شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   الموسوعة الضخمة المتنوعة ------------الحج و العمرة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=299)
-   -   خطبة عن فضائل الحج (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=231401)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 02-08-2016 08:55 AM

خطبة عن فضائل الحج
 
خطبة عن فضائل الحج


الشيخ أحمد أبو عيد





العناصر:
1- فضله.
2- أهميته.
3- آثاره.
4- أمور أخطأ بعضهم الفهم فيها.

الموضوع:
أولًا: فضله:
1 - ركن من أركان الإسلام:
خَطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: ((أيُّها الناس، قد فُرض عليكم الحجُّ، فحُجُّوا))، فقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكتَ حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلتُ: نعم، لوجبَت، ولَما استطعتُم))، ثمَّ قال: ((ذَروني ما ترَكتكم؛ فإنَّما هلَك من كان قبلكم بِكثرة سؤالهم، واختلافِهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتُكم عن شيء فدَعوه))، ثمَّ قال: ((الحجُّ مرَّة، فمن زاد فهو تطوُّع)).

عن ابن عمر وغيره، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت))؛ رواه البخاري ومسلم، وغيرهما، عن غير واحدٍ من الصحابة.

2 - من أفضل الأعمال والقرُبات عند الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله ورسوله))، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مَبرور))؛ (البخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد).

3 - الحجُّ يَعدل الجهاد في سبيل الله، وينوب عنه لمَن لا يَقدر عليه ومَن لا يُكلَّف به:
عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: يا رسول الله، نرى الجهادَ أفضل العمل، أفلا نجاهِد؟ قال: ((لا، لَكُنَّ أفضلُ الجهاد؛ حجٌّ مَبرور))؛ (البخاري، كتاب الحج، حديث رقم 1423).

وفي رواية: قلتُ: يا رسولَ الله، ألا نَغزو ونجاهد معكم؟ فقال: ((لكنَّ أحسَن الجهاد وأجمله: الحج؛ حجٌّ مبرور))، فقالَت عائشة: فلا أدَعُ الحجَّ بعد إذ سمعتُ هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ (البخاري، كتاب الحج، حديث 1728).

وفي رواية للنسائي: قلتُ: يا رسول الله، ألَا نَخرج فنجاهد معك، فإنِّي لا أرى عملًا في القرآن أفضَل من الجهاد؟ قال: ((لا، ولكنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت؛ حجٌّ مبرور)).

4 - الحجُّ المبرور ليس له ثواب إلا الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((العُمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بَينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلَّا الجنة))؛ متفق عليه: البخاري كتاب الحج (1650)، ومسلم (2403).

5 - الحج المبرور سبب لغفران الذنوب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن حجَّ لله، فلَم يرفث ولم يَفسق، رجع كيَومَ ولدَتْه أمُّه))؛ البخاري 1424.

وعند مسلم: ((مَن أتى هذا البيتَ، فلَم يرفث ولم يَفسُق، رجع كما ولدَته أمُّه))؛ ح 1350.
وعند الترمذي: ((مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسُق، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ ح 811.

6 - الإكثار من الحج والعمرة ينفيان الفقر:
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنَّ المتابعة بَينهما تَنفي الفقرَ والذنوبَ كما يَنفي الكيرُ خبَثَ الحديد))؛ (الترمذي ح 738 عن ابن مسعود، وابن ماجه ح 2887 عن عمر، والصحيحة ح 1200).

7 - الحاجُّ وافِدٌ على الله، ومَن وَفد على الله أكرَمه الله:
عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الغازِي في سبيل الله، والحاجُّ، والمعتمِر: وَفدُ الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألُوه فأعطاهم))؛ (ابن ماجه ح 2893، الصحيحة 1820)، وفي رواية: ((الحُجَّاج والعمَّار وَفد الله؛ إن دعَوه أجابهم، وإن استغفَروه غفرَ لهم))؛ ابن ماجه ح 2883.

8 - فريضة الحجِّ دائمة مستمرة حتى بعد ظهور الفتن العظام:
((لَيُحَجَّنَّ هذا البيت وليعتمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج))؛ صحيح الجامع 5361.

فإذا قبض الله أرواحَ المؤمنين في آخر الزمان، ولم يبق على الأرض إلَّا شِرار الخلقِ الذين تدرِكهم الساعةُ وهم أحياء، توقَّف الحجُّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم السَّاعة حتى لا يحجَّ البيت))؛ صحيح الجامع 7419.

ولهذا وجب على كلِّ مسلم مُستطيع أن يتعجَّل الحجَّ، فقد يأتي يومٌ يَعْجِزُ فيه عن الحج: ((من أراد الحجَّ فليتعجَّل؛ فإنَّه قد يمرض المريضُ، وتضلُّ الضالَّة، وتعرض الحاجة))؛ صحيح الجامع.

ثانيًا: أهمِّيته:
أولًا: تعظيم البيت؛ فإنه من شعائر الله وتعظيم لله:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 96، 97]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

ثانيًا: تحقيق الألفة والوحدة:
فيَجتمع المسلمون على اختلاف ألسِنَتهم وألوانِهم وأوطانهم في صعيدٍ واحد، يَدْعون ربًّا واحدًا، ويتوجَّهون لبيتٍ واحد، فتتوحَّد الأهداف والغايات، وتصبح الأمَّةُ على قلب رجلٍ واحد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفِهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسَّهر))؛ (مسلم: 20/ 8)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تَتكافأ دماؤهم، ويَسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم))؛ صحيح ابن ماجه (ح 2181).

فالحجُّ يعرض لِمظاهر قوَّة المسلمين وشَوكتهم، واجتماع جندهم، وإظهار شريعتهم؛ ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ [البقرة: 125].

ثالثًا: موافقة ما توارثه الناسُ عن إمام الحنفاء إبراهيم وولده إسماعيل، ودعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم:
وتذكُّر هذه المواقف والمقامات؛ ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 127 - 129].

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول للناس في حجة الوداع: ((قفوا على مَشاعِركم؛ فإنَّكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم))؛ (صحيح أبي داود ح 1702)، ويقول: ((خذوا عنِّي مناسِككم؛ لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا))؛ مسلم.

رابعًا: إعلان التوحيد الذي بَعث الله به رسلَه، وإظهاره في الأقوال والأفعال:
ففي التلبية يقول الحاجُّ: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، وقد كان أهلُ الجاهلية يُلبُّون بالشِّرك فيقولون: إلَّا شريكًا هو لك، تَملِكه وما ملَك.

وفي سائر المواقف والمشاعِر يتجرَّد العبد في توحيده وطاعته لله عزَّ وجلَّ ومبايعته للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيسير ويَقف حيث أمره الله، ويَحلق شعرَه، ويَنحر أو يَذبح هَدْيَه حيث أمره الله وشرع له، ويتابِع في ذلك كله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

اللهمَّ ارزقنا حجَّ بيتك، ووفِّقنا لما تحبُّ وترضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ثالثًا: آثاره:
أ‌ - قال تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 28]، ولفظة المنافِع تَشمل وجود المصلَحة كلها، الماديَّة والمعنوية؛ من تجارة وعلم، ولِقاء بالأحبَّة، وتبادل خبراتٍ في السياسة والاقتصاد والإعلام.

وجاء في سياق آيات الحج: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]، ولا يَتنافى كلُّ ذلك مع نيَّة الحجِّ وأداء النُّسك، الذي هو الأصل والدَّافع للقدوم، ولكن يُسر الدِّين وسماحته لم تَمنع النَّاس من قضاء مصالحهم وتحقيقِ مكاسبهم من خلال موسم الحجِّ.

ب‌ - إنَّ الالتزام بأداء المناسك في موسم الحجِّ في أوقات محدَّدة من اليوم والليلة - تَدريبٌ للمسلم على النِّظام؛ لكيلا يكون أسير حياة يوميَّة روتينيَّة لا يتحمَّل تغييرها؛ ففي ذلك خروج على الإلف والعادَة لإخضاع نَفسه للنِّظام وأحكام الشريعة.

ج‌ - إنَّ تعرُّض الحاجِّ إلى مفارقة الأهل والأولاد والأوطان يذكِّره بالفِراق الأكبر الذي لا عودة بعده إليهم، فيَأخذ العِبرةَ ويستعد لذلك اليوم.

د‌ - إنَّ خروجه متجردًا من زينته وثيابِه، ولباسه الإحرامَ: تَذكيرٌ له بما يَحمله معه مِن متاع الدنيا عند مفارقته لها للقاء ربه.

هـ - وقوفه بعرَفة يذكِّره بالموقف الأكبر يوم الحشر؛ ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 47، 48].

إنَّ تغيُّر حاله أثناء سفَر الحجِّ وابتهاله لربِّه، وتقديمه القرابين لربِّه، وتمسُّكه بآداب الحجِّ وأحكامه، واجتنابه محظورات الإحرام والنُّسك؛ ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، كلُّ ذلك يؤثِّر على نَفسه وسلوكه، وربَّما تحولَت إلى عادات حسنَة وأخلاق حميدة تلازِمه طيلةَ حياته بعد أن تذوَّقها ووجد حلاوتَها خلال موسم الحج.

رابعًا: أمور أخطأ بعضهم الفهم فيها:
أولًا:
أن يخاف ألَّا يَرزقه الله مالًا يعلِّم به ولدَه، أو يزوِّج به ابنتَه، أو يقيم به بعضَ شأنه إن هو أنفَق هذا المال في الحجِّ، مع أنَّ حديث ابن مسعود قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنَّهما يَنفيان الفقرَ والذُّنوب كما يَنفي الكير خبَثَ الحديد والذهبِ والفضَّة، وليس للحجَّة المبرورة جزاء إلَّا الجنَّة))؛ السلسلة الصحيحة.

ولا شك أنَّ هذا الفهم متابعة للشَّيطان في وَسوسته، ومجانبَة للحِكمة في التصرُّف في المال، وظنٌّ سيِّئ بالله سبحانه، فتدبر قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 267 - 270]، فأي بابٍ أطيب من الإنفاق في أداء فريضة الله في الحج؟ فهل يتَّعظ أولو الألباب، ولا يتابعون الشَّيطان الذي يخوِّفهم الفقر وألا يَجدوا ما ينفقون في تعلُّم أو زواج إذا أنفقوا في الحج؟

فالعجب لِمن يؤمن بالله رازقًا ثمَّ يخاف إن أَنفق مالَه في فرائض الله أن يَبخل عليه اللهُ بالمال الذي ينفقه فيما أحلَّ الله.

ثانيًا:
قوله تعالى: ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، فلا يَجعل من نفسه مستطيعًا لأمورٍ ليسَت من الاستطاعة في شيء.

يقول صاحب محاسِن التأويل: فعلى كلِّ مستطيع للحجِّ، يَجد إليه السبيلَ بأي وجه كانت الاستطاعة - الحجُّ؛ على ظاهر الآية.

قال: وروِّينا عن عكرمة أنَّه قال: الاستطاعة: الصحَّة، وقال الضحَّاك: إذا كان شابًّا صحيحًا ليس له مال فليؤجِّر نفسَه بأكلِه وعقبه حتى يقضي نُسكه، فقال له قائل: أَكلَّف الله النَّاسَ أن يَمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم مِيراث بمكَّة أكان يتركه؟ قال: لا، بل يَنطلق إليه ولو حبوًا، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت.

وقال مالك: الاستطاعة على إطاقة النَّاس؛ الرجل يَجد الزادَ والرَّاحلةَ ولا يَقدر على المشي، وآخر يَقدر على المشي على رِجليه، وقالت طائفة: الاستطاعة: الزَّاد والرَّاحلة.

ويقول القاسميُّ أيضًا في قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]: هذه الآية الكريمة حازَت فنونَ الاعتبارات المعرِبة عن كمال الاعتناء بأمر الحجِّ والتشديدِ على تاركه - ما لا مزيد عليه، فمنها: الإتيان بـ (اللام، وعلى) في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97]؛ يعني: أنَّه حقٌّ واجِب لله في رِقاب النَّاس، لا يَنفكُّون عن أدائه والخروج عن عُهدته.

ومنها: أنَّه ذَكر "النَّاس"، ثمَّ أبدل عنه ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، وفيه ضربان من التأكيد؛ أحدهما: أنَّ الإبدال تَثنية المراد وتكرير له، والثاني: أنَّ الإيضاح بعد الإبهام، والتَّفصيل بعد الإجمال: إيرادٌ له في صورتين مختلفتين.

ومنها: قوله: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾ [آل عمران: 97] مكان (من لم يحجَّ)؛ تغليظًا على تارِك الحج.
ومنها: ذِكر الاستغناء عنه؛ وذلك مما يدلُّ على المَقت والسخط والخذلان.

ومنها: قوله: ﴿ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، ولم يقل: عنه، وما فيها من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان؛ لأنَّه إذا استغنى عن العالمين، تناولَه الاستغناء لا مَحالة، ولأنَّه يدلُّ على الاستغناء الكامل، فكان أدلَّ على عظم السخط الذي وقع؛ انتهى.

ثالثًا:
أفعال الحجِّ - من الإحرام والطواف، والسَّعي ورمي الجمار، والوقوف بعرَفة ومزدلفة - مِن الأفعال ما يُنبئ عن امتثال العبد لأوامر سيِّده وإن لم يَفهم المقصودَ من هذه الأوامر، إنَّما يتعيَّن عليه الامتثال، ويَلزمه الانقياد مِن غير سؤالٍ عن المقصود، ولا طلب الفائدة والمعنى من هذه الأفعال؛ لذا كان مِن تَلبيته صلى الله عليه وسلم: ((لبَّيك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا، لبيك إله الحقِّ)).

ويقول ربُّ العزَّة سبحانه: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، يقول السعدي في تفسيره: يَجب أن تعظِّموا الإحرامَ بالحجِّ، وخصوصًا الواقع في أشهره وتصونوه عن كل ما يفسِده أو ينقصه؛ من الرَّفث؛ وهو الجماع ومقدِّماته الفعليَّة والقولية، خصوصًا عند النساء وبحضرتهنَّ، والفسوق؛ وهو جميع المعاصي، ومِنها محظورات الإحرام، والجدال؛ وهو المماراة والمنازَعَة والمخاصمَة؛ لكونها تُثير الشرَّ وتوقِع العداوة، والمقصود من الحجِّ الذلُّ والانكسارُ لله، والتقرُّب إليه بما أمكن من القُربات، والتنزُّه عن مقارَفَة السيِّئات؛ فإنَّه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاء إلَّا الجنَّة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كلِّ مكانٍ وزمان، فإنَّه يتغلَّظ المنع عنها في الحج.

رابعًا:
علم أنَّه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يَفعل الأوامر، ثمَّ يقول أيضًا: أمر الله تعالى بالتزوُّد لهذا السَّفَر المبارَك؛ فإنَّ التزوُّد فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكفُّ عن أموالهم سؤالًا واستشرافًا، وفي الإكثار منه نَفعٌ وإعانة للمسافرين، وزيادة قُربَة لربِّ العالمين، وهذا الزَّاد الذي المراد منه إقَامة البنيَة بلغة ومتاع، وأمَّا الزاد الحقيقي المستمرُّ نَفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زَاد التَّقوى الذي هو زَاد دارِ القرار، والموصل لأكمل لذَّة وأجلِّ نعيم دائمًا وأبدًا"؛ انتهى.

وبهذا يلتَقي الحجُّ مع سائر العبادات في أنَّه زاد يَتَّقي به العبد سخطَ ربِّه ونارَه، ويطمع في جنَّته التي أعدَّها للمتقين، فهذه أيَّام الحجِّ وأشهرُه واستعداد الناس للخروج إليه، فسارِعوا إلى مَغفرةٍ من ربِّكم وجنَّة عرضها السموات والأرض أعدَّت للمتقين.

اللهمَّ هيِّئ لنا حجَّ بيتك الكريم، وتقبَّل منَّا ومِن سائر المسلمين، وارفع عنَّا الآثامَ والذُّنوب، وتقبَّل منَّا واقبلنا يا ربَّ العالمين، إنَّك على كلِّ شيء قدير، والله من وراء القصد.

خامسًا: بشرى لمن عجز عن الحج:
وللمسلم أن يغتنمَ مثل أَجر الحاجِّ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن صلَّى الفجرَ في جماعة، ثمَّ قعد يذكر اللهَ حتى تطلع الشمس، ثمَّ صلَّى ركعتين، كانت له كأجر حجَّة وعمرة تامَّة، تامَّة، تامَّة))؛ (الترمذي عن أنس، صحيح الجامع 7346).

أيها الأحباب:
مَن فاته التجرُّد من الملابس بالإحرام، فليزهَد في الدنيا وليترك الحرام.
ومن فاته أن يلبِّي بلسانه، فليلزَم وليلبِّ بجنانه.
ومَن فاته أن يطوف ببيت الرَّحمن، فليطُف بقلبه في رِياض القرآن.
ومَن فاته السَّعي والمبيت بمنى، فليسعَ في الخير وليبِت طائعًا ها هنا.
ومَن فاته الوقوف بعرفة، فليقم لله بحقِّه الذي عرَفه.
ومَن فاته الذَّبح بمنى، فليذبح هواه ها هنا وقد نال المنى.
ومن فاته رمي الجمار، فليَعصِ شيطانَه وليُزل عن كاهله الأوزار.
ومَن فاته أن يحلق شعرَه بالأمواس، فليُزل ما في قلبه من أدناس.
ومن فاته الذِّكر والدعاء بالمشعر الحرام، فعليه بِهما بالسَّحَر والناس نيام.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد.






المصدر...


الساعة الآن 11:09 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM