شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   سقوط بغداد (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=230601)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 02-04-2016 01:09 PM

سقوط بغداد
 
سقوط بغداد


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].


أما بعد: فإنَّ أحسن الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس: في تعاقُب الليل والنهار، وتقلُّبات الأحوال والدول عِبْرَةٌ للمُعْتبرين، وتنبيه للغافلين. كما أن في اشتداد المصائب والمِحَن، وتعدُّد البلايا والفتن اختبارًا للعِبَاد، وتمحيصًا للقلوب، وتمييزًا للثابتين على الحق من الناكصين على أعقابهم.


وإذا كان التاريخ قد دَوَّن بالأمس في صفحاته سُقُوطَ بغداد، واستباحتها من قبل عُبَّاد الصليب[1]، بعد أيام شدائد أتت على أهل العراق من الحِصَار والتجويع، إلى التهديد والترويع، ثم تتويج ذلك بالقصف المُدَمِّر، والقتل الجماعي، والحرق بالـقنابل والـقذائف، إلى أن سَقَطَتْ في ظُروف غامضة لا يعلم أسرارها وخفاياها - بعد الله تعالى - إلاَّ المُتآمِرُون بها على أمة الإسلامة المنكوبة[2]. وستبدي الأيام - إن كان لنا عيش - ما أُخْفِيَ عنا من تفاصيل هذا الحدث الجَلَل.


إذا كان التاريخ قد دوَّن في صفحات شهر صَفَر هذه النازلةَ العظيمة التي نزلت بالمسلمين؛ بسبب تصرفات أقوام لا خَلاق لهم، قد استبدلوا عقيدةَ البعث الكافر بالإسلام، وظلوا يهْتِفُون بها في وقت هم في أمَسِّ الحاجة إلى أن يهتفوا بجلال الله تعالى وعظمته، قد وَرَّطُوا الأُمَّة المسلمة في أزمات، نسأل الله تعالى اللُّطْف فيها.

إذا كان ذلك قد حصل فإنَّ شهر صفر أيضًا قد دُوِّن فيه سُقُوط مُريعٌ لبغداد قبل ثمانية قرون إلا ثنتين وثلاثين سنة على أيدي التتار[3]، وبين سقوطها الحاضر وسقوطها الماضي حلَّت بأهل بغداد عشراتٌ من الفتن والمِحَن، والقتل والتشريد، كما كان بين السُّقوطَيْن قواسمُ مشتركة تدل على أنَّ سنن الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 43 - 44].


لقد كانت بغداد في أول الإسلام قرية صغيرة، يُقام فيها سوقٌ كبيرة في كل شهر، فيأتيها تجار فارس وما حولها من البلدان، ولما وصل الفتح الإسلامي إلى بلاد فارس في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أغار المثنى بن حارثة بجيشه على هذا السوق فغنموا ما غنموا، وذلك في السنة الثالثة عشرة للهجرة[4]. وبقيت على ما هي عليه ليس لها خبر يُذكر لا في تاريخ الخلافة الراشدة، ولا في الدولة الأموية. فلمَّا أن كانت الدولة العباسية مصَّرها الخليفة المنصور العباسي - رحمه الله تعالى - وانتقل إليها، وجعلها عاصمة الدولة الإسلامية آنذاك.

ابتدأ في بنائها بعد بحثٍ ومشورةٍ عام خمسة وأربعين ومائة للهجرة، فخطَّ البناء، وقدَّر المدينة، ووضع أول لبنة بيده وهو يقول: "بسم الله، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"، ثم قال: "ابنوا على بركة الله"[5]، وحضر بداية بنائها جمعٌ من أهل الخير والفضل والعلم يتقدمهم الإمام أبو حنيفة النعمان، وبعد أربع سنوات تم بناؤها، وسكنها الخليفة والمسلمون عام تسعة وأربعين ومئة للهجرة، وسميت مدينة السَّلام؛ لأن دجلة كان يقال له وادي السَّلام[6].


أصبحت بغدادُ بعد بنائها، وجعلها عاصمة للدولة الإسلامية مَوْئلاً للعلم والعلماء، ومقرًّا للقادة والساسة والتجار والصنَّاع، ومنها كانت تُعقد الألوية، وتُسير الجيوش لنصرة المُسْتَضْعَفِينَ، ونشر الدين، والحكم بالشريعة فيما بين الناس، وإليها يَفِدُ طلاب العلم من شَتَّى الأقطار؛ لطلب العلم على أيدي الأئمة الكبار؛ حتى أزهرت حضارتها، واتَّسع عمرانها، وصارت مهوى أفئدة الناس. من زارها لم يخرج منها، ومن سمع عنها اشتاق إليها؛ حتى قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - ليونس بن عبدالأعلى: «أيا يونس، دخلتَ بغداد؟ قال: لا، فقال الشافعي: أيا يونس، ما رأيت الدنيا ولا الناس"[7]، وقال أبو إسحاق الزجَّاج: "بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها بادية"[8].

وقال ابن مُجاهد المقري: "رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة"[9].


كانت تلك منزلتها عند أهلها وعند الوافدين عليها من شتى الأقطار؛ حتى سوَّدَ العلماء الكتب الكبيرة في تاريخها، ونظم الشعراء القصائد الكثيرة في مديحها، وتحسين الإقامة فيها؛ ولكنْ حقٌّ على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[10] إذ مع تطاول السنين، وتعاقب الخلفاء؛ بدأت تضعف الخلافة العباسية شيئًا فشيئًا، حتى بلغ الضعف فيها مبلغه، وتحولت اهتمامات الخلفاء والأعيان من رفع راية الإسلام إلى الإقبال على الدنيا وزينتها وزخرفها، وأهملوا الجهاد في سبيل الله تعالى واشتغل الناس باللهو واللعب، والتنافس في الغنى والعمران. وقد وصف هذا الحال البائس الذي ينذر بالخطر الداهم المؤرخ ابن الأثير - رحمه الله تعالى - فقال: "فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصرًا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبةٌ في الجهاد، ولا في نصرة الدين، بل كلٌّ منهم مقبلٌ على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]" اهـ كلامه[11].

وبعد ثمان وعشرين سنة فقط من كلام ابن الأثير هذا، كان هولاكو وجنده يعيثون فسادًا في بغداد!!


وإذا كانت معونة المنافقين من الرافضة والعِلْمانيين قد سهلت مهمة عُبَّاد الصليب في اقتحام بغداد؛ فإنَّ التاريخ قد أعاد نفسه؛ إذ كان سقوط بغداد في أيدي التتار بتدبير من منافقي ذلك العصر، وعلى رأسهم وزير الخليفة العباسي: ابن العلقمي الرافضي الذي ما حفظ للخليفة تقريبه وتوزيره، فحقد عليه وعلى المسلمين، وخطط لإقامة دولة لأهل طائفته وبدعته على رفات الدولة العباسية؛ فقلَّص أعداد الجيش من مائة ألف إلى عشرة آلاف فقط[12]، ثم كاتَبَ هولاكو وطمَّعه في الغزو، وزيَّن له أخذ بغداد. فلما حاصرها هولاكو بجنده أكمل الوزير ابن العلقمي مهمته النفاقية المعادية للإسلام والمسلمين بأن قام بالسفارة بين الخليفة المستعصم وهولاكو، وكان هولاكو راضيًا بالصلح، ومتهيِّبًا منِ اقتحام عاصمة الإسلام آنذاك، لولا أن ابن العلقمي هوَّن عليه أمر اقتحامها؛ بل وأشار عليه بقتل الخليفة، ثم زيَّن للخليفة أن يخرج إلى هولاكو لإتمام الصلح، وأخبره بأنَّ هولاكو سيزوّج ابْنَتَهُ منِ ابن الخليفة تتويجًا للصلح[13].


فخرج إليهم الخليفة في سبعمائة راكبٍ من القضاة والفقهاء ورؤوس الأمراء والدولة، فلمَّا اقتربُوا من مُعَسْكَرِ هولاكو حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، وأُنزل الباقون عنْ مراكبهم وقتلوا عن آخرهم[14].

وأُحضر الخليفة المستعصم بين يدي هولاكو، واضطربَ من هولِ ما رأى من الإهانة والجبروت، فوضعوه في كيس ثم أخذوا يرفسونه حتى مات[15]، وقتلوا معه ابنيه الأكبر والأوسط، وأسروا ابنه الأصغر وأخواته الثلاث، وألفًا من بنات بني العباس، وقتلوا أكابر الدولة؛ حتى إن الرجل كان يُستدعى من دار الخلافة، فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهبون به إلى المقبرة، فيُذبح أمام أسرته كما تُذبح الشاة، ويأسرون من يختارون من بناته وجواريه[16].

وأعملوا السيوف في الرقاب مدة أربعين يومًا؛ فقتلوا العلماء والخطباء والأئمة وحملة القرآن، وعامة الناس، وتعطلت المساجد والجمعات مدة شهور ببغداد. ولما انقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى في الطرقات كأنها التلال، وفسد الهواء من كثرة الجُثَث، فعمَّ الوباء، وأتى على البقية الباقية المختبئة من سيوف التتار حتى إن خطيبًا بعد انكشاف الغمة استهل خطبته بقوله: "الحمد الله الذي هَدَمَ بالموت مَشِيْدَ الأعمار، وحكم بالفناءِ على أهل هذه الديار"؛ يعني بغداد وما حولها[17].


وها هو التاريخ يعيد نفسه، فالشاشات المرئية تنقل أكوام الجثث المفحمة في العربات والبنايات، كما تنقل صور القتلى في الأزقة والطرقات.

وكعادة أعداء الدّين والملَّة إذا تمكَّنوا، فإنهم يطأون جميع من تمكَّنوا منهم حتى من أعانوهم على ظلمهم بخيانة المسلمين ومصانعة أعدائهم، وهكذا فعل التتار بابن العلقمي الخائن، فأذاقوه خِزْي الدنيا قبل عذاب الآخرة. ولم يكافئوه على معونته لهم، وخيانته لأهل الإسلام إلا بالإهانة والاحتقار؛ حتى إن المغولي كان يأتي إليه وهو جالسٌ في مجلسه، فيدخل بخيله في مجلسه، فتبول الخيل على فرشه وبساطه، ويصيبه شيء من رذاذ بولها وهو لا يقوى على الاعتراض من شدة الذل والهوان[18]، وقد رأته امرأة من أهل بغداد في ذُلِّه هذا فقالت له: "يا ابن العلقمي.. هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!"، فوقعت كلمتها في قلبه، وانقطع في داره إلى أن مات كمدًا وضيقًا، وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط من خيانته الشنيعة، وما مات حتى رأى بعينيه، وسمع بأذنيه ما لا يُوصف من الذل والإهانة من المغول ومن المسلمين على حد سواء[19].


وهكذا يفعل أعداء الله تعالى بمن خانوا دينهم وأمتهم، يُذلونهم ويهينونهم، ولا يقيمون لهم وزنًا، ولو أظهروا خلاف ذلك أمام الناس.

ولا يسلم الخائن لأمته من ذل يراه في الدنيا ولو طال به المقام، ويُسلط الله تعالى عليه بسبب خيانته وظلمه من يهينه ويظلمه؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129].

أسأل الله تعالى أن يحفظنا والمسلمين من تحول عافيته، ومن فجاءة نقمته، ومن جميع سخطه، كما أسأله تعالى أن يحفظ بلاد المسلمين من كيد أعدائهم إنه سميع مجيب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.


الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عِبَاد الله وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه، فإن أخذه أليم شديد: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].


أيها الناس: لئن كان عُبَّاد الصليب قد وطئت أقدامهم مدينة السلام، وعاصمة الإسلام في يوم من الأيام، وأحلُّوا فيها الدمار والفوضى، ويريدون نهب خيراتها وأرزاقها؛ فإن لهم يومًا من أيام الله تعالى سيُخرجون منها كما أُخرج غيرهم، وستُكسر جيوشهم التي ترى أنها أحرزت نصرًا عظيمًا بعد سقوط بغداد في أيديهم، نسأل الله تعالى أن يُعجِّل ذلك بمنِّه وكرمه، والتتار ما مكثوا عقب اجتياحهم لبغداد إلا سنتين فقط حتى كَسَرَهُم المسلمون في عين جالوت، فلم تقم لهم قائمة بعدها[20].


وأعظم انتصار يحققه المسلم في مثل هذه المِحَن والأزمات: ثباته على الحق، واستمساكه بدينه، ولو رأى أن الأمور تجري على خلاف ما يريد ويتمنَّى. أمَّا الذين لا يعرفون دين الله تعالى إلا في الرخاء، ويتخلَّون عن ولائهم لأمتهم في الشدائد؛ حِفاظًا على مكاسب دنيوية، أو خوفًا من عدو غاشم، أو اعتقادًا بأن الأمة لا تنتصر، أو أن إمكانيات العدو الهائلة لا تُقهر؛ فهؤلاء عليهم أن يراجعوا إيمانهم ويقينهم بالله تعالى وبقدرته وعظمته وجبروته، وليعلموا أن هذه المِحَن والأزمات هي معامل التصفية التي تميز الخبيث من الطيب، وتبين من كان انتماؤه لأمته إنما كان لأجل أنه يرجو نصرها، فإذا انكسرت في موقعة من المواقع انكسر إيمانه معها،وذهب يقينه، وضعف انتماؤه وولاؤه لإخوانه المسلمين. وتلك هي نفوس الضعفاء الذين يُسقطهم التاريخ من حسابه.


وإذا كان أفاضل البشر من النبيين والمرسلين قد عُذِّبوا وأوذوا، وطُورد أتباعهم وقتلوا، وزُلزلوا زلزالاً شديدًا، ولم يبدّلوا مواقفهم أو ييأسوا من نصر الله تعالى حتى جاءهم فرج الله تعالى بعد حين، فإنَّ أتباع الرسل كذلك يُبتلون، والواجب عليهم عدم اليأس والقنوط، واليقينُ بوعد الله تعالى ونصره لهذه الأمة المباركة ولو طال الزمن، وانتفش الباطل وأهله، وسواءٌ أدركنا ذلك أم لم ندركه.

إن من الناس من يتخذ دين الله تعالى وسيلة، ويجعل الغاية النصر والتمكين، فإذا لم تتحقق غايته تخلى عن الوسيلة، وبدَّل دينه، وغيَّر مواقفه، ولربما والى أعداء الله - تعالى- لأنه يراهم أقوى، وعادى إخوانه لأنهم الأضعف، فهذا انهزام معنوي مقيت. والواجب أن تكون غاية المسلم إقامة دين الله تعالى والثبات عليه في السراء والضراء، وفي العُسْر واليسر، فهذا هو الصدق مع الله تعالى الذي ينال به العبد رضاه وجنته، ويكون حريًّا بالنصر والتمكين.


وما أحوج الأمة في هذه الظروف العصيبة إلى التوبة من الذنوب، وصدق التعلق بجناب الله تعالى والعناية بصلاح القلوب، واستقامة الأحوال والأعمال، ومعرفة حقيقة أعداء الله تعالى من كُفًَّار ومنافقين، وإعداد العدة اللازمة لجهادهم، وردِّ عدوانهم وأذاهم عن المسلمين؛ فما دخل الكافرون بلدةً إلا أفسدوها، وأحلوا الفوضى فيها، وجعلوها سلبًا ونهبًا على عكس ما يعلنون، وما وُجد منافقون في أمةٍ إلا خانوها في أصعب الساعات، وأحرج الظروف، والتاريخ والواقع يشهدان بذلك.

أسال الله تعالى أن يجبر مصاب المسلمين، وأن يحفظهم من كيد أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وأن يمنَّ علينا وعلى المسلمين بالثبات على الحق إلى الممات غير مبدلين ولا مغيرين، إنه نعم المولى ونعم النصير.

ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم.

[1] ابتدأت هذه الحرب الظالمة على العراق في ليلة الخميس 17/ 1/ 1424هـ، ودخلت القوات الأمريكية بغداد في يوم الأربعاء 7/ 2/ 1424هـ، وقبل هذه الحرب كانت هناك مناطق حظر جوي، وأراض عِدَّة في جنوب العراق قد انتزعت من العراق إضافة إلى الحصار والتجويع الذي فُرض عليها منذ حرب الخليج الثانية عام 1411هـ، مدة ثلاث عشرة سنة، مات من جرائه أكثر من مليون طفل عراقي من سوء التغذية والأمراض، وتم إفقار شعب العراق طوال هذه المدة، كان الله تعالى في عون المسلمين هناك، وأعظم لهم الأجر في مصيبتهم.
[2] سقطت بغداد فجأة ومن دون مُقَدّمَات، واختفت القيادات البعثية في العراق، وذاب الجنود في الناس، واختلفت الآراء حول هذا السقوط المفاجئ والمُحَيِّر؛ لأن الناس كانوا يتوقعون مُقاومة طويلة وشرسة تمتد إلى أشهر قبل أن يستولي الأمريكان والبريطانيون على بغداد، كيف! وبلدات صغيرة في العراق كأم قصر والفاو وغيرها صمدت أسابيع، وكبدت القوات الغازية خسائر كبيرة، وأهم الاحتمالات التي يتداولها الناس والمُحَلِّلُون إزاء هذا السقوط المفاجئ ثلاثة:
الأول: أن القيادة العراقية عقدت صفقة مع القوات الغازية يخرج بموجبها صدام حسين وأزلامه من العراق خفية، مقابل استيلاء القوات الغازية على بغداد ووقف كل أشكال المقاومة النظامية، وأصحاب هذا الاتجاه يدخلون روسيا في اللعبة، ويرون أنها متفقة مع أمريكا في ترتيب ذلك مقابل حفظ مصالح روسيا في العراق بعد احتلاله، وقبل ثلاثة أيام نشرت الصحف أن وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد صرح بأنه سيتصل بهاتف صدام الشخصي يدعوه فيه للاستسلام، وقبل سقوط العراق بأيام قليلة قامت رايس مستشارة الرئيس الأمريكي بزيارة إلى موسكو، قيل إن هدف هذه الزيارة ترتيب الصفقة بين روسيا وأمريكا وحزب البعث، وهدف الأمريكان من هذه الصفقة هو الاستيلاء على بغداد بأقل قدر ممكن من الخسائر، ولاسيما أنهم خسروا الكثير من الجنود في اقتحام البصرة والفاو وأم قصر، ومطار بغداد، وكان السفير الروسي قد خرج من بغداد باتجاه سوريا، وتم قصف قافلته، وجرح السفير؛ ظنًّا أن معه القيادة العراقية، ثم رجع السفير مرة أخرى وهو مجروح إلى بغداد، وهذا الرجوع محل ريبة وشك، وقبل يوم أو يومين من سقوط بغداد تعمدت القوات الأمريكية قصف مقر الصحفيين والإعلاميين وحجزهم عما يجري في بغداد؛ مما يدل على أن ثمة أمرًا يدبر.
وبعض أصحاب هذا الاتجاه يجعل كل العملية من أولها إلى آخرها مسرحية متفقًا عليها بين صدام وأمريكا، وأنه عميل قديم لهم، ويدعمون ذلك بعدم احتياطات بغداد بضرب الجسور التي على المناطق المحيطة ببغداد، وإشعال الحرائق في آبار النفط؛ لكي تعيق تقدم القوات الغازية؛ ولئلا يستفيد منها الأمريكان بعد انتزاع بغداد، وكل ذلك لم يحصل، والبعض الآخر يجعل هذا الاتفاق تم بعد معارك مطار بغداد التي سبقت السقوط بأسبوع تقريبًا حيث سقط ضحايا كثر من الطرفين.
الثاني: أن صدام وزبانيته من أعضاء حزب البعث قد قتلوا في غارة مخطط لها، وتم الاتفاق مع القيادات الأخرى على الاستسلام مع ضمان خروجهم سالمين من العراق.
الثالث: أنها عملية تكتيكية من العسكريين العراقيين؛ ليجعلوا الغزاة يتدفقون إلى بغداد، ثم تتم محاصرتهم والإثخان فيهم، وهذا بعيد جدًّا، وكل يوم لا يحصل فيه شيء يكشف عدم صحة هذا الاحتمال، والله تعالى أعلم بواقع الحال.
[3] كان سقوط بغداد في أيدي التتار في شهر صفر عام 656هـ، واختلف المؤرخون في عدد القتلى فمنهم من قال: مليون نفس، ومنهم من قال: مليونان، ومنهم من قال: ثمانمائة ألف نفس...
[4] انظر: "تاريخ الطبري" (2/ 329 و 376)، و"تاريخ خليفة" (1/ 118)، و"تاريخ بغداد" (1/ 26)، و"معجم البلدان" (1/ 457).
[5] "تاريخ الطبري" (4/ 458)، و"المنتظم" (8/ 72)، و"الكامل" (5/ 167)، و"النجوم الزاهرة" (1/ 340).
[6] "تاريخ بغداد" (1/ 58)، و"البداية والنهاية" (10/ 101)، و"معجم البلدان" (1/ 456).
[7] "تاريخ بغداد" (1/ 45)، و"معجم البلدان" (1/ 463)، و"وفيات الأعيان" (7/ 252)، و"المنتظم" (8/ 84).
[8] "معجم البلدان" (1/ 461).
[9] "تاريخ بغداد" (1/ 46)، و"معجم البلدان" (1/ 463).
[10] كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري في الجهاد باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2872)، وأبو داود في الأدب باب كراهية الرفعة في الأمور (4802)، والنسائي في الخيل باب السبق (6/ 227).
[11] "الكامل" (10/ 491).
[12] وصار العساكر من جراء ذلك يسألون الناس في الأسواق والمساجد، انظر: "البداية والنهاية" (7/ 169)، و"السلوك لمعرفة دول الملوك" للمقريزي (1/ 413)، و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي (187).
[13] انظر: "البداية والنهاية" (7/ 169)، و"تاريخ ابن خلدون" (5/ 542)، و"السلوك" (1/ 412)، و"فوات الوفيات" (1/ 152)، و"تاريخ الخلفاء" (187)، ويجمع المؤرخون على خيانة ابن العلقمي للخليفة العباسي المستعصم.
[14] "البداية والنهاية" (7/ 168)، و"سير أعلام النبلاء" (23/ 182).
[15] "البداية والنهاية" (7/ 169)، و"السير" (23/ 183).
[16] انظر: "البداية والنهاية" (7/ 169)، و"السير" (23/ 184)، وقد ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - أن للخليفة المستعصم عقبًا في وقته في أذربيجان من ابنه الأصغر الذي أسروه، يعني: في وقت الذهبي في القرن الثامن الهجري.
[17] "شذرات الذهب" (5/ 271).
[18] "فوات الوفيات" (2/ 152).
[19] "البداية والنهاية" (7/ 177 - 178).
[20] وذلك في معركة عين جالوت التي قادها القائد المظفر قطز، وكانت يوم الجمعة لخمس بقين من رمضان عام ثمان وخمسين وستمائة للهجرة.






المصدر...


الساعة الآن 02:24 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM