة الكرام، إن الدعاء عند الله كريم، إن الدعاء عند الله عزيز، فينبغي للمؤمن ألا يفوت هذه الفرص؛ فإن عطاء الله لا حد له، وإذا نزلت بعبدٍ رحمةٌ من الله وتهيأ له منه فضل فلا تسَلْ عن الخير العظيم، فلا تسل عن الخير العظيم والفضل الكبير الذي يناله في الدنيا والآخرة، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].



يصير حالهم إلى الرشد، وطيب المُنقلب، وحُسن العاقبة في الآخرة والأولى، وإن من عباد الله مَن يكون في دعائه اللهَ سبحانه ناظرًا إلى التجارة العظيمة المضاعَفة، وهو لا يسأل الله جل وعلا أشياءَ مما يكون نفعها قريبًا، بل ينظُرُ إلى النفع الدائم المستمر، وهو يتعامل مع الله جل وعلا يعلم عظيمَ ملكوته، وعظيمَ فضله، ومما يوضح هذا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حثَّ على ألا يستكثر الإنسان ما يدعو به ربه، جاء في الحديث أن المسلم إذا استغفر للمسلمين والمسلمات، فإنه يُغفر له بكل واحدٍ منهم، وفي هذا التفاتةٌ إلى أن يكون المسلم إيجابيًّا ناظرًا إلى حال إخوانه؛ فهو يدعو لنفسه، ويدعو للآخرين، فتأمَّلوا هذا المسلم الذي يدعو للمسلمين، فإن كانوا من الأحياء فإنها أعدادٌ بالمليارات، وإن كانوا من الأموات فهي ملياراتٌ مضاعَفة، وهذا ما يجعلُ الولاية بين المسلمين قائمةً؛ ولذا أخبر الله جل وعلا أن أهلَ الإيمان من دعائهم: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].



ولذلك أيضًا جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام - كما في صحيح مسلم -: أنه ((ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ لأخيه في ظهر الغيب إلا ومَلَكٌ موكَّلٌ عند رأسه يقول: آمين، ولك بمِثل)).



وكان بعض الصالحين إن استحبَّ شيئًا يناله دعا لإخوانه، يرجو تأمين الملائكة، وتأمينهم مجابٌ عند الله جل وعلا، وهكذا المؤمن لا يمكن أن ينطوي قلبُه على حقدٍ لإخوانه المسلمين وهو يدعو لهم؛ فالدعاء يُربِّي المؤمن على الخير، ويحثُّه على تمنِّي الفضل لإخوانه المسلمين، وهو أيضًا يُربِّي في نفس المؤمن القُرب من ربه جل وعلا والتضرع له، وبخاصةٍ في حال الشدائد والأحوال الضائقة؛ كما يدل عليه قول ربنا سبحانه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: 62].



فعُلم بذلك - أيها الإخوة الكرام - أنه لا ينصرف عن الدعاء إلا محرومٌ، ولا يُفرِّط فيه إلا مغبون، ولا يتجاهَلُه إلا جهول، عياذًا باللهِ مِن كل ذلك.



﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].



ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خَلْق الله نبينا محمد؛ فقد أمَرنا ربنا بذلك، فقال عزَّ من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].



اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.



اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الكفر والكافرين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.



اللهم اجعَلْ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، وأبعِدْ عنهم البطانة السيئة يا ذا الجلال والإكرام.



اللهم اكشِفْ كربَ المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا، اللهم احقن دماء إخواننا أهل السنة في العراق، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم إن بأمة نبيك محمدٍ عليه الصلاة والسلام من الفرقة واللأواء والشدة ما لا يعلمه إلا أنت، اللهم فارفَعْ عنهم الغمة، اللهم اجمع قلوبهم على الحق، اللهم جنبنا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفقنا لصالح الأخلاق والأعمال والأقوال، واصرف عنا سيئها يا رب العالمين.



اللهم أعنَّا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربَّونا صغارًا، اللهم بمنِّك وفضلك لا تدَعْ لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفَيته، ولا مذنبًا إلا إليك رددتَه، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسَلين، والحمد لله رب العالمين.






المصدر...


الساعة الآن 11:10 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM