شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   قصة عائد إلى الله (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=237306)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 02-16-2016 08:47 AM

قصة عائد إلى الله
 
قصة عائد إلى الله


الشيخ عائض بن عبدالله القرني


إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرِّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

أما بعد أيها الناس:
ما أجمل العودة إلى الله عزَّ وجلَّ وما أروع التائب يوم يتذكر أن له ربّاً قادراً، يراه على حاله من الذنوب والمعاصي، فينتفض بدنه، ويخشع قلبه، ويندم ندماً عظيماً، ويعزم على التوبة والعودة والإنابة.
يا ربّ عفوك لا تأخذْ بزَلَّتِنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وارحمْ إلهي ذنباً قد جَنَيْنَاهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كم نطلبِ اللهَ في ضرٍّ يحلُّ بنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإن تولَّتْ بلايانا نسيناهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَدْعُوه في البحر أن يُنْجي سفينَتنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإنْ رجعنا إلى الشاطي عصَيْناهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعَةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فما سقطنا لأنَّ الحافظ اللهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


عباد الله:
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135-136].

وقال عز من قائل: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾[الزمر: 53].

هذه قصة أرويها هذا اليوم؛ قصة عائد إلى الله، قصة تائب عرف طريقه المستقيم إلى الله، رجل يعيش ولا يزال يعيش على قيد الحياة، رجل نيَّف عل الخمسين من عمره، عابد من العباد، وليٌّ من الأولياء، نحسبه كذلك والله حسيبه، لا أذكر اسمه، فقد سألني بالله ألا أذكر اسمه للناس يوم أروي هذه القصة، يعيش في مدينة من مدن بلادنا، هذا الرجل قصته عجيبة تروي قصة الإنسان، يوم يعيش حياتين ومرحلتين، يوم يعيش في أول عمره الضياع والهيام والضلال والشرود والتمرد على أمر الله تبارك وتعالى : ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 44]. ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: 23].

هذا الرجل كان يعمل جندياً حارساً، يتولى نوبته ببندقيته، لكنه ما يعرف الله، يقول: مرّت بي تلك المرحلة، والله ما سجدت لله سجدة إلا رياءً ومجاملةً للناس، كانت تمر به الأشهر الطويلة لا يغتسل من الجنابة، لا يركع ركعة، لا يتلو القرآن، لا يذكر الواحد الديَّان، شاردٌ على الله، ميتٌ بمعنى الكلمة، ليلُهُ سهرٌ مع الغناء الماجن، مع رفقة السوء، مع شِلل الإجرام، مع عصابات التمزُّق والفشل والانهزام، مع الذين يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فإذا أدركه النوم نام بلا طهارة، كالبهيمة التي لا تعقل، ميتٌ لا يعرف مواقيت الصلاة؛ لأنه لا يصلي، وإذا استيقظ استيقظ متى يريد بلا طهارة، بلا وضوء، بلا عبادة، بلا ذكر.

والعجيب أنه كان قوي البنية، ضخم الهيئة، لكنه ضعيف القلب، مهزوم الإرادة، لا يعرف هدفاً للحياة، وكان يكره التديُّن وأهل الدِّين، حتى إذا رأى أهل الدين والالتزام، جعلهم مجالاً لاستهزائه وسخريته، لأنه يرى أن الإسلام رجعية، وأن الدين تخلف، وأن السنة قد مضى عهدها، ولم تعد صالحة للتطبيق.

ولطالما زاره الدعاة لما سمعوا من إجرامه وفساده، ووعظوه وحذروه وأنذروه، فكان يردد كلمته المشهورة: ((كفر صُراحٌ، ولا دين مخشخش))؛ يتهم بذلك أهل الدين بالنفاق وعدم الصدق، وأنهم مداهنون متملِّقون، وهذا من آثار الغزو الفكري الذي يصوِّر المتدينين بصور النفاق والإرهاب والتطرف.

هذا الرجل قاطع والديه وهما على بعد ثلاثمائة كيلو متراً منه، هجرهم، وسبَّهم، وشتمهم.
كان يجلس مع رفقة السوء، فيستهزئ بالصالحين واللحى والسنن والعبادات والطاعات.

﴿ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ [عبس: 17-20]. ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 8-10]. ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6-8]. ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [الإنسان: 1-3].

واستمرت السنوات تلو السنوات، وهو يعيش في ظلام كما يعيش كثير من الشباب المُعْرِض عن الله، يأكلون ويشربون، ويطبِّلون ويزمرون ويرقصون، لكن لا يعرفون الله.

مساكين الذين يتصورون الحياة دفّاً وناياً ووتراً .. مساكين الذين جعلوا الحياة لذة وشراباً وأكلاً كالبهائم .. مساكين الذين ما عرفوا حلاوة وطعم ولذة الإيمان.

واستمرت الليالي والأيام بهذا الرجل وهو في حراسته، يحمل بندقيته، يسمع النداء الخافق العالي بالأذان؛ فلا يجيب داعي الله، يرى الصالحين يتوجهون إلى المسجد فلا يشاركهم أبداً.

وفي يوم من أعظم أيام عمره قيض الله له داعية عملاقاً، لا أعرفه أنا، وإنما يعرفه كثير من العلماء وطلبة العلم في هذه المنطقة وفي غيرها اسمه: محمد بن حمود اليمني، رجل ما ذكرته الكتب لكن ذكرته القلوب، وما عرفته الصحف ولكن عرفته الأرواح، وما سُجِّل في الجرائد لكن سجله الله في الخالدين، حُدثنا بتواتر عنه أنه كان يأخذ القلوب فيسافر بها إلى الله.

وأقفُ في قصة حدَّثنا بها بعض الصالحين، قصة تتحدَّث عن هذا الداعية:
يقول الرجل الصالح: رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت كأنني في سوق، وقد اجتمع الناس يتبايعون ويشترون، في السوق وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يرتقي إلى منبر السوق، وإلى مكان عالٍ في السوق، فيعظ الناس ويبكي ويُبَكِّي الناس، قال حتى رأيت بعض الناس سقطوا مغمًى عليهم من التأثُّر، فرُشُّوا بالماء، وحُملوا من السوق - هذه رؤيا منام - قال وفي الصباح نزلت إلى سوق البلدة، فوقفت مع الناس فلما حَمِيَتِ الشمس وارتفع النهار، واجتمع الناس وإذا بهذا الداعية يصعد منبراً منصوباً في السوق، يكبر ويهلل وتتسابق دموعه قبل كلماته، قال فرأيت الناس يتساقطون من التأثُّر، ويُرشُّون بالماء ويحملون إلى الظلِّ، فكان هذا تأويل رؤياي من قبل، وعلمت أن هذا الداعية من الصالحين، وأنه يسير على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتفي أثره في الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ.

أيها المسلمون:
نعود إلى قصة الرجل الأول، قال: وفي أثناء نوبتي في الحراسة آخذاً بندقيتي بجانب مسجد في هذه البلدة، والناس يتوافدون لأداء الصلاة، وأنا لا أعرف الصلاة، إذا بهذا الدعية يرتفع صوته بعد صلاة العصر منذراً ومحذراً ومذكراً وهو يتلو قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ [الحج: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

ثم أخذ يشرح الموقف والعرض الأكبر، ويصف الجنة والنار وقد سلَّم هذا الرجل قلبه لهذا الداعية، ووصل صوته إلى قلبه قبل أن يصل إلى أذنيه؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب. قال: فأُسر قلبي بين يديه: ﴿ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4]. قال: وانتقلت من البلدة بروحي، فما أدري ما أنا، وأصابني من الإعياء ومن البكاء ومن الإغماء ما الله به عليم، حتى ما استطعت أن أتحامل على رجلَيَّ، فجلست على الأرض، قال: وكان صوته ينفذ إلى القلب مباشرة، وهو يتحدَّث عن الحشر، وأحوال الناس فيه، والصحف وتطايرها، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله. اللهم سلِّم سلِّم.

قال: وأخذتُ في البكاء إلى قبيل المغرب حتى سلَّمت نوبتي لزميلي، وذهل الناس منِّي واجتمعوا عليَّ، قالوا: ما لك؟ قلت: لا شيء، أتوب إلى الله، أستغفر الله، أعود إلى الله، اللهم اغفر لي اللهم ارحمني.

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].

وهكذا يفعل الداعية المخلص في القلوب، وهكذا يفتح مدناً من القلوب بالكلمات، لا تفتحها الجيوش المجيشة، ولا الجنود المجندة، وقام هذا الرجل، وذهب فاغتسل من الجنابة، التي مكثت عليه أشهراً طويلة، وغيَّر ملابسه؛ لأنه قد تغيَّر قلبه، وقام يستغفر ويتوب ودموعه تتسابق مع قطر ماء الوضوء.
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ ♦♦♦ تَبيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى

قال وأول صلاة صليتها صلاة المغرب، فلما صليت وإذا بالداعية فسلمت عليه، فهشَّ وبشَّ في وجهي، وكأنه اشتراني وأعتقني والله، وعانقه في نفس الوقت، وهذا هو السحر الحلال، وهو تَبسُّم أهل الفضل وأهل النبل وأهل العلم ليشتروا القلوب بجنة عرضها السماوات والأرض.

يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. ويقول له: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، قال فذهب بي هذا الداعية إلى بيت يجاورُ المسجدَ، وسألني لماذا أبكي؟ فقصصت عليه قصة حياتي فشاركني في البكاء وقلت الآن أولد مولداً جديداً.

﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، وأخذ يحدثه عن الهداية، وعن طريق الجنة، وعن ثواب الله للصادقين، وعن جزائه للتائبين، وعن إقباله على المقبلين، قال: وسألني كم أحفظ من القرآن؟ قلت: لا أحفظ شيئاً، قال: سبحان الله!! كيف صليت معنا آنفاً؟ قال: وقفت هكذا حتى الفاتحة ما أحفظها، لأنه قد يبلغ ببعض الناس التمرد والإعراض إلى أن يفهم كل شيء إلا الإسلام، ويعرف كلَّ شيء إلا القرآن، ويحب كل شيء إلا الدين؛ بل وُجد في مجتمعاتنا وفي أوساطنا وفي مدننا، من يحفظ مئات الأغنيات، ولا يحفظ سورة واحدة من القرآن، هذا موجود وحاصل، وهو ثمرة من ثمار الإعراض عن الله عزَّ وجلَّ قال: فقام فعلمني الفاتحة وسوراً قصيرة، ثم ألزمني برجل من أهل القرية عنده صلاح، وقال حَفِّظه كتاب الله، قال والله الذي لا إله إلا هو - الرجل يروي قصته - ما أخذت أنام من الخوف - من خوف الله - في الأربع والعشرين ساعة إلا ساعتين، وحفظت القرآن حفظاً عن ظهر قلب، كلّ القرآن في أربعة أشهر، لأنه أحب القرآن، وأقبل على الواحد الديان وعرف طريقه إلى جنة الرضوان، هذا استمر في الهداية، وأصبح عابداً لله عزَّ وجلَّ وأعرف عنه أنه يقرأ القرآن ويختمه كل ثلاثة أيام، ويصوم كثيراً من الأيام، ولا يتمالك عينيه إذا قرأ القرآن إلا أن ينهدّ باكياً، يحدِّث بقصته هذه فيبكي لأنها قصةٌ عجيبة تمر بنا كثيراً، وهي قصة النجاة من النار، وقصة العودة إلى الواحد القهّار.

في أولها حرمان، وفي آخرها رضوان، أولها لعنة وشقاوة، وآخرها رحمة وهداية، وإقبال على الواحد الأحد.

فيا من عاش حياة الإعراض، ويا من أدبر طويلاً في أيامه، ويا من جعل ليله ونهاره في المعاصي والمخالفات، تب إلى الله، أقبل على الله، سر في طريق محمد، عليه الصلاة والسلام، ليصلك بالله الواحد الأحد.

أيها الناس:
هذا أنموذج من حياة كثير من الناس وعندنا من هذا وعند كثير من الأخوة عشرات النماذج ممن أعرضوا ثم أقبلوا، من الذين عاشوا الحرمان والخذلان ثم عرفوا الطريق إلى الواحد الديَّان.

﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾ [الأنعام: 125].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:
أيها الأخوة الكرام فإن قصص التوبة والإقبال على الله عزَّ وجلَّ ملء التاريخ، ومن يقرأ سير الصحابة والسلف الصالح يجد أن كثيراً منهم قد مرَّ بمرحلتين؛ مرحلة الإعراض والظلام، ومرحلة الإقبال على الله.

ومما حفظ عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه أنه قال: "لا بد لكل عبدٍ أن يولد ميلادين اثنين، المولد الأول: يوم أتت به أمه، وهذا يشترك فيه الناس جميعاً حتى البهائم، فإن كل مخلوق يمر بهذا المولد، ويعيش هذه الحياة، ويحسُّ بهذا الميلاد، الكافر والمؤمن، البهيمة والدابة، الطائر والحشرة، كلهم يولدون هذا المولد، وأما المولد الثاني فلا يذوقه إلا المؤمن، ولا يحسه إلا المؤمن، وهو الميلاد الذي ذكره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [الأنعام: 122]".

ما معنى ذلك: أنه كان ميتاً لا يتحرك ولا يأكل ولا يشرب؟ لا.
معناه أنه كان ميت القلب، ميت الإرادة، ميت العزيمة، ميت السير إلى الله، يأكل ويشرب ويطبل ويزمر ويغني ويتمرد ويفسق، لكنه ميت، قال الله: ﴿ فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [الأنعام: 122]، بالإيمان: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام: 122]، نور العلم والإيمان: ﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، فالميلاد الثاني كما قال ابن تيمية هو ميلاد الإنسان في الإسلام، يوم يخلع كلَّ شرك وشبهة ونفاق ومعصية، ويأتي فيسلم نفسه إلى الله، ويشتري نفسه من الله، ويعتق رقبته من النار، هذا هو الميلاد الثاني، وهذا الميلاد ذاقه الصحابة رضوان الله عليهم، ولا زال كثير من الناس يعيشونه في هذا العصر، وفي كل عصر، فسلام على التائبين الذين استنارت قلوبهم بالعودة إلى الله عزَّ وجلَّ والذين عرفوا الطريق إلى الله وإلى الهداية والتوفيق.

عباد الله:
أحد العلماء في مدينة الرياض حدَّثنا بقصة وقعت لقريب له، هذا القريب كان جنديّاً من جنود إبليس.
وَقَدْ كُنْتُ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى ♦♦♦ بِي الحَالُ حتى صار إبليسُ من جُنْدِي

يقول: كان متمرداً على الله بمعنى الكلمة، حتى وصل الحال به إلى أن دعت عليه أمُّه بالهلاك، وأن يريح الله العباد والبلاد منه، يذهب في الليل فلا يأتي إلا في ساعة متأخرة، يأتي محشوّاً من حبوب المخدرات، ومن السكر والخمر والعربدة، أما المسجد فما دخل المسجد قطُّ، قال: واستمرت هذه الحال حتى تأذى منه جيرانه وشكَوْه، وحاول بعض الدعاة معه محاولة، فأوصلوه إلى بيته، ووعظوه بالله، وسألوه بأسماء الله الحسنى أن يتوب، أو على الأقل أن يكُفَّ عن الناس شره، وصل البلاء به مبلغاً عظيماً، وما بقي إلا توبة نصوح، أو قاصمة من الله تأخذه يوم يأخذ الظالم فلا يفلته أبداً قال: وبينما نحن نعظه بكى فظننَّا أنه تاب، وأنه أحسَّ بالعودة إلى الله، ولكن دون جدوى عاد كما كان؛ بل أمرَّ مما كان وكان يستهزئ بنا ويسخر مِنَّا في رسائل وفي جلسات، وعنده أصحاب يدعونه إلى الردى والغواية، قال: واستمر به الحال على ذلك، كتبنا له رسائل، حاولنا معه بكل وسيلة، شفعنا فيه أن يهتدي فرفض، وتذكرنا طريقة مبتكرة للهداية، وهي طريقة ناجحة في الغالب، وهي طريقة إهداء الشريط الإسلامي، فانتقوا له مجموعة من الأشرطة الإسلامية المفيدة، والتي تتناسب مع حالته، فاشتروها له، ووضعوها في سيارته.

وقالوا: هذه المحاولة الأخيرة معه، فإن هداه الله، كان هذا ما نتمناه، وهو أحب الأمرين إلينا، وإن لم يهده دعونا الله عليه أن يريح العباد والبلاد منه؛ لأنه تسبب في غواية كثير من شباب الحي. قال: وقدر الله عزَّ وجلَّ هدايته، لحكمة يعلمها الله عزَّ وجلَّ ولذلك فإنه ينبغي للدعاة ألا ييأسوا من هداية الناس وأن يتحلوا بالصبر، ولا يستعجلوا أمر الله عزَّ وجلَّ فإن كل شيء بقدر، ولكل أجل كتاب: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 1].

قال: سافر هذا الرجل إلى مدينة الدمام، وفي أثناء الطريق سمع الغناء حتى ملَّ، وسمع البذاء والسخط حتى كَلَّ وسئم، وقبل أن يصل إلى المدينة، نظر إلى هذه الأشرطة الإسلامية، وقرر أن يسمع أحدها ليضحك على هؤلاء البشر السخفاء في نظره، الحقراء في فكره، هل يعرفون الكلام مع الناس؟ هل عندهم شيء؟ فأخذ يستمع إلى أحد الأشرطة التي تتحدَّث عن اليوم الآخر، والأهوال التي سوف تحدث في هذا اليوم. قال: وتأمَّل، وألقى سمعه، وتحدَّث الشريط عن حياة الإِنسان، وعن ضعف الإِنسان، وعن موقف الإِنسان يوم العرض الأكبر.

﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18].

قال: وبدأ التأثر وانتهى الشريط، وأخذ شريطاً آخر يتحدَّث عن الجنة وبدأ التأثُّر، وهجم عليه البكاء، فأخذ يبكي بقوة حتى أنه لم يعد يتحكم في قيادة سيارته.

وظل على هذه الحال من البكاء والندم حتى وصل إلى مدينة الدمام، ومع دخوله المدينة، أدخل الله الهداية في قلبه، فانطلق يبحث عن مكان يتوضأ فيه، فتطهر وتوضأ، ثم دخل المسجد وصلى ركعتين وأعلن توبته، وهو يبكي أمام الله، وصلى مع الناس، وعاد فأكمل سماع هذه الأشرطة التي زادته عمقاً وإيماناً وبصيرة، عاد إلى أهله بوجه غير الذي ذهب به، وجه الإيمان، وجه النور والهداية، وجه الإقبال على الله عزَّ وجلَّ: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران106-107].
ليسوا كقومٍ إِذا لاقَيْتَهُمْ عَرَضاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أهدَوْك من نورهم ما يُتْحِفُ السَّاري http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَرْوَى وتَشْبَعُ من سِيمَاء طَلْعَتِهِمْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِوَصْفِهِمْ ذَكَّروكَ الواحد الباري http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيِّدَهُمْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مثل النجوم التي يسري بها السَّاري http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وصل إلى بيته وأخبر والدته فانصدعت بالبكاء من الفرح ومن الفرح ما يبكي.
طفح السرورُ عليَّ حتى إنني ♦♦♦ من عِظَمِ ما قد سرَّني أبكاني

وأيام وإذا بالناس ثم الجيران يتوافدون عليه يهنؤونه بهذه النجاة وهذا المستقبل.

وإذا بربِّ العباد يوزع محبته على الناس، فأحبته القلوب، واستأنس بصحبته الصالحون، ففي الصحيح: ((إن الله عزَّ وجلَّ إذا أحب عبداً قال لجبريل: إني أحبُّ فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم يقول للملائكة: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه الملائكة، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فابغضه فيبغضه جبريل، ثم يخبر أهل السماء فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض))[1].

أحبه الناس، لأنه أحسن إليهم، وتغيرت معاملاته معهم، فرحم صغيرهم، ووقر كبيرهم، ونذر نفسه لخدمتهم وحلِّ مشاكلهم، وواصل مسيرته مع الله، ولا زال حيّاً وأصبح مثالاً وأسوةً ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ [الفرقان: 74] وهدى الله على يديه كثيراً من الناس ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].

عباد الله:
جددوا توبتكم وإقبالكم لله الواحد الأحد، أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين، فإن ربكم غفور شكور.

أيها الناس:
وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[2].

اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمَنِّكَ وكرمك يا أكرم الأكرمين.

[1] أخرجه مسلم (4/2030) كتاب البر والصلة، رقم (157).
[2] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).






المصدر...


الساعة الآن 06:45 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM