شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   القيم في خبر صاحب الجنتين (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=250310)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 03-08-2016 11:25 PM

القيم في خبر صاحب الجنتين
 
القيم في خبر صاحب الجنتين


د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم






إن الحمد لله؛ نحمده، ونستيعنه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ... ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 70].

أيها المؤمنون:
القيم قضية منهج ومصير، كل ينشدها، وما كل يوفق لها، تفاوتت فيها النظرات، واختلفت فيها الرغبات، من طلبها بهداية المولى حازها، ومن تنكب طريقها فاتته، وكان ما حصله نقيض ما طلبه.

هذا، وقد أبان المولى - جل وعلا - هذه القضية في خبر صاحب الجنتين وصاحبه؛ بيانًا لحقيقة القيم وزيفها، وأثرهما على أصحابهما، وعاقبة كلٍّ منهما، فقد أفاض الله - سبحانه - على أحدهما ثراءً ماليًّا تملك به بستانين فيهما من أنواع الأشجار أجودُها؛ فأشجار العنب المختلفة وسطها، والنخيل المتعدد محيط بجنباتها، وأصناف الزروع بينهما، فحصل فيها من حسن المنظر وبهائه ما يأخذ باللب ويبهج العين، وقد اجتمع مع روعة المنظر جودة المظهر؛ فكان عطاؤها المثمر متضاعفًا، والماء العذب فيَّاضًا فيها، فلم ينقصها شيء، وفي هذا المنظر المُبهج والعطاء الغدق، اجتمع مالكُ الجنتين بصاحب له، ودار بينهما حوار يَنِمُّ عن القيم التي وقَّرت في نفسيهما، وكانت قيم صاحب الجنتين أرضية لم تتجاوز المال والعشيرة، فقال لصاحبه: أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا، وذلك جهل منه، وإلا، فأيُّ افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها؟! ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم بجهله وظلمه حين تملَّكت الدنيا قلبه واطمأنَّ بها، وطمست بصيرته، فظن مالَه باقيًا سرمديًّا، وأن بساتينه لا تفنى ولا تبيد، بل تمادى في غيه الغاية، فأنكر القيامة إذ حُجُبُ الدنيا المستحكمة أنسته الرجوع إلى مولاه، بل تعدى في غيِّه الغاية حين جعل قيام الساعة احتمالًا إن وجد، فله فيها خير مما حصل له في الدنيا؛ ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 35، 36]، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالمًا بحقيقة الحال، فيكونَ كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء؛ فيكونَ زيادةَ كفرٍ إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكونَ من أجهل الناس، وأبخسِهم حظًّا من العقل، فأي تلازُم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة؟! بل الغالب: أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعُها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾؛ فإثبات ظلمه دالٌّ على تمرده وعناده، إنه الغرور، يُخيِّلُ لذوي الجاه والسلطان والمتاع والثراء: أن القيم التي يعامِلُهم بها أهلُ هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى!

أيها المسلمون:
لما سمع المؤمنُ منطقَ الكفرِ الذي فاه به صاحبُه واجَهَهُ بالحقيقة دون غبش أو مواربة[1] قائلًا: ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴾ [الكهف: 37 - 41]، هكذا تنتفض قيمة الإيمان وعزته في النفس المؤمنة، فلا تبالي المال والنفر، ولا تداري الغنى والبطر، ولا تتلعثم في الحق، ولا تجامل فيه الأصحاب، وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال، وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة، وأن فضل الله عظيم وهو طامع في فضله، وأن نقمة الله جبارة وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين، فذكر المؤمنُ صاحبَه الكافرَ مراحل نشأته وتسويته وعاقبةَ أمره، وما آلت به قيمُه الأرضيةُ الزائفة، أما هذا المؤمن فموحد لله؛ يعبده، ويكفر بما عداه، هذه قيمته: التوحيد والإيمان، قالها مخبرًا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه، تلك القيمة التي تملي عليه رحمة الخلق بالتوجيه والدعوة، فأرشد صاحبَه إلى سببٍ يحفظ الله به نعمته، ويعيذه من تحولها نقمةً عليه؛ حين يَنسب الفضلَ لمن أسدى إليه الفضلَ سبحانه، وذلك بقولٍ يكرره ويعتقد معناه كلما دخل بستانه: ﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]؛ فالأمر أمره، والقدرة قدرته؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا قدرة ولا قوة على الحفظ إلا من القدير الحفيظ - جل وعلا - قيمة الإيمان التي لا يضير معها قلة المال والولد أو انعدامُهما، فهي الباقية وما عداها زائل آفل، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وذلك ما سأل المؤمنُ ربَّه ورجاه منه، والإيمان أكبر حامل على حسن الظن بالله، وكما سأل ربَّه أن يؤتيه خيرًا مما ابتلى به صاحبَه سأله أن يذهب عن صاحبه السببَ الذي أطغاه وجرَّأه على مولاه؛ فيرسلَ على جنتيه عذابًا من السماء لا يستطيع دفعه ولا رفعه يصير تلك الجنتين النضرتين أرضًا جَرْدَاءَ مَلْسَاءَ، لا نبت فيها تَزْلِقُ فِيهَا الْأَقْدَام وتعافها المقل، أو يبيدها بإذهاب مادتها وهي الماء؛ فيكونَ ماؤها غَائِرًا مُنْقَطِعًا ذَاهِبًا في باطن الأرض لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي ولا الدّلاء ولا المعاول، فيكونَ في حكم المفقود مع وجوده؛ إذ لايمكن طلبه، وإنما دعا على جنة صاحبه؛ غضبًا لربه؛ لكونها غرّته وأطغته، واطمأن إليها؛ عله ينيب، ويراجعُ رشده، ويبصرُ في أمره، وهكذا يغدو المال نقمة على صاحبه إن كان سببًا في طغيانه، وسببًا يبيح دعاء الغير عليه بالإزهاق، خاصة إن تجبر به على المؤمنين، أو كان سببًا في إضلالهم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد، فاعلموا عباد الله!
ومع تذكير المؤمنِ صاحبَه وتخويفِه إياه بشؤم عاقبة فعله ودعائِه عليه بهذا الدعاء الذي تنخلع منه الأفئدة، إلا أن الرّان مستحكم على قلب ذلك المغرور؛ فلم تجدِ فيه المواعظ والقوارع، وظل سادرًا في غيه وظلمه، وفجأة ينقلنا السياق القرآني من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار، ومن هيئة البطر والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار، فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن أو دعا به؛ فقد حلَّ البلاءُ بساح المغرور، وأنزل الجبارُ عذابَه المحيطَ على جنتيه؛ فلم يَبقَ فيها إلا الخواءُ واليبابُ؛ فأصبح يُصَفِّقُ بيديه الواحدةَ عَلَى الْأُخْرَى وَيُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ تَأَسُّفًا وَتَلَهُّفًا، عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها من نفقات طائلة غيرَ اللغوب الذي أضناه وَهِو يراها خاوِيَةً سَاقِطَةً عَلى عُرُوشِها وسُقُوفِهَا، ﴿ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42]؛ فمُنِي بالحسرتين: حسرةِ ذهاب المال وجثوم الفقر، وحسرةِ الشرك بالله تعالى، ولم تنفعه وقت نزول العذاب قيمتُه التي تاه بها ردحًا من الزمن من مال أو عشيرة؛ إذ لم تنصره في وقت هو أشد الأوقات حاجة إليها حين لم يكن منتصرًا بنفسه؛ ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 43]، وفي ساعة الجزاء تبين نتيجة ولاية الله لعبده أو عدمها، ﴿ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾ [الكهف: 44]، فلا ثوابَ إلا ثوابُه، والعاقبة الحميدة لازمة لمن لازم أمره.

معشر المؤمنين، من وحي نبأ الجنتين يظهر أثر القيم على أصحابها؛ فالقيمة الحقة تكمن في الإيمان بالله وما حثَّ عليه، وفيضُ تلك القيمة غدقٌ في الدنيا: تواضعًا، وعزةً، وثباتًا على المبادئ، وحسنَ ظن بالله، ورضًا بنواله، والآخرة خيرٌ وأبقى، والقيم الزائفة ما جانبت ذلك الإيمان؛ فأفرزت أوهامًا، وغرورًا، وتكبرًا ربما قاد إلى جحود النعم والسقوط في هوَّة الكفر السحيق التي قد يعسر الخروج منها، وكانت تلك القيمة الزائفة سبب الشقاء والخِذلان في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشق، وما لهم من الله من واق.


[1] المواربة : المكاتمة والمخادعة؛ ينظر: جمهرة اللغة (1/331).








المصدر...


الساعة الآن 08:50 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM